عهد الدولة السعودية الأولى في المملكة العربية السعودية.
كان إقليم نجد حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) في حالة تفكك سياسي يسودها صراع دائم حول السلطة بين أمراء المدن بعضهم مع بعض، وبينهم وبين القبائل المحيطة بمدنهم التي كانت تغير على مزارعهم فتنهبها في حالة الجدب، ويمكن أن نُرْجِع حالة انعدام الاستقرار وفقدان الأمن في بلاد نجد في تلك الفترة إلى عدم وجود حكومة واحدة تربط الإقليم في وحدة سياسية، وكانت العلاقة السياسية بين نجد والحجاز تتأرجح بين حالتي السلم والحرب . وعندما أراد الله تعالى لبلاد نجد خاصة والجزيرة العربية عامة الاستقرار والأمن والرخاء هيَّأ لها رجالاً مخلصين قادوها إلى بر الأمان دينيًا وسياسيًا، وتَمثَّل ذلك بقيام الدولة السعودية الأولى عام 1157هـ / 1744م
إن صلة نجد بالحرمين الشريفين مرتبطة بمكانتيهما الدينيتين، وحاجة الناس في نجد إلى زيارة مكة المكرمة لأداء فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، وأداء مناسك العمرة، بالإضافة إلى زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، كما أن نجد تعد حلقة وصل بين شرق شبه الجزيرة العربية وغربها، وشمالها وجنوبها منذ عصور مبكرة وعلى مر العصور الإسلامية
وكما عرفنا سابقًا فقد خضعت مكة المكرمة للحكم العثماني منذ عام 923هـ / 1517م، واستمر حكم الأشراف للحجاز في ظل ذلك الحكم، وكانت قوات الأشراف تغير بين وقت وآخر على بلاد نجد، وقد أوجس الأشراف خيفة من قيام الدولة السعودية، ولذلك فإن تلك الغارات التي كانت تقوم بها جيوش حكام الحجاز من الأشراف بمساعدة من الدولة العثمانية توقفت منذ قيام الدولة السعودية الأولى، نظرًا لقوة الدولة الجديدة في نجد وصمودها في وجه الأعداء، فتحولت تلك الغارات إلى علاقات سلمية في كثير من الأحيان
وقد تأكدت هذه العلاقات الطيبة بين نجد والحجاز عندما كتب الشريف أحمد بن سعيد 1184 - 1186هـ / 1770 - 1773م إلى الإمام عبدالعزيز بن محمد رسالة يطلب فيها إرسال أحد علماء الدعوة لشرح أصول الدعوة الإصلاحية في الدولة السعودية، فأرسل إليه الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحصين ، وذلك في عام 1185هـ / 1771م ، فأبدى علماء مكة المكرمة ومنهم: يحيى بن صالح الحنفي، وعبدالوهاب بن حسن التركي، وعبدالغني بن هلال ومعهم الشريف أحمد بن سعيد، قبولاً جيدًا لهذه الدعوة التي قامت على تطبيق أحكام كتاب الله والسنة النبوية، ومحاربة البدع والخرافات، كما أن الشريف أحمد أذن لأتباع الدولة السعودية بالحج واستقبلهم عند قدومهم إلى مكة المكرمة
استمرت هذه العلاقات الطيبة بين حكام الحجاز وحكام الدولة السعودية فترة من الزمن، ولدعم هذه العلاقة الودية بين الطرفين، فقد أهدى الإمام عبدالعزيز في عام 1197هـ / 1782م للشريف سرور بن مساعد 1186 - 1202هـ / 1772 - 1788م عددًا من الخيول، ولعله أراد بذلك تقوية العلاقات بين الطرفين، والعمل على تسهيل أداء مناسك الحج لسكان المناطق الخاضعة للدولة السعودية الأولى الذين منعوا من أداء فريضة الحج خلال فترات حكم الشريف مسعود بن سعيد ومساعد بن سعيد، وقد قبل الشريف هدية الإمام عبدالعزيز، وحج في ذلك العام نحو ثلاثمئة من سكان المناطق التابعة للدولة السعودية ، وقد استمرت هذه الصلات الحسنة بين الطرفين حتى وفاة الشريف سرور ومجيء الشريف غالب بن مساعد لحكم الحجاز
استهل الشريف غالب 1202 - 1228هـ / 1788 - 1813م حكمه للحجاز بإرسال رسالة إلى الإمام عبدالعزيز في سنة 1204هـ / 1790م، ذكر فيها أنه يريد من الإمام عبدالعزيز إرسال أحد علماء الدعوة الإصلاحية، فأرسل إليه الشيخ عبدالعزيز الحصين، ومعه رسالة من الشيخ محمد بن عبدالوهاب يبين فيها حقيقة دعوته . فقدم الشيخ عبدالعزيز الحصين إلى مكة المكرمة فأكرمه الشريف غالب، ودارت المناقشات بين الشيخ وعدد من علماء مكة المكرمة بحضور الشريف غالب، فتبين للجميع حقيقة الدعوة الإصلاحية. وخلال هذه الفترة تمكن أتباع الدعوة السلفية من نشرها بين القبائل الحجازية داخل منطقة مكة المكرمة وفي البلاد البعيدة عنها، مثل قرى: رنية وبيشة وتربة والقنفذة وحلي، ووجدت الدعوة لها في هذه البلدان أتباعًا كثيرين، وشكلوا قوى مساندة للسعوديين في نـزاعهم مع الأشراف، بل إن بعض تلك القبائل اشتبكت في نـزاعات مسلحة مع قوات الشريف غالب. وعلى الرغم من اقتناع الشريف غالب بحقيقة الدعوة الإصلاحية وصدق منهجها وموافقتها للشريعة الإسلامية، إلا أنه خشي امتدادها إلى الحجاز وما ستؤدي إليه من إظهار لسلبيات حكمه، ولذلك عقد العزم على مجابهة الدولة السعودية وما تحمله من مبادئ الدعوة الإصلاحية، ولتحقيق ذلك أعد جيشًا كبيرًا جعل قيادته لأخيه الشريف عبدالعزيز ، وصل به إلى أرض السر غرب الرياض في أوائل سنة 1205هـ / 1791م، فأقام هناك مدة أربعة أشهر، كان خلالها يقوم بتأليب القبائل على الدولة السعودية . ومن هنا نلاحظ أنه بتولي الشريف غالب السلطة في مكة المكرمة بدأت العلاقات السياسية بين الدولة السعودية الأولى والحجاز في التوتر واستمرت طوال فترة حكمه تقريبًا
