يُعرَف بابلو بيكاسو بكونه فنّاناً إسبانيّاً اُشتهرَ في النّصف الأوّل من القرن العشرين، تمكّنَ من عملِ مجموعةٍ ضخمةٍ من الأعمال الفنيّة المتنوّعة التي اكتسبت شهرةً واسعةً، فقد كانَ رسّاماً، ونحّاتاً، وشاعراً، كما ضلعَ في مجالِ صناعة الخزف، والطباعة، وإليه يعود الفضل في إحداثِ تطويرٍ في الرمزيّة والسرياليّة، وقد تأثّرت أعماله بشكلٍ رئيسيٍّ بالفنّ التكعيبيّ، وبأسلوبِ الرسّام الشهير جورج براك، وكانَ أكثر ما يميّزه سعيه للبحثِ عن طُرقٍ مبتكرةٍ لتمثيل العالم، وتنوّعهِ في استخدامِ المواد والتقنيات الفنيّة المختلفة، ما جعله واحداً من أكثر الفنّانين ابتكاراً على مرّ العصور.
وُلِدَ الفنّان بابلو بيكاسو في مدينة مالقة الإسبانيّة في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأوّل عام 1881م،وقد نشأ في ظلّ أسرةٍ فنيّةٍ، إذ كانَ والده رسّاماً رأى في ابنه موهبةً مميّزةً؛ فكانَ أوّل معلمٍ فنيٍّ له، اهتمّ بموهبته، وبتعليمه، فأخذَه في رحلةٍ إلى مدينة مدريد؛ لرؤية الأعمال الفنيّة لأعظم فنّاني إسبانيا القديمة، وحين بلغ الحادية عشرة من عمره بدأ دراسته للفنّ، فرسمَ عدّة لوحات فنيّة لا تزال موجودةً حتى الوقت الحالي خلال فترة مراهقته، لعلّ أشهرها لوحة "أول قربانة" (بالإنجليزيّة: First Communion) والتي رُسِمت عام 1895م.
انتقلت عائلة بيكاسو إلى مدينة برشلونة عام 1895م، بسبب حصولِ والده على منصب جديد كرسّام أكاديميّ هناك، فالتحقَ بابلو بأكاديميّة الفنون المحليّة "لالوتيا" (بالإنجليزيّة: La Llotja) في برشلونة، وخلال سنتين استطاعَ أن يحقّق شهرةً في إسبانيا حين أنهى لوحة "العلم والإحسان" (Science and Charity)، ونال بذلك تكريماً في معرض الفنون الجميلة القائم في مدريد، وفي عام 1900م أُقيمَ أوّل معرضٍ لأعماله الفنيّة في مدينة برشلونة، وكانَ عمره حينها لا يتجاوز التّسعة عشر عاماً، وفي ذات العام قرّرَ بيكاسو أن يزور باريس لرؤية المتاحف والمعارض الفنيّة، وتكررت زيارته لها عدّة مرّات حتى استقرّ فيها عام 1904م.
مرّت حياة بابلو بيكاسو الفنيّة بعدّة فتراتٍ، لكلّ منها طابعها الخاصّ، وهيَ كما يلي:
بدأت هذه المرحلة في أواخر سنوات مراهقته، وذلكَ عام 1901م، واستمرّت حتى عام 1904م، وفي هذه الفترة ساد في لوحاته طابع الظلمة والحزن، فقد خلّف انتحار صديقه المقرّب "كارلوس كاساجيماس" أثراً بالغاً في نفسه، إضافةً إلى الاضطرابات العاطفيّة التي مرّ بها، والعوز الماليّ الذي كانَ يعاني منه.
