العصر الحديث في منطقة الحدود الشمالية في المملكة العربية السعودية.
إن الحديث عن التطور التاريخي لمنطقة الحدود الشمالية في العصر الحديث مرتبط بالتطور التاريخي الشامل لمناطق المملكة العربية السعودية في الفترة نفسها.
والحديث عن التطور التاريخي في فترة العصر الحديث يشمل الحكم العثماني ثم العهود السعودية الثلاثة؛ ولذا فإن تطور تاريخ المنطقة في العهد العثماني يعني الاستيطان القبلي فيها وهجرة القبائل شمالاً وجنوبًا عبر منطقة الحدود الشمالية وكذلك طرق الحج والقوافل التي تمر بها.
أما في عهد الدولتين السعوديتين الأولى والثانية فيشمل - إضافة إلى ما سبق - الحديث عن دخول المنطقة تحت الحكم السعودي وعلاقات القبائل مع أئمة آل سعود في تلك الفترة.
وأما في عهد المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز رحمه الله - فيتناول الحديث التطور التدريجي تاريخيًا لمنطقة الحدود الشمالية مثل غيرها من المناطق الأخرى في المملكة.
ونظرًا لكون المنطقة في الماضي صحراء جرداء شاسعة لم تعرف كيانًا حضريًا مستقرًا على شكل واحات زراعية أو بلدات، ولم يكن فيها كذلك أي كيان سياسي على شكل إمارة أو ما شابه ذلك؛ لذا فإن الكلام عن تاريخها الحديث في العهد العثماني ومعظم العهد السعودي (الأول والثاني) يعتمد على الاستقرار القبلي المؤقت وهجرة القبائل والعلاقات مع القبائل بشكل أساس.
جاءت تسمية المنطقة بـ «منطقة الحدود الشمالية» لأنها إحدى المناطق الإدارية التي تمتد في أقصى شمالي المملكة العربية السعودية، وارتباطها بحدود مع كل من دولتي العراق والأردن.
كانت في الماضي تسمى (رمال عالج) كما عُرفت سابقًا أيضًا بـ (وديان المهنا) واختصارًا (الوديان) في حين يطلق على الأجزاء الغربية منها (الحماد) ومن المهم ملاحظة أن اسم (الحماد) واسم (الوديان) يطلقان على كل المنطقة من باب التغليب في كثير من الكتابات، كما أن بعض الخرائط الجغرافية الحديثة لا تزال تطلق على هذه المنطقة اسمي (الوديان) و (الحماد) إضافة إلى اسم الحدود الشمالية .
وقد ذكر الرحالة الفرنسي (تشارلز هوبر) تسمية المنطقة باسم (الوديان) و (الحماد) وكان قد مرّ بمنطقة الحدود الشمالية أثناء رحلته إلى شبه الجزيرة العربية حيث رافق موكب الحج العراقي الفارسي عبر طريق (درب زبيدة) .
العهد العثماني 923 – 1202هـ / 1517 - 1788م
في أوائل العصر الحديث دخلت البلاد العربية في حكم العثمانيين في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي بين عامي 922 و 923هـ / 1516 و 1517م، وشمل ذلك أيضًا غربي شبه الجزيرة العربية وجنوبيها. وكانت طريقة الدولة العثمانية أن تحكم الحواضر والمناطق الرئيسة حكمًا مباشرًا مثل الحجاز واليمن، أما الواحات والبلدات داخل شبه الجزيرة العربية فقد ترك حكمها المباشر للزعامات المحلية من أمراء وشيوخ ما داموا أعلنوا خضوعهم الاسمي للسلطان العثماني، وكذلك الصحارى الشاسعة غير المأهولة، فقد تركت أيضًا لحكم شيوخ القبائل حسب الأعراف والعادات المحلية ما لم يحصل اعتداء على قوافل الحجاج والتجار والمسافرين.
سارت الأمور على هذه الحال طوال العهد العثماني ولم تحتك الدولة مع القبائل البدوية إلا في حالات الاعتداء على القوافل أو الحجاج، فحينئذٍ ترسل الدولة حملات تأديبية إلى من اعتدوا، وينتهي الوضع عند ذلك وتعود الأمور إلى ما كانت عليه .
كانت منطقة الحدود الشمالية واحدة من هذه الصحارى الشاسعة غير المأهولة في شبه الجزيرة العربية، وقد كانت طوال تاريخها الماضي منطقة عبور للقوافل والحجاج. فمنذ العصر العباسي أصبح أهم طريق للحجاج العراقيين يمر بها، وهو الطريق المسمى (درب زبيدة)، وصارت له محطات ومناهل للمياه ومعالم بقيت خدماتها طوال التاريخ الحديث حتى وقت قريب، وقد ذكر الرحالة الفرنسي (تشارلز هوبر) درب زبيدة هذا، وذكر أنه يوجد بالإضافة إليه طريقان آخران لقوافل الحج لا يقلان عنه أهمية:
الأول: درب السماوة الذي ينطلق من السماوة على ضفاف الفرات إلى منطقة الجبل مرورًا بـ (لينة).