لقد كان الإمام عبدالعزيز بن محمد خلال هذه الفترة يرقب الموقف، لأنه كان منشغلاً في صد بعض التحركات القبلية في الشمال الشرقي من دولته، إلا أنه بعد أن فرغ من القبائل هناك قام بإعداد جيش كبير جعل قيادته لابنه الأمير سعود، حيث هاجم جيش الشريف عبدالعزيز بن مساعد في منطقة السر، فأنـزل به خسائر كبيرة في الرجال والعتاد؛ ما أدى إلى تراجعه والاستعداد لإعادة الهجوم على الجيش السعودي . وبعد مدة شعر الشريف عبدالعزيز وجيشه بحالة من الملل واليأس ففكر في الانسحاب، وذلك نتيجة لطول الفترة التي قضاها في نجد، بجانب صعوبة الطقس في الإقليم، وقوة المقاومة التي لقيها من الجيش السعودي، وعدم قبول سكان نجد التبعية لحكم الشريف لفرضه الإتاوات الباهظة عليهم، وعدم قيامه بأي نوع من الإصلاحات في بلدانهم خلال خضوعهم السابق له، وعلى الرغم من كل ذلك أراد الشريف عبدالعزيز أن يبين لأخيه الشريف غالب مدى صعوبة الموقف الذي يواجهه في نجد، فلم يجد وسيلة إلا أن يخدع أخاه، ويطلب منه مساعدته، مدعيًا أنه في موقف المنتصر، فما كان من الشريف غالب إلا أن هبّ لنجدته، فسار في رمضان سنة 1205هـ / 1791م إلى نجد على رأس جيش كبير قاده بنفسه، وتوجه به إلى أن التقى بأخيه عبدالعزيز في قرية الشعراء، وما إن وصل إلى ذلك المكان حتى أدرك عدم صحة الانتصارات المزعومة، وخاف أن يقع هو وجيشه غنيمة للجيش السعودي، فقرر على الفور العودة إلى الحجاز دون تحقيق أي انتصارات تذكر وذلك لصمود القوات السعودية، والتفاف القبائل حول القيادة في الدولة السعودية الأولى، يضاف إلى ذلك قرب حلول موسم الحج، وهو ما يتطلب وجود الشريف في مكة المكرمة لاستقبال الوفود والمحامل التي تحمل معها الأموال والهبات وكسوة الكعبة الشريفة
لقد أدرك الشريف غالب بعد هذه الحملة أنه بدأ يفقد هيبته ومكانته بين سكان المنطقة، وعدم ثقة أعوانه به؛ ما جعله يعيد الكرّة مرة أخرى ويجهز قوة جديدة لمحاربة الدولة السعودية عام 1210هـ / 1795م، وجعل قيادة هذا الجيش للشريف فهيد بن عبدالله، وقد انضمت إليه بعض عشائر الحجاز التي استعان بها، فلبت طلبه خشية بطشه أو رغبة في كسب الغنائم. وقد سار جيش فهيد فهاجم عشائر من قحطان بقيادة هادي بن قرملة، وكان نازلاً على مورد ماء يسمى (ماسل) في عالية نجد، وبعد قتال عنيف انهزم هادي بن قرملة بعد أن قتل من قبيلة الجحادر القحطانية نحو ثلاثين فارسًا ، كما قتل من جيش الشريف مثلهم تقريبًا، ثم عاد جيش الشريف فهيد إلى مكة المكرمة مكتفيًا بما حققه من انتصار على جيش هادي بن قرملة الذي كان الهدف منه محاولة إضعاف سلطة الدولة السعودية الأولى
ويظهر أن هذا الانتصار شجع الشريف غالبًا على معاودة حربه لقبائل نجد وبلداتها، ففي العام نفسه 1210هـ / 1795م أرسل الشريف جيشًا آخر بقيادة ناصر بن يحيى توجه به إلى الجهات الغربية من نجد . وما إن علم الإمام عبدالعزيز بتحرك جيش الشريف ناصر حتى سارع إلى تجهيز جيش كبير بقيادة محمد بن ربيعان ومعه عربان عتيبة، وفيصل الدويش ومن تبعه من مطير، وعند ماء الجمَّانية انضمت الجيوش السعودية جميعها تحت لواء هادي بن قرملة، وأخذت تضرب مواقع جيش الأعداء؛ ما أدى إلى انهزام الشريف ناصر بن يحيى وجيشه، وقد غنم الجيش السعودي إبلهم، وأغنامهم، وأمتعتهم
إن هذه الحملة والحملات السابقة على الرغم من تكبدها خسائر كبيرة، إلا أنها لم توقف النوايا العدوانية للشريف غالب ضد الدولة السعودية، ولم يكتف بمنع النجديين من أداء فريضة الحج، بل أخذ يعد العدة ويرقب الموقف ويتحين الفرص للانقضاض على من يعدُّهم أعداءً له، ذلك لأنه كان يخشى قيام دولة قوية موحدة في شبه الجزيرة العربية ربما تمد سلطتها إلى المناطق الحجازية، فما إن علم بانشغال الإمام عبدالعزيز وابنه الأمير سعود في إخضاع المناطق الشمالية الشرقية من الدولة السعودية حتى سارع إلى إعداد جيش كبير، جعل قيادته للشريف فهيد بن عبدالله، أغار به في عام 1212هـ / 1797م على بوادي قحطان الموالين للدولة السعودية في شرق الحجاز، فحقق انتصارًا محدودًا هناك، دفع الشريف غالبًا لتوسيع مناطق نفوذه، فأعد جيشًا آخر حاصر به كلاً من رنية وبيشة والخرمة حتى استطاع الاستيلاء عليهن
علم الإمام عبدالعزيز بالأمر، فجهز جيشًا كبيرًا لمهاجمة جيش الشريف غالب، وقد استطاع الجيش السعودي بقيادة هادي بن قرملة دهم مواقع جيش الشريف في الخرمة، وكانت الهزيمة شديدة على جيش الشريف؛ ما جعل قائده ومن بقي من جيشه يلوذون بالفرار تاركين خيامهم ومواشيهم وما ثقل من معداتهم وأمتعتهم . وقد تكبد الشريف غالب إثر ذلك خسائر مادية كبيرة بجانب الخسائر المعنوية، وذلك لأن موقعة الخرمة كانت ضربة قوية له خسر خلالها كثيرًا من الأموال والمعدات والرجال
ومما لا شك فيه أن تكرار مثل هذا الفشل والهزائم الكبيرة التي مني بها الشريف غالب وجيشه قد أثرت في سمعته الحربية ومكانته بين قومه، وأدخلت الشك والرعب في قلوب حلفائه الذين تحزبوا معه طمعًا في كسب الغنائم، بجانب فقدانه تلك الإتاوات التي توفر له أموالاً كبيرة، وتساعده على تموين حملاته وتكرارها
لجأ الشريف غالب بعد ذلك إلى أسلوب المراوغة، فطلب الصلح من الإمام عبدالعزيز ، وقد تم الصلح بين الطرفين في جمادى الأولى 1213هـ / 1798م على أن يسمح لسكان المناطق الخاضعة للدولة السعودية بالقدوم إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ذلك العام وأن يعاملوا معاملة حسنة، مع العمل على تحديد الحدود بين نجد والحجاز، وتعيين تبعية كل قبيلة واقعة على تلك الحدود، ونتيجة لهذا الاتفاق قدم كل من: علي وإبراهيم ابني الشيخ محمد بن عبدالوهاب وإبراهيم بن سدحان، يرافقهم عدد كبير من حجاج المناطق الخاضعة للدولة السعودية الأولى للحج، وبعد أداء العمرة والحج عاد الجميع إلى بلادهم بسلام