تميّزت لوحات بيكاسو في هذه الفترة بكونها لوحاتٍ أحاديّةَ اللون، تظهر فيها الخطوط الدّاكنة والسّميكة، وتهيمن عليها الظلال المختلفة باللونين الأزرق والأزرق المخضر، كما يغلب عليها طابع الكآبة والحُزن، كاللوحاتِ الرمزيّة التي ظهرت في كلٍّ من إسبانيا وفرنسا، لعلّ أشهرها لوحة المأساة (بالإنجليزيّة: The Tragedy)، والتي تظهر ثلاث شخصيّات شديدي النحافة، وبقامات طويلة بشكل مُلفتٍ تقف على شاطئ فارغ، إضافةً إلى لوحة البورتريه التي رسمها لنفسه والتي تظهره كشخصٍ أكبرَ بكثيرٍ من عمره الواقعيّ البالغ آنذاك 20 عاماً.
بدأت الفترةُ الورديّةُ في حياة بيكاسو عام 1904م وانتهت بحلول عام 1906م، وتميّزت اللوحات في هذه الفترة باستخدام ألوانٍ أكثرَ إشراقاً، كاللون الورديّ، والأحمر، والبني، أمّا المواضيع التي ركّزت عليها فقد كانت مرتبطةً بمهرجي وبهلوانات السيرك، إذ كانت تظهرهم بصورةٍ هادئةٍ، وغير مألوفةٍ، خاليةٍ من الاستعراضات الفنيّة، لذا يُطلق على هذه الفترة أيضاً "فترة السيرك"، ومن الأسباب التي دعت إلى ظهور هذه الفترة في حياة بيكاسو الفنيّة تأثّره بسيرك ميدرانو الذي أُقيم في حيّ مونمارتر الباريسيّ، حيث شعرَ بترابطٍ مع مؤديي الفنون في السيرك، لكونه يشببهم في غربتهم وتقديمهم للفنّ، ومن لوحاته الشهيرة في هذه الفترة لوحة عائلة سالتيمبانك (بالإنجليزيّة: Family of Saltimbanques) التي رسمَها عام 1905م.
بدأت المرحلة التّكعيبيّة بعدَما التقى بيكاسو بالرسّام الشهير جورج براك عام 1906م، حيثُ بدأت الأشكال في لوحاته تبدو أكثر عمقاً وغموضاً، واتّجهت لوحاته نحوَ الفنّ التكعيبيّ، وهو أسلوب يهتمّ بدراسة الأشياء، وتحليلها، وإظهارها بصورتها المجرّدة، وتتضمّن هذه العمليّة مرحلتين، هما: التحليل ثمّ التركيب، وفي هذه المرحلة كانَ بيكاسو يعتقد بأنّ العمل الفنيّ حتى يكون قيّماً فهوَ غير مقتصر على إظهار صورة الواقع فقط، كما كانَ مقتنعاً بأنّ الصور تمتلك أكثر من جانب، ومن أهمّ أعمال بيكاسو في المرحلة التكعيبيّة لوحة ثلاثة موسيقيين (بالإنجليزيّة: Three Musicians) التي أتمّها عام 1921م، وتمكّن بالتعاون مع جورج براك من استحداث العديد من التقنيات الفنيّة الجديدة من أهمّها تقنية الكولاج أو ما يسمى بالفنّ التلصيقيّ (بالإنجليزية: collage).
توجّه بيكاسو في فترة من حياته للعمل في إنتاج الباليه والمسرح وذلك منذ عام 1916م، أمّا الفترة الممتدة ما بينَ عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، فقد طغى الطابع الكلاسيكيّ على أعماله، فأصبحَ مهتمّاً بإظهار الإنسان بأسلوب كلاسيكيٍّ جديدٍ، كما ركّز على الشّخصيات، وأعطاها معنى فريداً بها، وقد ظهرتْ لوحاته بطابعٍ محافظٍ مرتبطٍ بفترةٍ اجتماعيّةٍ كانت شائعةً في فترة العشرينيّات من القرن الماضي، والتي أُطلق عليها اسم "العودة إلى النظام" (بالإنجليزيّة: rappel a l'ordre)، وفي عام 1925م أصبحت أعماله متأثّرة بالحركة السرياليّة، وأصبحت ذات طابعٍ تعبيريّ، وعنيفٍ، وشهوانيّ، ويُعتقد بأنّ هذه المرحلة من حياته الفنيّة تأثرت بشكلٍ جليّ، بسبب انفصاله عن زوجته الأولى أولجا خوخلوفا، وبِدء علاقةٍ جديدةٍ مع ماري تيريز والتر، حيث ربطَ بعض النقّاد تغيّر أسلوب بيكاسو في رسمِ لوحاته بتغيّر في علاقاته الرومنسيّة.
