ماهي أقسام الاستعارة

الكاتب: رامي -
أقسام الاستعارة , الاستعارة التصريحية والمكنية , إجراء الاستعارة , الاستعارة الأصلية والتبعية , الاستعارة باعتبار الملائم , الاستعارة التمثيلية , مكان الاستعارة من البلاغة

أقسام الاستعارة

 

١ ـ الاستعارة التصريحية والمكنية

 
يقسّم البلاغيون الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى : تصريحية ومكنية.
 
١ ـ فالاستعارة التصريحية : وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبه به ، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.
 
٢ ـ والاستعارة المكنية : هي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه ، ورمز له بشيء من لوازمه.
 
ولبيان هذين النوعين من الاستعارة نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثم نعقّب عليها بالشرح والتفصيل.
 
الأمثلة :
 
١ ـ قال المتنبي في وصف دخول رسول الروم على سيف الدولة :
 
وأقبل يمشي في البساط فما درى
إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي 
في هذا البيت مجاز لغوي ، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البحر» والمقصود بها سيف الدولة الممدوح ، والعلاقة المشابهة ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي لفظية وهي «فأقبل يمشي في البساط».
 
وفي البيت مجاز لغوي آخر ، أي كلمة استعملت في غير معناها الحقيقي وهي «البدر» والمقصود بها أيضا سيف الدولة الممدوح ، والعلاقة بين البدر والممدوح المشابهة في الرفعة ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي لفظية أيضا وهي «فأقبل يمشي في البساط».
 
٢ ـ وقال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.)
 
ففي الآية الكريمة مجازان لغويان في كلمتي «الظلمات والنور» قصد بالأولى «الضلال» وبالثانية «الهدى والإيمان». فقد استعير «الظلمات» للضلال ، لعلاقة المشابهة بينهما في عدم اهتداء صاحبهما. كذلك استعير «النور» للهدى والإيمان ، لعلاقة المشابهة بينهما في الهداية ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي في كلا المجازين قرينة حالية تفهم من سياق الكلام.
 
٣ ـ وقال المتنبي في مدح سيف الدولة أيضا :
 
أما ترى ظفرا حلوا سوى الظفر
تصافحت فيه بيض الهند باللمم ؟ 
ففي البيت هنا مجاز لغوي في كلمة «تصافحت» يراد منها «تلاقت» لعلاقة المشابهة ، والقرينة لفظية هي «بيض الهند واللمم».
 
وإذا تأملنا المجاز اللغوي في كل هذه الأمثلة الثلاثة رأينا أنه تضمن تشبيها حذف منه لفظ المشبه واستعير بدله لفظ المشبه به ليقوم مقامه بادّعاء أن المشبه به هو عين المشبه مبالغة.
 
فكل مجاز من هذا النوع يسمى «استعارة» ، ولما كان المشبه به مصرّحا به في هذا المجاز سمي «استعارة تصريحية».
 
* * *
 
٤ ـ قال الشاعر دعبل الخزاعي :
 
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك «المشيب» برأسه فبكى 
فالمجاز هنا في كلمة «المشيب» حيث شبّه بإنسان على تخيل أن المشيب قد تمثل في صورة إنسان ، ثم حذف المشبه به «الإنسان» ورمز له بشيء من لوازمه هو «ضحك» الذي هو القرينة.
 
٥ ـ قال الشاعر :
 
وإذا «العناية» لا حظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهنّ أمان 
المجاز اللغوي في كلمة «العناية» ، فالذي يفهم من البيت أن الشاعر يريد أن يشبّه «العناية» بإنسان ، وأصل الكلام : العناية كامرأة لاحظتك عيونها ، ثم حذف المشبه به «المرأة» فصار : العناية لاحظتك عيونها ، على تخيل أن العناية قد تمثلت في صورة امرأة ، ثم رمز للمشبه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «لاحظتك عيونها» والذي هو القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.
 
٦ ـ وقال الحجاج من خطبته في أهل العراق : «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها».
 
فالمجاز اللغوي هنا في كلمة «رؤوسا» ، وأصل الكلام على التشبيه «إني لأرى رؤوسا كالثمرات قد أينعت وحان قطافها» ثم حذف المشبه به وهو «الثمرات» ، فصار الكلام «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها» على تخيل أن الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمار ، ثم رمز للمشبّه به المحذوف بشيء من لوازمه هو «قد أينعت وحان قطافها».
 