واستمرت الصلات الودية بين الإمام عبدالعزيز والشريف غالب في النمو عامًا بعد آخر، واستمرت وفود الحجيج تفد إلى مكة المكرمة من نجد والأحساء، حتى إن الأمير سعود حج لأول مرة عام 1214هـ / 1799م، وكان يرافقه جمع كبير يزيد على عشرين ألفًا من أبناء المدن وسكان البادية من المناطق الخاضعة لحكمه، ومعهم بعض النساء تحملهم كثير من الخيول والركائب ومعهم الأموال الكثيرة. وبعد أداء الحج والعمرة عاد الجميع إلى بلدانهم سالمين . حيث اجتمع الأمير سعود بالشريف غالب خلال إقامته في مكة المكرمة، كما استقبل الأمير عددًا من علماء الحرمين الشريفين، وقد أهدى الأمير للشريف غالب بعض الهدايا خلال إقامته
وفي سنة 1215هـ / 1800م حج الأمير سعود بن عبدالعزيز للمرة الثانية ومعه جموع من أهل نجد والأحساء بادية وحاضرة ومعهم نساؤهم، وكادت تحدث صدامات في مكة المكرمة بين أتباع الشريف وأتباع الأمير سعود، لكن تدخل بعض الوجهاء والأعيان أدى إلى تدارك الأمر دون أن يستفحل، كما قدم الهدايا للشريف غالب وبذل الصدقات لفقراء مكة المكرمة والهبات لأعيانها .
وفي عام 1217هـ / 1802م نقض الشريف غالب الصلح الذي كان قد عقد بينه وبين الإمام عبدالعزيز منذ عام 1213هـ / 1798م، وأخذ يعد العدة لمهاجمة بعض أتباع الدولة السعودية الأولى، ولا سيما الذين يقعون بالقرب من الحجاز سواء من جهة الجنوب أو الشرق. ويظهر أنه لمس قوة الدولة السعودية، وكثرة رعاياها وأنصارها من أمراء المدن ورؤساء القبائل، فخشي أن يتأثر بذلك سكان المناطق الخاضعون لحكمه الذين بلغتهم دعوة الإصلاح وتأثروا بها، فانتهز انشغال الإمام عبدالعزيز في حروبه ضد قوات الدولة العثمانية في العراق، فأراد أن يباغته بحملة قوية على الدرعية، وربما يكون تحرك الشريف جاء بناءً على توجيه من الدولة العثمانية بهدف فتح جبهة مهمة ضد الدولة السعودية تجبر الإمام عبدالعزيز على سحب قواته من المناطق العراقية، وبخاصة بعد أن حقق الله النصر للقوات السعودية في تلك المناطق، إلا أنه من المؤكد أن هزيمة نابليون في مصر، وعودة الحكم فيها إلى الدولة العثمانية قد قوى من شوكة الشريف غالب، وجعله ينقض الصلح معتمدًا في ذلك على دعم السلطان العثماني وولاته في مصر
وما إن علم الإمام عبدالعزيز بتحركات الشريف غالب وما أقدم عليه من نقض الصلح، وما تبع ذلك من تصرفات، حتى أصدر أوامره لقادة القوات السعودية المرابطة على الجبهة الغربية من بلاده بجمع القبائل وتجهيزها والتحرك بها إلى مواقع تجمع قوات الشريف، وفعلاً قامت القوات السعودية في شهر شعبان من عام 1217هـ / 1802م بالتصدي لقوات الشريف واستطاعت تفريق تجمعاتها
وفي هذه الأثناء أرسل الشريف غالب وزيره وصهره عثمان بن عبدالرحمن المضايفي، أحد شيوخ قبائل عدوان في وفد رسمي إلى الدرعية للتفاوض مع الإمام عبدالعزيز بن محمد، من أجل الصلح بين الطرفين، فــقــدم الــمضــايفي إلى الدرعية واتصل بالإمام عبدالعزيز، لكن الشريف غالب تفاجأ بانضمام عثمان المضايفي إلى الدولة السعودية، إذ أعلن المضايفي ولاءه وطاعته للإمام؛ فولاه الإمام عبدالعزيز قيادة الجيش السعودي الموجود في منطقة العبيلا قرب الطائف، وعندما عاد المضايفي من الدرعية إلى الحجاز نـزل في قلعة العبيلا، فانضمت إليه بعض القرى والقبائل المجاورة له، ما جعل الشريف يعد قوة من الموالين له فخرج بهم لمنازلة المضايفي، فدارت بينهما عدة معارك لم يتحقق فيها لأي من الطرفين المتحاربين في البداية أي انتصار على الطرف الآخر ، ما جعل عثمان المضايفي يستنجد بالإمام عبدالعزيز لدعمه بقوات جديدة، فصدرت الأوامر من الإمام عبدالعزيز إلى قائده سالم بن شكبان ومعه قوة من أهل بيشة والقبائل المحيطة به بالمنطقة، كما تقدم جيش سعودي آخر بقيادة مسلط بن قطنان ومعه جموع من أهل رنية وقراها والبادية وقبائل سبيع، وجيش ثالث بقيادة القائد أحمد بن يحيى، ومعه جموع من أهل تربة وقبائل البقوم، وجيش رابع بقيادة هادي بن قرملة ومعه جموع من قبائل قحطان وعتيبة الموالين للدولة السعودية ، وعندها تقدمت الجيوش السعودية بقيادة عثمان المضايفي في اتجاه تجمعات جيش الشريف غالب
تحصن الشريف غالب بقواته في الطائف، فتقدمت نحوه القوات السعودية، ودارت المعارك بين الطرفين، فلم تستطع قوات الشريف الصمود أمام تقدم القوات السعودية، فانهزمت باتجاه مكة المكرمة، فدخلت القوات السعودية الطائف بقيادة عثمان المضايفي ومن معه من القادة السعوديين، فانضم إليهم أهالي الطائف وقبائلها المحيطة بها معلنين ولاءهم وطاعتهم للإمام عبدالعزيز، وكان ذلك في شهر ذي القعدة عام 1217هـ / 1803م
عندما علم الإمام عبدالعزيز بهذه الانتصارات التي حققتها القوات السعودية على قوات الشريف استبشر بذلك، وأصدر أوامره بتولية عثمان المضايفي إمارة الطائف والبلدان والقبائل الحجازية الموالية للدولة السعودية هناك ، وطلب منه الاستعداد لدخول مكة المكرمة بعد حج ذلك العام
لم يكتف الإمام عبدالعزيز بذلك، بل إنه أراد أن يضع حدًا لتحركات الشريف غالب العدائية، فأعد جيشًا كبيرًا جعل قيادته لابنه الأمير سعود، وعندما وصل الأمير سعود إلى الطائف استقبله عثمان المضايفي، وانضم إليه بمن كان معه من قوات فسار الأمير سعود إلى مكة المكرمة، وكان ذلك قبل موسم حج عام 1217هـ / 1802م، ففضل الأمير سعود التوقف في منطقة السيل والتريث، وعدم دخول مكة في وقت الحج، حتى يتيح الفرصة للحجاج لأداء مناسك الحج في أمن وسلام، خصوصًا بعد أن علم أن الشريف غالبًا أخذ في تأليب الحجاج وحثهم على محاربة القوات السعودية بجانب قواته ؛ ما سوف يحول المشاعر المقدسة إلى جبهات قتال بين الطرفين، وقد حالت خطة الأمير سعود وتوقفه في منطقة السيل الكبير دون إراقة دماء في منطقة المشاعر المقدسة؛ ففشلت بذلك خطة الشريف غالب التي أراد بها إشعال الفتنة والقتال بين الحجاج والقوات السعودية في أقدس البقاع مكة المكرمة؛ ما قد يسيء لسمعة الإمام عبدالعزيز وجيشه