أوجدت أعمال بيكاسو في مجال التكعيبيّة الحديثة مجموعةً من القضايا التّصويرية، وبعض الأدوات والمناهج الجديدة، والتي استمرّت حتى خمسينات القرن العشرين، وبعدَ وفاته وُجدَ في حوزته العديد من لوحاته الفنيّة، فقد كانَ يحتفظ بلوحاته التي لا يحتاج لبيعها، كما وُجدَ بحوزته العديد من الأعمال الفنيّة لبعض الفنانين المشهورين المعاصرين له، مثل هنري ماتيس، ومن الأماكن التي تعرضُ لوحات بيكاسو "متحف بيكاسو" في باريس، والذي حصلَ على اللوحات بعدَ وفاته، ومتحف "بيكاسو ملقا" الذي افتُتح عام 2003م في مسقط رأسه في مدينة مالقة الإسبانيّة.
تركَ بابلو بيكاسو بعدَ وفاتهِ إرثاً فنيّاً عظيماً، فقد أنجزَ خلال حياته 45 ألف عمل فنيّ، شملت هذه الأعمال على 1885 لوحةً فنيّةً، و1228 عملاً نحتيّاً، و7089 رسمةً، و30 ألف مطبوعة، و3222 عملاً من أعمال الخزف، وتركَ خلفه مجموعةً واسعةً من الكتب المصوّرة، والألواح النحاسيّة، والمنسوجات، ولكونه فنّاناً متجولّاً، فقد تنقّلَ بين عشرين منظقة خلال الفترة الممتدة من عام 1900م وحتى عام 1973م، وبفضل ثروته الكبيرة تمكّن من امتلاك قصرين، وثلاثة منازل، وفيما يلي بعض أعمال بيكاسو الفنيّة الشهيرة:
يُعدّ بابلو بيكاسو أحدَ أكثرِ الفنانين شهرةً في القرن العشرين، فقد أحدثَ تأثيراً كبيراً خلال حياته، وصُنّف فنّه بأنّه فنٌّ متحررُ من قيود الماضي، وذلك بفضل رؤيته المتفرّدة للحداثة التي استطاعَ من خلالها أن يتوصّلَ لأسلوب فنيٍ جديدٍ، إذ لم يكن مقيّداً بحدودٍ أسلوبيّةٍ معيّنةٍ كبعض الفنانين المشهورين آنذاك، مثل هنري ماتيس وجورج براك، ما جعله معرّضاً للانتقاد وسوء الفهم، إلا أنّه وفي ثمانينيّات القرن الماضي حظيت لوحاته بالتقدير والاهتمام، وأحدثت تأثيراً كبيراً على الفنّانين الصاعدين وقتذاك
اقتصرَ بيكاسو على رسم البورتريه باستخدام ألوانٍ مبهجةٍ في الفترة الأخيرة من حياته، وقد لاقت هذه الأعمال الانتقاد، وعُدّت أعمالاً ضعيفة نسبةً لأعماله السابقة، إلا أنّها تلقّت القبول والتّرحيب فيما بعد، كما اهتمّ بتجديد بعض اللوحات الكنسيّة الشهيرة بأسلوبه الخاصّ، مثل: لوحات نيكولا بوسان، ودييغو فيلاثكيث، وإل غريكو، وصنعَ العديدَ من التّماثيل الخزفية والبرونزيّة، وكانَ يميلُ إلى الابتعاد عن الشّهرة في ذلك الوقت، ومن الجدير ذكره أنّه في عام 1961م تزوّجَ من جاكلين روكي، وتوفيَ بنوبةٍ قلبيّةٍ عام 1973م في جنوب فرنسا،وكانَ يبلغ حينها واحداً وتسعين عاماً.