ولما كان المشبه به في هذا النوع من الاستعارة محتجبا سميت «استعارة مكنية».
 
من هذه الأمثلة وشرحها يتضح ما سبق أن ذكرناه من أن الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها نوعان :
 
١ ـ الاستعارة التصريحية : وهي ما صرّح فيها بلفظ المشبّه به ، أو ما استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه.
 
٢ ـ الاستعارة المكنية : وهي ما حذف فيها المشبه به أو المستعار منه ، ورمز له بشيء من لوازمه.
 

إجراء الاستعارة

 
يقصد بإجراء الاستعارة تحليلها إلى عناصرها الأساسية التي تتألف منها. وهذا التحليل يتطلب تعيين كلّ من المشبه والمشبه به في الاستعارة ، وعلاقة المشابهة أو الصفة التي تجمع بين طرفي التشبيه ، ونوع الاستعارة ، وكذلك نوع القرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي ، والتي تكون أحيانا لفظية وأحيانا حالية تفهم من سياق الكلام.
 
وفيما يلي إجراء لبعض الاستعارات يحلّلها ويوضّح العناصر الرئيسية التي تتألف منها :
 
١ ـ قال ابن المعتز :
 
جمع الحق لنا في إمام
قتل البخل وأحيا السماحا
في البيت استعارتان الأولى منهما في «قتل البخل» حيث شبّه تجنب كل مظاهر البخل ، وهو المشبه ، بالقتل ، وهو المشبه به ، بجامع الزوال في كل ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي هي لفظة «البخل». ولأن
 
المشبّه به وهو «القتل» مصرّح به تسمى هذه الاستعارة «تصريحية».
 
والاستعارة الثانية في البيت هي «أحيا السماحا» ، حيث شبّه تجديد وانبعاث ما اندثر من عادة الكرم ، وهو المشبه ، بالإحياء ، وهو المشبه به ، بجامع الإيجاد بعد العدم في كل ، والقرينة هنا لفظية وهي «السماحا». ولأن المشبه به «الإحياء» مصرّح به فالاستعارة «تصريحية».
 
٢ ـ وقال الشاعر في وصف مزين :
 
إذا لمع البرق في كفه
أفاض على الوجه ماء النعيم 
في هذا البيت شبّه الموسى بالبرق بجامع اللمعان في كل ، واستعير اللفظ الدالّ على المشبه به وهو «البرق» للمشبه وهو «الموسى» ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «في كفه». ولما كان المشبه به «البرق» مصرّحا به فالاستعارة تصريحية.
 
* * *
 
٣ ـ قال أبو خراش الهذلي :
 
وإذا المنية أنشبت أظفارها
أبصرت كل تميمة لا تنفع 
في هذا البيت شبّهت «المنية» بحيوان مفترس بجامع إزهاق روح من يقع عليه كلاهما ، ثم حذف المشبه به «الحيوان المفترس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أنشبت أظفارها» ، والقرينة لفظية وهي إثبات الأظفار للمنيّة. والاستعارة هنا «مكنية» لأن المشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه.
 
٤ ـ وقال أبو العتاهية يهنىء المهدي بالخلافة :
 
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرّر أذيالها
شبّهت «الخلافة» هنا بغادة ترتدي ثوبا طويل الذيل بجامع بهاء المنظر والحسن في كل ، ثم حذف المشبه به «الغادة» ورمز إليها بشيء من لوازمها وهو «أتته منقادة» ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية ، وهي «تجرر أذيالها» أو إثبات تجرير الأذيال للخلافة. ونوع الاستعارة «مكنية» وذلك لحذف المشبه به والرمز إليه بشيء من لوازمه.
 
٥ ـ وقال السري الرفاء :
 
مواطن لم يسحب بها الغيّ ذيله
وكم للعوالي بينها من مساحب
ففي هذا البيت شبّه «الغيّ» بإنسان بجامع أن كليهما يقود إلى الزلل ، ثم حذف المشبه به «الإنسان» ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو «يسحب ذيّله» ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية ، وهي «إثبات سحب الذيل للغي».
 
ولما كان المشبه به قد حذف ورمز إليه بشيء من لوازمه فالاستعارة «مكنية».
 

٢ ـ الاستعارة الأصلية والتبعية

 
ويقسم البلاغيون الاستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إلى أصلية وتبعية.
 
أ ـ فالاستعارة الأصلية : هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا غير مشتق.
 