وما إن انتهى موسم حج عام 1217هـ / 1802م، وتأكد الأمير سعود من عودة الحجاج إلى بلدانهم، وكان معظمهم من بلاد الشام ومصر والمغرب، بعد أن تراجعوا عن مساعدة الشريف غالب في حربه ضد آل سعود ، حتى بدأ الأمير سعود يستعد لدخول مكة المكرمة مع قواته، ويظهر أن الشريف غالبًا أدرك صعوبة الموقف فأعلن استعداده لتسليم مكة المكرمة، ولتأكيد ذلك غادر مكة المكرمة إلى جدة مع أعوانه حاملاً معه خزائنه وسلاحه، كما غادر معه القائد العثماني وجنوده، وتحصن الجميع هناك ، تاركًا أمر الشرافة في مكة المكرمة لأخيه عبدالمعين، فكتب الشريف عبدالمعين رسالة للإمام عبدالعزيز يطلب فيها الأمان، واستعداده لتسليم مكة المكرمة على أن يبقيه أميرًا عليها، وحمل هذه الرسالة بعض العلماء المكيين وهم: الشيخ محمد طاهر سنبل، والشيخ عبدالحفيظ العجيمي، والسيد محمد بن محسن العطاس، والشيخ محمد الميرغني، وقد اجتمع هذا الوفد بالأمير سعود الذي كان يقيم في وادي السيل بين مكة المكرمة والطائف، فوافق الأمير على طلبهم بعد استشارة والده، وعاد الوفد بعد ذلك إلى مكة المكرمة في يوم الجمعة السابع من المحرم 1218هـ / 30 إبريل 1803م، وعند وصولهم إلى مكة المكرمة قام الشيخ حسين مفتي المالكية بقراءة خطاب الأمان على منبر المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة الذي ينص على قبول انضمام الحجاز إلى الدولة السعودية الأولى بزعامة الإمام عبدالعزيز بن محمد، والموافقة للأمير سعود بدخول مكة المكرمة، وإعطاء الأمان لسكانها، وعلى أثر ذلك تقدم الأمير سعود ومن معه من قوات موالية له إلى مكة المكرمة
وفي الثامن من المحرم دخل الأمير سعود بقواته إلى مكة المكرمة ، وكانوا حينها محرمين ملبين بالعمرة بسلام وأمان دون أي قتال، وتوجه الجميع إلى المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة، وأعلن الأمير سعود في المسجد الحرام الأمان والسلام لأهلها، وقرأ مرة أخرى كتاب الأمان العام الذي يمنح أهل مكة المكرمة وما حولها الأمان، والعمل على محاربة البدع المخالفة للكتاب والسنة . وبذل الأمير سعود هناك الأعطيات والصدقات، كما قام بإبقاء الشريف عبدالمعين بن مساعد أميرًا على مكة المكرمة تابعًا للدولة السعودية الأولى . وقد أقام الأمير سعود بمكة المكرمة أربعة وعشرين يومًا، ثم توجه إلى جدة وأقام في الرغامة؛ وهي ربوة مرتفعة مطلة على شرق جدة، وحاصرها مدّة تسعة أيام، لكنه لم يتمكن من دخولها، وذلك لحصانتها ومناعة أسوارها، ففضل تركها هذه المرة مكتفيًا بما تحقق له من انتصارات كبيرة على جيش الشريف غالب وأعوانه، وعاد إلى مكة المكرمة . وكان الأمير يهدف من محاصرة جدة إلى القبض على الشريف غالب لعدم وفائه لشروط الصلح التي قطعها على نفسه، لكنه فضل عدم الاستمرار في الحصار على أمل العودة بقوات كبيرة لوضع حدٍّ لتلاعب الشريف غالب والمحافظة على أمن المنطقة وسلامتها
وبذلك نجد أن مكة المكرمة والطائف وما حولهما أصبحت جزءًا مهمًا من الدولة السعودية الأولى، فمكة المكرمة لها مكانتها العظيمة في قلب كل مسلم، كما أصبح على حكام الدولة السعودية الأولى مهمة تحقيق الأمن والسلام لحجاج بيت الله الحرام، وضمان تأمين سبل الحج وتسهيلها لكل مسلم يريد أداء فريضة الحج برًا وبحرًا بكل راحة ويسر
قام الأمير سعود أثناء إقامته في مكة المكرمة قام بعدد من التعيينات شملت مناصب إدارية وعسكرية، وإصلاحات مهمة كجمع الإمامة في المسجد الحرام في إمام واحد بعد أن كانت الصلاة تقام وراء أربعة أئمة حسب المذاهب الإسلامية الأربعة الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، كما أمر بإلغاء الضرائب، ومنع الاحتكار وحارب البدع، وهدم القباب التي على القبور، ومنع الطبول والمزامير التي كانت ترافق المحامل في الحج ، وقد عمَّ بذلك الرخاء وتوافر في الأسواق معظم السلع التجارية والفواكه والخضراوات. وبعد أن تأكد الأمير سعود من سلامة الأوضاع في مكة المكرمة عاد إلى الدرعية ليكون بجانب والده بعد أن ترك جزءًا من قواته في مكة المكرمة والطائف لمراقبة الموقف
وخلال وجود الأمير سعود في الدرعية تعرض والده الإمام عبدالعزيز بن محمد لمؤامرة أدت إلى استشهاده في أواخر شهر رجب سنة 1218هـ / 1803م وذلك عندما كان ساجدًا يصلي صلاة العصر في الصف الأول بمسجد الطريف بالدرعية، وبعد تجهيزه ودفنه تمت مبايعة ابنه الأمير سعود بن عبدالعزيز خلفًا لوالده، فأخذ البيعة له بالحكم في الدولة السعودية الأولى، وتوالى على قصره وفود القبائل وأمراء المدن والبلدان معلنين ولاءهم وبيعتهم له
إن مقتل الإمام عبدالعزيز بن محمد، وإن كان كارثة أصابت الوحدة السياسية التي أقامها في نجد والأحساء والحجاز وعسير وجازان وغيرها، إلا أن وجود ابنه الإمام سعود وتسلمه زمام السلطة في الدولة السعودية الأولى مباشرة قد أنقذ المنطقة من وقوعها في حروب ومنازعات واضطرابات ربما تكون نتائجها وخيمة على المنطقة، وذلك لسلامة النهج الذي سار عليه الإمام سعود على خطى والده في إدارة الدولة، وإقامة شرع الله؛ ما أدى إلى استقرار الأوضاع فيها