الثاني: درب الغزال الذي ينطلق من أي مكان في بلاد ما بين النهرين (الجزيرة الفراتية) ويتجه جنوبًا ويأخذ مساره باتجاه الغرب مارًا بآبار الشبيكة ويخترق النفود .
ويلاحظ أن لينة وآبار الشبيكة موقعان معروفان في منطقة الحدود الشمالية.
وفي رحلة أخرى لهوبر عام 1301هـ / 1884م سلك طريقًا يقع في غربي منطقة الحدود الشمالية في الجهة المسماة (الحماد). هذا الطريق هو أحد الطرق التي كانت تستخدم بين بغداد ودمشق عبر شبه الجزيرة العربية، وهو طريق مهم ويستخدم عادة لنقل البريد بين (بغداد ودمشق) إذ إن بعض أفراد العرب المتناثرين في هذه المناطق يؤمِّنون الخدمة والحماية للمسافرين مقابل أجر. وتسمى بالطريق المباشرة من بغداد إلى دمشق عبر (الحماد)، كما أنها تختصر المسافة إذا توافرت الحماية. ومن الملاحظ أن الرحالة الفرنسي خلال رحلتيه هاتين قد مر بمواقع كثيرة في منطقة الحدود الشمالية، فقد ذكر إضافة إلى لينة وآبار الشبيكة مروره بزبالة والظفيري والشعيبة وهي قرى معروفة هناك
وقد ذكر درب زبيدة أيضًا الرحالة الألماني (البارون إدوارد نولده) مبعوث روسيا أثناء رحلته إلى الجزيرة العربية عام 1310هـ / 1893م فقد عبر منطقة الحدود الشمالية متجهًا من حائل إلى العراق
وهذا يعني أن منطقة الحدود الشمالية كانت عبر تاريخها الحديث تسهم في توفير طرق للحج والتنقل والتجارة بشكل مؤثر عبر اختصار المسافات وتوفير مناهل المياه.
هذه التطورات في طبيعة الاستيطان القبلي والتنافس على مناهل المياه والمراعي في مناطق الوديان والحماد (الحدود الشمالية) أدت في الوقت نفسه أيضًا إلى صراع مع سلطة الدولة العثمانية التي تسيطر على البلاد العربية. وكان الخلاف مع السلطة العثمانية يدور حول أهمية السيطرة على هذه الصحارى الغنية بالمراعي ومناهل المياه آنذاك، حيث كانت منطقة جذب للقبائل بغرض وضع اليد عليها والاستقرار فيها مؤقتًا أو بشكل دائم، ومن ثَمَّ فإن البادية لا تقبل بفرض أي نوع من السلطة المدنية عليها؛ لذا لم تتدخل الدولة العثمانية تدخلاً مباشرًا وتركت لأهل البادية إدارة شؤونهم بأنفسهم. وبما أن طرق عبور قوافل مواكب الحجاج - وأهمها درب زبيدة - تمر عبر الحدود الشمالية، وكذلك قوافل التجارة والمسافرين من العراق والشام عبر الجزيرة العربية، وأن هذه الأمور هي التي تهم ممثلي سلطة الدولة العثمانية، وخصوصًا الإخلال بالأمن في هذه الطرق؛ لذا فإن السلطات العثمانية في الشام والعراق كانت تطارد المعتدين الذين يتخذون من صحارى منطقة الحدود الشمالية الشاسعة ملجأ لهم.
ولهذا فقد قامت معارك وهجمات متبادلة بين القبائل وبين ممثلي الدولة العثمانية في مناطق الوديان والحماد (الحدود الشمالية). وقد شكلت هذه الصراعات فترة زمنية مهمة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري/أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
وكانت صحارى منطقة الحدود الشمالية تمثل ملجأً يهرب إليه الخارجون على سلطة الدولة العثمانية وقُطَّاع الطرق بعيدًا عن مقدرة الحاميات العثمانية على ملاحقتهم؛ لذا فقد كانت الحاميات العثمانية تقوم أحيانًا بمطاردة شيوخ القبائل البارزين وأتباعهم في هذه الصحارى، ففي أحداث قطع طريق واعتداءات من القبائل ورد ذكر شيوخ إحدى القبائل الذين قطعوا الطريق بين بغداد وحلب ونهبوا بريد الدولة العثمانية في منطقة الوديان وحاولت الدولة إرضاءهم فكفُّوا عن هذه الأعمال لفترة، ثم جدّدوا أعمال الإغارة. من هذا يلاحظ أن الصراع كان سجالاً بين السلطة العثمانية والقبائل في منطقة الحدود الشمالية.