١ ـ مثال ذلك لفظة «كوكبا» في قول التهامي الشاعر راثيا ابنا صغيرا له :
 
يا «كوكبا» ما كان أقصر عمره
وكذاك عمر كواكب الأسحار
ففي إجراء هذه الاستعارة يقال : شبّه الابن «بالكوكب» بجامع صغر الجسم وعلو الشأن في كل ، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «الكوكب» للمشبه «الابن» على سبيل الاستعارة التصريحية ، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به. والقرينة نداؤه.
 
وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «الكوكب» رأيناه اسما جامدا غير مشتق ، ومن أجل ذلك يسمى هذا النوع من الاستعارة «استعارة أصلية».
 
٢ ـ ومثاله أيضا لفظة «القيان» في قول الشاعر :
 
حول أعشاشها على الأشجار
قد سمعن «القيان» وهي تغني 
وفي إجراء هذه الاستعارة أيضا يقال : شبّهت الطيور المغردة على الأشجار «بالقيان» أي المغنيات بجامع حسن الصوت في كل ، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «القيان» للمشبه «الطيور» على سبيل الاستعارة التصريحية ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي قوله : «حول أعشاشها على الأشجار».
 
وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «القيان» جمع قينة رأيناه اسما جامدا غير مشتق. ولهذا يسمى هذا النوع من الاستعارة التي يكون فيها اللفظ المستعار اسما جامدا «استعارة أصلية».
 
٣ ـ ومن الاستعارة الأصلية كذلك لفظة «حديقة» في قول المتنبي :
 
حملت إليه من لساني «حديقة»
سقاها الحجا سقي الرياض السحائب 
فالاستعارة هنا في لفظة «حديقة» ، وفي إجراء الاستعارة يقال : شبّه الشعر «بالحديقة» بجامع الجمال في كل ، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به «الحديقة» للمشبه «الشعر» على سبيل الاستعارة التصريحية ، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به. والقرينة «من لساني وسقاها الحجا».
 
وإذا تأملنا اللفظ المستعار وهو «الحديقة» رأيناه كذلك اسما جامدا غير مشتق ، ومن أجل ذلك تسمى «استعارة أصلية».
 
ومن إجراء هذه الاستعارات وتحليلها يتجلى لنا أمران : الأول أنه قد صرّح في كل استعارة بلفظ المشبه به ، ولهذا تسمى الاستعارة «تصريحية» ، والثاني أن اللفظ المستعار اسم جامد غير مشتق ، وبسبب ذلك تسمى الاستعارة «أصلية».
 
ومن أجل ذلك تسمى هذه الاستعارات وأمثالها مما يتوافر له هذا الأمر أن «استعارة تصريحية أصلية».
 
* * *
 
ب ـ الاستعارة التبعية : وهي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه الاستعارة اسما مشتقا أو فعلا.
 
١ ـ مثال ذلك لفظة «سكت» من قوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ.)
 
ففي هذه الآية الكريمة استعارة تصريحية ، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به ، وفي إجرائها نقول : شبه انتهاء الغضب عن موسى «بالسكوت» بجامع الهدوء في كل ، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به وهو «السكوت» للمشبه وهو «انتهاء الغضب» ، ثم اشتق من «السكوت» بمعنى انتهاء الغضب «سكت» الفعل بمعنى انتهى.
 
٢ ـ ومثالها أيضا لفظة «عانقت» في قول البحتري يصف قصرا :
 
ملأت جوانبه الفضاء وعانقت
شرفاته قطع السحاب الممطر
ففي هذا البيت استعارة تصريحية ، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبّه به ، واللفظ المستعار هو فعل «عانقت» ، وفي إجراء الاستعارة نقول :
 
شبهت الملامسة «بالمعانقة» بجامع الاتصال في كل ، ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو «المعانقة» للمشبه وهو «الملامسة» ، ثم اشتق من «المعانقة» بمعنى الملامسة الفعل «عانقت» بمعنى لامست. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «شرفاته».
 
٣ ـ ومن أمثلتها كذلك لفظ «لبس» من قول ابن الرومي :
 
بلد صحبت به الشبيبة والصّبا
ولبست ثوب اللهو وهو جديد
ففي لفظة «لبس» أولا استعارة تصريحية ، وذلك للتصريح فيها بلفظ المشبه به ، واللفظ المستعار هنا هو فعل «لبس» ، وفي إجراء الاستعارة نقول : شبّه فيها التمتع باللهو «باللبس» للثوب الجديد بجامع السرور في كل ، ثم استعير اللفظ الدّال على المشبه به وهو «اللبس» للمشبه وهو التمتع باللهو ، ثم اشتق من «اللبس» الفعل «لبس» بمعنى تمتع. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «ثوب اللهو».
 