لقد كانت أهم خطوة خطاها الإمام سعود منذ توليه السلطة هي المحافظة على وحدة البلاد، ونشر الأمن والعدل في ربوعها، ومحاربة الخارجين على طاعته في جميع الجبهات. وما يهمنا هنا هو معرفة كيف أصبح الوضع في الحجاز خلال حكم الإمام سعود بن عبدالعزيز
إن الشريف غالب ما كاد يعلم بعودة الأمير سعود إلى الدرعية، وعودة جزء كبير من القوات السعودية إلى مناطقها، حتى سارع بالتوجه إلى مكة المكرمة وقام بتنحية أخيه الشريف عبدالمعين، وتولى إمارة مكة المكرمة بعد عدد من الاصطدامات بالحامية السعودية المرابطة في مكة المكرمة، وبذلك عاد حكم مكة المكرمة وما حولها إلى الشريف غالب
لقد كان الإمام سعود في تلك الفترة منشغلاً بتنظيم شؤون دولته، ولم يعط تحركات الشريف غالب اهتمامًا كبيرًا، لأن لديه ما هو أهم من ذلك طوال عام 1219هـ / 1804م، لكنه أمر في أواخر هذا العام ببناء قلعة عسكرية في مدخل وادي فاطمة، لتكون بمثابة برج مراقبة لرصد تحركات قوات الشريف، ووضع الخطط لتضييق الخناق على تنقلات قواته وأعوانه، حتى يسهل استسلامه، وقد أثبت بناء القلاع نجاحًا كبيرًا في الخطط الحربية السعودية في نجد وغيرها. وتم الانتهاء من بناء هذه القلعة العسكرية في المحرم 1220هـ / 1805م ، ثم صدرت الأوامر إلى القائد عبدالوهاب بن عامر أمير عسير بالتحرك وضرب قوات الشريف في مواقعها. وقد استطاعت القوات السعودية تحقيق انتصارات كبيرة على قوات الشريف غالب تكبد خلالها خسائر عظيمة؛ ما جعله يطلب الصلح من الإمام سعود، وأكد ذلك بإرسال وفد من قِبله لمقابلة الإمام سعود في الدرعية لإبرام الصلح معه وإعلان الولاء له وإيقاف المعارك. وقد تم الصلح في أواخر عام 1220هـ / 1805م ، ودخلت القوات السعودية مكة المكرمة وكانت على درجة كبيرة من الانضباط احترامًا لقدسية مكة المكرمة، وأعلنت الأمان للناس على أموالهم وأرواحهم وقامت بأداء مناسك العمرة والحج بسلام وأمان، وبهذا الصلح أصبحت مكة المكرمة بل منطقة الحجاز بكاملها جزءًا من الدولة السعودية الأولى بعد أن أعلنت المدينة النبوية في العام نفسه ولاءها للإمام سعود
لقد عمل الإمام سعود منذ ضمه مكة المكرمة على تحقيق مظاهر السيادة الفعلية له ولدولته، وذلك بأخذ البيعة من الأعيان والأهالي في مكة المكرمة، ومن القبائل المحيطة بها أو الواقعة تحت سلطته، كما قام بوضع الحاميات العسكرية على مداخل المدينة المنورة وتزويدها بما تحتاج إليه من مؤن وسلاح وذخائر، لتكون على أهبة الاستعداد لصد أي تدخلات خارجية معادية، والعمل على نشر الأمن والاستقرار في ربوع مكة المكرمة، كما هو الحال في بقية المناطق الخاضعة للدولة السعودية الأولى، مع التأكيد على القبائل الواقعة على الطرق البرية الموصلة إلى مكة المكرمة بعدم التعرض للمسافرين من الحجاج والمعتمرين أو الزوار بأي أذى، أو مطالبتهم بدفع مبالغ مالية مهما كان نوعها، بعد أن أصدر أمره بإلغاء المكوس والضرائب التي كانت تفرضها القبائل على مستخدمي تلك الطرق في جميع المناطق الخاضعة له، وأن من يخالف ذلك يعرض نفسه لأقصى العقوبات التي فرضها الشرع الحنيف
أما القادمون إلى مكة المكرمة من طريق الموانئ البحرية للبحر الأحمر، فإن الإمام سعودًا أبلغ أمراء تلك المدن ورؤساء العشائر بتسهيل استقبال سفن المسافرين والسفن التجارية وتوفير الأمن والسلامة لها حتى وصولها إلى مكة المكرمة، ما أدى إلى زيادة أعداد الحجاج القادمين للديار المقدسة وتوافر المواد الغذائية والسلع التجارية، وكان نتيجة ذلك أن أمنت السبل ورخصت الأسعار وعمَّ الخير ربوع البلاد كافة
كانت حالة الفوضى وعدم الاستقرار هي السمة السائدة في عهد حكم الشريف غالب وغيره من الأشراف، حيث انتشر قطاع الطرق وكثر السلب والنهب والقتل للحجاج والمسافرين، وألزم جميع مستخدمي الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة وغيرها بدفع مكوس عالية جدًا للقبائل، لأن الأشراف كانوا يعتمدون على سلطة القبائل في استمرارهم في حكم مكة المكرمة وما جاورها. كما أن الشريف غالبًا كان يحتكر التجارة القادمة بحرًا لنفسه، ويطالب المكيين بصورة خاصة والحجازيين بصورة عامة بدفع مبالغ باهظة لشراء السلع التجارية والمنتجات الغذائية، أما بعد ضم مكة المكرمة وما حولها إلى حكم الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود فإن المكيين شعروا بالأمن والاستقرار، وأمنت الطرق، وتوافرت جميع السلع التجارية والغذائية بأرخص الأسعار
ولم يكتف الإمام سعود بتحقيق مظاهر السيادة والأمن والرخاء في مكة المكرمة وغيرها من المناطق الخاضعة لدولته، بل اهتم بأن تكون خطبة الجمعة في المسجد الحرام والمساجد الأخرى شاملة لما يحتاج إليه الناس من إرشاد وإصلاح للبناء الاجتماعي المبني على الفهم الجيد لأمور العبادات، وتوعيتهم بما يفيدهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وتحقيق الأمن والعدل الشامل والمساواة بين الناس، وأن يتم التركيز على ذلك في حلقات الدرس والوعظ التي يعقدها العلماء في المسجد الحرام والمساجد الأخرى حتى تعم الفائدة الجميع، مع توحيد الصلاة في المسجد الحرام والمساجد الأخرى تحت إمام واحد، ومطالبة القضاء بالعدل بين الرعية وحل المنازعات بإصلاح ذات البين وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجرمين والفسقة وقطاع الطرق، وكل من يحاول العبث بأمن البلاد واستقرارها
وقام الإمام سعود بتعيين مجموعة من الوعاظ والمرشدين في وظائف الحسبة للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإزالة المخالفات الشرعية .
ونتيجة لذلك أصبحت الأوضاع مستقرة في مكة المكرمة واستمرت طوال عام 1221هـ / 1806م، وكذلك الأعوام التي تليه، وأصبحت سياسة الإمام سعود في مكة المكرمة والحجاز أمرًا لا يتغير ما يعني سلامة النهج الذي سار عليه الإمام سعود في مكة المكرمة وغيرها. كما أن قوافل الحجاج من المناطق الخاضعة للدولة السعودية كانت تفد إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج بكل يسر وسهولة، وقد أصبحت سبل الحج المؤدية إلى الحرمين الشريفين آمنة للحجاج والمعتمرين والزوار كافة، وذلك بفضل من الله ثم بفضل السياسة الحكيمة التي كان يسير عليها آل سعود في إدارة الدولة، المبنية على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فاختفت بذلك المخالفات الشرعية، وضرب كل من تسول له نفسه المساس بأمن البلاد وسلامة الحجاج بيد من حديد، فانتشر الأمن وتوافرت المواد الغذائية بعد أن كانت صعبة المنال
وفي ذي القعدة عام 1222هـ / 1807م وصل الإمام سعود إلى مكة المكرمة، يرافقه عدد كبير من أهالي القصيم، وحائل، والأحساء، وبيشة، ورنية، وتهامة، ومعهم بعض نسائهم لأداء مناسك الحج، وقد أدى الجميع العمرة ثم الحج بسلام، وحج الإمام سعود حجته الرابعة، وكان أثناء وجوده بمكة المكرمة ينـزل في القصر المعروف بقصر البَيّاضيّة ، وتبادل الإمام سعود والشريف غالب خلال ذلك الزيارات الودية، كما أن الإمام سعودًا كان يؤدي معظم فروض الصلاة في المسجد الحرام مع جمع غفير ممن حضروا معه وراء إمام واحد، وكان يطوف بعد كل صلاة بالكعبة المشرفة، ويجلس عادة في المقصورة التي في أعلى بئر زمزم ومعه بعض أتباعه. وخلال إقامة الإمام في مكة المكرمة قام بكسوة الكعبة المشرفة كسوة فاخرة، وجعل إزارها وكسوة بابها من الحرير المطرز بخيوط من القصب المذهب، وكان يقدم الصدقات للفقراء والأعطيات للأهالي والموظفين بسخاء، كما أنه قام بتعيين الدعاة والوعَّاظ في مكة المكرمة وفي مناطق مختلفة من الحجاز لإرشاد الناس من بادية وحاضرة في أمور دينهم ودنياهم
ونظرًا لما تسببه المحامل من إزعاج وفوضى وضياع لحرمة المشاعر المقدسة، وذلك لما يصحبها من فرق تعزف الموسيقى وتحمل معها الطبول والمزامير ويسير خلفها بعض الحجاج في شكل جماعات يرددون الأناشيد بدلاً من انشغالهم بالدعاء وأداء مناسك الحج في هدوء تام، فإن الإمام سعود طلب من جميع قادة المحامل التوقف عن استعمال طبولهم ومزاميرهم أثناء الحج، فبعضهم استجاب، وبعضهم أخذته العزة بالإثم فعاد أدراجه، وقد أصبح الحجاج بعد ذلك يشعرون بالطمأنينة والهدوء، ويؤدون مناسكهم كما أمرهم الله ورسوله
وبعد أداء الحج والاطمئنان على أحوال الناس غادر الإمام سعود مكة المكرمة إلى المدينة المنورة لزيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام هناك عدة أيام، لترتيب أحوالها فجعل بها عددًا من المرابطين من أهل نجد للمحافظة على الأمن، كما عيَّن عبدالله بن مزروع من أهالي منفوحة أميرًا عليها، وحمد بن يحيى بن غيهب من أهالي شقراء أمينًا على بيت المال، وغيرهما. وأوصاهم بتحقيق العدل بين الرعية، وعاد بعد ذلك إلى الدرعية
وما إن انتهى عيد الفطر المبارك من عام 1223هـ / 1808م حتى أمر الإمام سعود بالاستعداد للعمرة والحج في ذلك العام، وبخاصة من لم يؤدِّ فريضة الحج من قبل، وقد اجتمع لديه عدد كبير من أهالي نجد، والأحساء، والبحرين، وعُمان، ووادي الدواسر، فسار بهم إلى مكة المكرمة، وهناك وفد عليه جمع غفير من أهالي بيشة، ورنية، وتهامة، والمدينة المنورة، وينبع من بادية وحاضرة، يرافق بعضهم عوائلهم من نساء وأطفال، وفي مكة المكرمة أدى الجميع العمرة، واستعدوا لأداء مناسك الحج
كان نـزول الإمام سعود وحاشيته كالمعتاد في القصر المعروف بقصر البَيَّاضيَّة، وهناك أصبح الشريف غالب يزوره بين وقت وآخر، وينقل له أخبار القبائل الحجازية وولاءهم للإمام سعود، حاله حال أُمراء المناطق الخاضعين للإمام بالسمع والطاعة. وقد قدّم الإمام سعود خلال إقامته في مكة المكرمة الأموال الكثيرة للعاملين في الحرمين الشريفين، والصدقات للفقراء، كما قام بكسوة الكعبة المشرفة بالديباج والحرير، والاطمئنان على أحوال الحجاج والرعية وأمنهم وسلامتهم وتوافر احتياجاتهم، كما قاد مواكب الحجاج إلى المشاعر المقدسة، وقد حج الإمام في هذه السنة حجته الخامسة
وبعد أداء مناسك الحج سار الإمام سعود ومن معه من حاشيته وجمع غفير من الحجاج لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية، والسلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقضى فيها ثمانية عشر يومًا، استبدل خلالها بالقوات السعودية المرابطة فيها أخرى جديدة ، ثم رحل منها إلى الدرعية، وكان خلال إقامته بالدرعية يتابع أحوال السكان والمعتمرين في مكة المكرمة ويصدر توجيهاته للشريف غالب والقادة الميدانيين بالمحافظة على أمن المنطقة واستقرارها