* * *
 
وإذا وازنّا بين إجراء الاستعارات الثلاث الأخيرة وإجراء الاستعارات الثلاث الأولى ، رأينا أن الإجراء هنا لا ينتهي عند استعارة المشبه به للمشبه كما انتهى في الاستعارات الثلاث الأولى ، بل يزيد عملا
 
آخر ، وهو اشتقاق كلمة من المشبه به ، وأن ألفاظ الاستعارة هنا مشتقة لا جامدة. وهذا النوع من الاستعارة يسمى «بالاستعارة التبعية» ، لأن جريانها في المشتق كان تابعا لجريانها في المصدر.
 
* * *
 
وإذا رجعنا إلى المثال الأول من الأمثلة الثلاثة الأخيرة وهو «ولما سكت عن موسى الغضب» فإننا نرى أنه يجوز أن يشبّه «الغضب» بإنسان ، ثم يحذف المشبه به «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «سكت» ، فتكون في «الغضب» استعارة «مكنية».
 
وإذا رجعنا إلى المثال الثاني منها وهو «وعانقت شرفاته قطع السحاب الممطر» فإننا نرى أنه يجوز أيضا أن تشبه «شرفات القصر» بإنسان ثم يحذف المشبه به «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «عانقت» ، فتكون في «شرفاته» استعارة «مكنية».
 
وإذا رجعنا إلى المثال الثالث والأخير منها وهو «ولبست ثوب اللهو» فإننا نرى كذلك أنه يجوز أن يشبه «اللهو» بإنسان له ثوب أعاره الشاعر ثم يحذف المشبه به وهو «الإنسان» ويرمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الثوب».
 
ومن ذلك نرى أن كل استعارة «تبعية» يصحّ أن يكون في قرينتها استعارة «مكنية» ، غير أنه لا يجوز لنا إجراء الاستعارة إلا في واحدة منهما لا في كلتيهما معا.
 
وبعد ... فلعلّ من المفيد هنا أن نعود فنلخص القواعد الخاصة بهذا القسم من الاستعارة زيادة في الإيضاح وتمكينا من الإلمام بها.
 
١ ـ يقسّم البلاغيون الاستعارة تقسيما آخر باعتبار لفظها إلى أصلية وتبعية.
 
٢ ـ الاستعارة الأصلية : هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما جامدا غير مشتق.
 
٣ ـ الاستعارة التبعية : هي ما كان اللفظ المستعار أو اللفظ الذي جرت فيه اسما مشتقا أو فعلا. وتسمى تبعية لأن جريانها في المشتق يكون تابعا لجريانها في المصدر.
 
٤ ـ كل استعارة تبعية قرينتها استعارة مكنية ، وإذا أجريت الاستعارة في واحدة منهما امتنع إجراؤها في الأخرى.
 

٣ ـ الاستعارة باعتبار الملائم

 
ذكرنا فيما سبق أن الاستعارة تنقسم باعتبار طرفيها إلى تصريحية ومكنية ، وباعتبار اللفظ المستعار إلى أصلية وتبعية ، وهنا نذكر أنها تقسم باعتبار الملائم تقسيما ثالثا إلى مرشحة ، ومجردة ، ومطلقة.
 
١ ـ فالاستعارة المرشحة : هي ما ذكر معها ملائم المشبه به ، أي المستعار منه.
 
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ.)
 
ففي هذه الآية الكريمة استعارة تصريحية في لفظة «اشتروا» فقد استعير «الاشتراء» «للاختيار» بجامع أحسن الفائدة في كل ، والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الضلالة».
 
وإذا تأملنا هذه الاستعارة رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه
 
به «الاشتراء» ، وهذا الشيء هو «فما ربحت تجارتهم». ومن أجل ذلك تسمى «استعارة مرشحة» ..
 
ومن أمثلة الاستعارة المرشحة أيضا قول الشاعر :
 
إذا ما الدهر جرّ على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
ففي هذا البيت استعارة مكنية في «الدهر» فقد شبه الدهر بجمل ثم حذف المشبه به «الجمل» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «الكلاكل» ، وقد تمت لهذه الاستعارة قرينتها وهي «إثبات الكلاكل للدهر».
 