وما إن اقترب موسم الحج لعام 1224هـ / 1810م حتى أمر الإمام سعود بالاستعداد للحج، فتوافد الناس على الدرعية من جميع المناطق لأداء مناسك الحج فسار بهم الإمام سعود إلى مكة المكرمة، وقد حج الجميع بسلام وأمان، وكانت هذه الحجة هي السادسة للإمام سعود . وهكذا استمر الإمام سعود في أداء الحج كل عام، وخلال كل موسم حج يقوم الإمام بكسوة الكعبة المشرفة بالديباج وبذل الأعطيات والصدقات للمحتاجين في الحرمين الشريفين. وكانت كل سنة تمر على الإمام في الحجاز تعني مصدر قوة للإسلام، حتى إن أعداد الحجاج أخذت في الازدياد، نظرًا لتوافر الأمن على طرق الحج لتطبيق الإمام أحكام الشرع الإسلامي في قطاع الطرق والعابثين بأمن البلاد والعباد
كما حج الإمام سعود عام 1225هـ / 1811م ومعه حشد كبير من الحجاج من داخل الدولة ومن خارجها، وكانت حجته السابعة، وحج معه عثمان بن بشر المؤرخ المعروف الذي أورد بعضًا مما جاء في خطبة الإمام سعود في يوم عرفة في ذلك العام
ويبدو أن السلطان العثماني قد أزعجته الانتصارات الكبيرة التي حققتها الجيوش السعودية في سبيل توحيد أجزاء شبه الجزيرة العربية في وحدة سياسية واحدة، هذه الوحدة السياسية التي سعى الحكام من آل سعود إلى تكوينها والمحافظة عليها. كما أن ضم الحجاز إلى الدولة السعودية، وجعل إدارة مكة المكرمة والمدينة المنورة بيد الإمام سعود قد أفقد السلطان العثماني لقب (حامي حمى الحرمين الشريفين)، هذا اللقب الذي اعتز به السلطان العثماني بأن يكون مرادفًا لاسمه، كما أن هذه الوحدة السياسية جعلت جميع طرق الحج تمر بالأراضي السعودية، ومنها قوافل الحج المصرية، والشامية، والعراقية المتجهة للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، ما أفقد السلطان العثماني أيضًا الإشراف على أكبر تجمع إسلامي يعقد كل عام في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة وهو الحج
كل هذه الأمور أو بعضها أثارت غضب السلطان العثماني محمود الثاني 1223 - 1255هـ / 1808 - 1839م، وجعلته يعد خروج مكة المكرمة بصورة خاصة والمدينة المنورة والحجاز بصورة عامة على طاعته خسارة كبيرة في المظهر الديني له وللدولة العثمانية، فأوعز إلى أعوانه ببث الدعاية المغرضة ضد آل سعود ودولتهم وتشويه الدعوة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب بمؤازرة من آل سعود واتهام أنصارها بالاتهامات المعادية لزعماء الدولة السعودية والدعوة الإصلاحية
كان الشريف غالب دائم الكتابة للسلطان العثماني وولاة الدولة العثمانية في مصر والشام يوغر في صدورهم الحقد والكراهية لآل سعود والدعوة الإصلاحية، ويطلب من السلطان العثماني إرسال حملة عثمانية جديدة لإعادة بسط سلطة الدولة العثمانية على مكة المكرمة والحجاز من جديد، ولم يكتف الشريف غالب بذلك، بل إنه جنَّد كتَّابه وأعوانه لتشويه الصورة التاريخية المشرفة للدعوة الإصلاحية والدولة السعودية وكان له ما أراد
وكان الحجاج والزوار الذين قدموا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة أثناء حكم الإمام سعود عندما عادوا إلى بلدانهم قد حملوا معهم صورة مشرفة لما يتمتع به الحرمان الشريفان من أمن واستقرار وتوافر للسلع الاستهلاكية والتجارية بأرخص الأثمان، مما لم يكن متحققًا في كثير من فترات حكم السلاطين العثمانيين وولاتهم في الحجاز من الأشراف والعثمانيين، لكن هذا لم يمنع السلطان محمودًا والشريف غالبًا من العمل على تحقيق أطماعهما التوسعية والقضاء على الدولة السعودية الأولى مهما كلف ذلك الدولة من خسائر في الأموال والأرواح والممتلكات، ولذلك أخذ السلطان محمود في إعداد القوات وتسيير الحملات إلى مكة المكرمة والحجاز بهدف إعادة سلطة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة والطرق المؤدية لها، وهذا لا يكون في نظره إلا بشن الحرب على الدولة السعودية الأولى والقضاء عليها
ولما فشل الولاة العثمانيون في العراق والشام في تسيير الحملات اللازمة للقضاء على الدولة السعودية الأولى واستعادة الحرمين الشريفين، لجأ السلطان العثماني إلى والي مصر محمد علي باشا وكلفه بالقيام بما عجز عنه الآخرون. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن الأوامر قد صدرت لمحمد علي لإرسال حملة عسكرية إلى الحجاز منذ سنة 1222هـ / 1807م، إلا أن تلك الاستعدادات لم تكتمل إلا في سنة 1226هـ / 1811م، فتحركت الحملة في شهر شعبان باتجاه ميناء ينبع الواقع على الساحل الشرقي للبحر الأحمر المطل على الحجاز بين مكة المكرمة والمدينة المنورة بقيادة أحمد طوسون بن محمد علي باشا، وتتكون من 8000 جندي؛ 5000 من المشاة وقيل 6000 و 3000 من الخيالة وقيل 2000، وكان معهم ثمانية عشر مدفعًا وكميات كبيرة ومتنوعة من الأسلحة والذخيرة
فلما علم الإمام سعود بقدوم الجيوش العثمانية، أمر قادة جيوشه المرابطين في الحجاز بالتحرك بقواتهم إلى ينبع، ثم جهز جيشًا كبيرًا جعل قيادته بيد ابنه الأمير عبدالله، وقد بلغ عدد رجال الجيش السعودي ثمانية عشر ألف مقاتل وثمانمئة فارس، نـزلوا جميعًا في الخيف، المعروف بوادي الصفراء قرب المدينة المنورة، وحدثت في هذا المكان معارك بين الطرفين انتهت بهزيمة جيوش محمد علي والدولة العثمانية بقيادة طوسون وانهزامهم إلى ينبع. وكان ذلك في العشر الأخير من شهر ذي القعدة عام 1226هـ / ديسمبر 1811م . وشرع طوسون يطلب من والده محمد علي ليمده بقوات جديدة
لم تقم القوات السعودية بملاحقة جيش طوسون واكتفت بما حققته من انتصارات على الجيش العثماني، واستعادة المناطق التي احتلتها تلك القوات في ينبع النخل وما حولها، وقد غنمت القوات السعودية بعد هذه المعركة غنائم كبيرة من مدافع وأسلحة وذخائر. ونظرًا لقرب حلول موسم الحج، فقرر الأمير عبدالله التحرك إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج مع جيشه، وفي الوقت نفسه للإشراف على أوضاع الحجاج هناك
وقد قدم إلى مكة المكرمة في حج ذلك العام 1226هـ / 1811م والده الإمام سعود، فحج الجميع بسلام وأمان، وكانت الحجة الثامنة بالنسبة إلى الإمام سعود، وقام الإمام سعود بكسوة الكعبة المشرفة، بالديباج الأسود، أما حزامها وكسوة بابها فمن الحرير المطرز بالقصب الحر. وقد بذل الإمام سعود في مكة المكرمة العطايا الكثيرة للأهالي وعلماء الحرمين الشريفين، كما أنه قدم الصدقات العظيمة للفقراء والمحتاجين. وبعد أداء فريضة الحج عاد الإمام سعود يرافقه ابنه الأمير عبدالله إلى الدرعية، وترك قيادة الجيش السعودي لعدد من رجاله البارزين وعلى رأسهم عثمان المضايفي، كما أرسل فرقة من الجيش السعودي بقيادة حسن قلعي لتقوم بضبط قلعة المدينة المنورة ونواحيها ، ولتكون على أتم استعداد لمواجهة أي تحرك جديد قد تقوم به القوات العثمانية
لقد كان لهزيمة القوات العثمانية على يد القوات السعودية في الحجاز أثر كبير في داخل البلاد وخارجها، فما إن علم السلطان العثماني بذلك حتى ثار غضبه، وأصدر أوامره لمحمد علي في مصر بتجهيز قوات جديدة وإرسالها إلى ابنه طوسون الذي كان لا يزال يقيم في ميناء ينبع
وقد حاول محمد علي انتهاز هذه الفرصة وفرض شروط جديدة على السلطان العثماني من أجل تعزيز أطماعه، وأهمها ضم بلاد الشام لولايته، لكن السلطان العثماني لم يستجب لطلبه، عندئذ قام محمد علي بالانصياع لمطالب السلطان العثماني، فأخذ في جمع الأموال الكثيرة، وذلك بفرض ضرائب جديدة على الأراضي الزراعية والغلال في مصر، ثم قام بتجهيز حملة جديدة أرسلها إلى ابنه طوسون في ينبع
وفي أوائل عام 1227هـ / 1812م وصلت هذه القوات إلى المياه الإقليمية الحجازية ونـزلت في ينبع، وكانت بقيادة أحمد نابرت (الخازندار) الذي قام بتسليم قيادتها إلى طوسون، فأخذت هذه القوات في التحرك إلى داخل الأراضي الحجازية بداية من ميناء ينبع ، فاصطدمت بالحامية السعودية التي كانت ترابط في ينبع النخل، وتمكنت من هزيمتها والاستيلاء على البلدة، والمناطق المجاورة لها، ثم واصل طوسون تقدمه حتى استولى على مدينة بدر، وجعل من بدر مركزًا جديدًا لقواته، وأخذ في ضم قرى وادي الصفراء، وتمكن من احتلالها الواحدة بعد الأخرى ، حتى وصل إلى المدينة المنورة واستولى عليها وذلك بمساعدة رجال من بعض القبائل الذين انضموا إلى جانب قوات طوسون لما بذله لهم من أموال وهدايا
لقد أزعج الإمام سعود قيام القوات العثمانية بالاستيلاء على المدينة النبوية وما حولها، فقام بجمع قوات كبيرة أرسلها بقيادة ابنه الأمير عبدالله إلى الحجاز، فنـزلت في أواخر ذي القعدة سنة 1227هـ / 1812م بوادي فاطمة القريب من مكة المكرمة للانطلاق من هناك إلى ينبع والمدينة المنورة لتخليصهما من القوات العثمانية، ولم يكتف الإمام سعود بذلك بل سار ومعه قوات من نجد والأحساء والحجاز وعمان وتهامة ونـزل في مكة المكرمة، واجتمع بابنه الأمير عبدالله، وأدى الجميع العمرة ثم الحج بسلام وأمان، وكانت الحجة التاسعة للإمام سعود. وقام الإمام سعود كعادته ببذل الصدقات والعطاء، وعمل الإصلاحات اللازمة في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، كما أنه كسا الكعبة المشرفة بالديباج الفاخر، وجعل إزارها وكسوة بابها من الحرير المنسوج بخيوط من الذهب والفضة، واجتمع بالشريف مرارًا، وأهدى إليه الهدايا والعطايا الجزيلة، وفي المقابل جدد الشريف غالب عهده للإمام سعود على استمرار الولاء والسمع والطاعة له، والمحافظة على أمن البلاد وسلامة الحجاج والمعتمرين، ثم عاد إلى الدرعية ، ربما لتجهيز حملة جديدة يستطيع بها استرداد المدينة المنورة وينبع من القوات الغازية، وقبل مغادرته مكة المكرمة ترك الإمام سعود أمر قيادة القوات السعودية المرابطة في الحجاز بيد ابنه الأمير عبدالله الذي أخذ في جمع قواته والاستعداد للتحرك برًا لاستعادة ينبع والمدينة المنورة
وما إن علم طوسون بمغادرة الإمام سعود مكة المكرمة إلى الدرعية حتى سارع بالاتصال بالشريف غالب للسماح لقواته بالزحف بحرًا وبرًا إلى جدة، فوافق الشريف، على الرغم من تجديد عهده للإمام سعود بالولاء والطاعة له، وعلى إثر ذلك وصلت قوات طوسون إلى جدة، ثم تقدمت إلى مكة المكرمة ودخلتها دون أي قتال، وكان ذلك في شهر محرم عام 1228هـ / يناير 1813م على حين كان الأمير عبدالله يعمل على استعادة ينبع