وإذا تأملنا هذه الاستعارة المكنية التي استوفت قرينتها رأينا أنها قد ذكر معها شيء يلائم المشبه به «الجمل» ، وهذا الشيء هو «أناخ بآخرينا». ولهذا تسمى استعارة «مرشحة».
 
من ذلك يتضح أن الاستعارة سواء أكانت تصريحية أم مكنية إذا استوفت قرينتها وذكر معها ما يلائم المشبه به فإنها تسمى استعارة «مرشحة».
 
* * *
 
٢ ـ والاستعارة المجردة : هي ما ذكر معها ملائم المشبه ، أي المستعار له.
 
أ ـ ومن أمثلة ذلك قول القائل : «لا تتفكهوا بأعراض الناس ، فشرّ الخلق الغيبة».
 
ففي قوله : «لا تتفكهوا» استعارة تصريحية تبعية ، فقد شبّه فيها
 
«التكلم في الأعراض» «بالتفكه» بجامع أن بعض النفوس قد تميل إلى كل ، ثم اشتق من «التفكه» تفكه بمعنى تكلم في العرض ، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «بأعراض الناس».
 
وإذا تأملنا الاستعارة رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه «التكلم في الأعراض» ، وهذا الشيء هو «فشرّ الخلق الغيبة» ولهذا السبب يقال إن الاستعارة «مجردة».
 
ب ـ ومن أمثلة الاستعارة المجردة أيضا قول سعيد بن حميد :
 
وعد «البدر» بالزيارة ليلا
فإذا ما وفى قضيت نذوري 
ففي البيت استعارة تصريحية أصلية في كلمة «البدر» حيث شبهت المحبوبة «بالبدر» بجامع الحسن في كل ، ثم استعير المشبه به «البدر» للمشبه «المحبوبة» على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هنا لفظية ، وهي «وعد».
 
فالاستعارة قد استوفت قرينتها ، ولكن إذا تأملناها رأينا أنه قد ذكر معها شيء يلائم المشبه «المحبوبة» ، وهذا الشيء هو «الزيارة والوفاء بها». ولذكر ملائم المشبه مع الاستعارة تسمى استعارة «مجردة».
 
ج ـ ومن أمثلها كذلك قول القائل : «رحم الله امرأ ألجم نفسه بإبعادها عن شهواتها».
 
ففي لفظة «نفسه» استعارة مكنية ، فقد شبّهت «النفس» «بجواد» بجامع أن كلّا منهما يكبح ، ثم حذف المشبه به «الجواد» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «ألجم». والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي «إثبات الإلجام للنفس».
 
وإذا تأملنا هذه الاستعارة التي استوفت قرينتها رأينا أنها تشتمل بالإضافة إلى ذلك على شيء يلائم المشبه «النفس» وذلك الشيء هو «إبعادها عن شهواتها». فذكر الإبعاد عن الشهوات وهو ملائم المشبه تجريد. ومن أجل ذلك تسمى الاستعارة «مجردة».
 
وهكذا يتضح من تحليل الاستعارات الثلاث السابقة ، أن الاستعارة مطلقا إذا استوفت قرينتها وذكر معها ما يلائم المشبه فإن الاستعارة بسبب ذلك تسمى استعارة «مجردة».
 
* * *
 
٣ ـ والاستعارة المطلقة : هي ما خلت من ملائمات المشبه به والمشبه ، وهي كذلك ما ذكر معها ما يلائم المشبه به والمشبه معا.
 
أ ـ فمن أمثلة الاستعارة المطلقة قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ.) ففي لفظة «طغى» استعارة تصريحية تبعية ، فقد شبّه فيها «الزيادة» «بالطغيان» بجامع تجاوز الحد في كل ، ثمّ اشتقّ من «الطغيان» الفعل طغى بمعنى زاد على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الماء».
 
وإذا تأملنا هذه الاستعارة بعد استيفاء قرينتها رأيناها خالية مما يلائم المشبه به والمشبه. ولهذا تسمى استعارة «مطلقة».
 
ب ـ ومن أمثلتها أيضا قول المتنبي يخاطب ممدوحه :
 
يا بدر يا بحر يا غمامة يا
ليث الشرى يا حمام يا رجل
ففي هذا البيت استعارة تصريحية في كل من : «بدر» و «بحر»
 
و «غمامة» و «ليث الشرى» و «حمام». فالمشبه هنا الممدوح ، والمشبه به هو «البدر» مرة ، و «البحر» مرة ثانية ، و «الغمامة» مرة ثالثة ، و «ليث الشرى» مرة رابعة ، و «الحمام» مرة خامسة. والقرينة في كل استعارة هي النداء.
 
إذا تأملنا كل استعارة من هذه الاستعارات بعد استيفاء قرينتها رأيناها كذلك خالية مما يلائم المشبه به والمشبه. ولهذا السبب تسمى استعارة «مطلقة».
 
ج ـ ومن أمثلة الاستعارة المطلقة كذلك قول قريظ بن أنيف :
 
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
طاروا إليه زرافات ووحدانا
ففي لفظة «الشر» استعارة مكنية ، وفي إجرائها يقال : شبه الشر «بحيوان مفترس» ، ثمّ حذف المشبه به «الحيوان المفترس» ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو «أبدى ناجذيه». والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي «إثبات إبداء الناجذين للشر».
 
وهذه الاستعارة التي استوفت قرينتها قد خلت من كل ما يلائم المشبه والمشبه به ، ومن أجل ذلك تسمى استعارة «مطلقة».
 
د ـ ومن أمثلتها كذلك قول كثير عزة :
 
رمتني «بسهم» ريشه الكحل لم يضر
ظواهر جلدي وهو للقلب جارح 
ففي لفظة «سهم» استعارة تصريحية أصلية ، ويقال في إجرائها : شبه «الطرف» بسكون الطاء «بالسهم» بجامع الإصابة بالضرر والأذى ، ثمّ
 
استعير اللفظ الدال على المشبه به وهو «السهم» للمشبه وهو «الطرف» على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية. والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي لفظية وهي «الكحل».
 
وإذا تدبرنا هذه الاستعارة التي استوفت قرينتها رأينا أنّه قد اقترن بها ملائم للمشبه به «السهم» وهو «الريش» ، وكذلك ملائم للمشبه «الطرف» وهو «الكحل». ولهذا السبب الذي يتمثل في اقتران الاستعارة بما يلائم المشبه به والمشبه معا تسمى الاستعارة أيضا «مطلقة».
 
وهكذا يتضح من تحليل الاستعارة في الأمثلة السابقة أيضا أنّ الاستعارة مطلقا إذا استوفت قرينتها يقال لها استعارة «مطلقة» في حالين : الأولى إذا خلت من ملائمات المشبه به والمشبه ، والثانية إذا ذكر معها ما يلائمها معا.
 
هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الترشيح أبلغ من التجريد والإطلاق ، لاشتماله على تحقيق المبالغة في الاستعارة ، ولهذا كان مبنى الترشيح على أساس تناسي التشبيه والتصميم على إنكاره إلى درجة استعارة الصفة المحسوسة للمعنوي وجعلها كأنّها ثابتة لذلك المعنوي حقيقة ، وكأنّ الاستعارة لم توجد أصلا ، وذلك كقول أبي تمام :
 
ويصعد حتى يظن الجهول
بأنّ له حاجة في السماء
فقد استعار لفظ العلو المحسوس لعلو المنزلة ، ووضع الكلام وضع من يذكر علوا مكانيا ، ولو لا أنّ قصده أن يتناسى التشبيه ويصمم على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية لما كان لهذا الكلام وجه.
 
هذا وفيما يلي تجميع للمتفرق هنا من القواعد البلاغية المتصلة بهذا النوع من الاستعارة :
 
١ ـ تنقسم الاستعارة باعتبار الملائم إلى مرشحة ومجردة ومطلقة.
 
٢ ـ الاستعارة المرشحة : ما ذكر معها ملائم المشبه به ، أي المستعار منه.
 
٣ ـ الاستعارة المجردة : ما ذكر معها ملائم المشبه ، أي المستعار له.
 
٤ ـ الاستعارة المطلقة : ما خلت من ملائمات المشبه به والمشبه ، وكذلك ما ذكر معها ما يلائمهما معا.
 
٥ ـ لا يعتبر الترشيح أو التجريد إلّا بعد استيفاء الاستعارة لقرينتها لفظية أو حالية ، ومن أجل ذلك لا تسمى قرينة التصريحية تجريدا ، ولا قرينة المكنية ترشيحا.
 

٤ ـ الاستعارة التمثيلية

 
تنقسم الاستعارة من حيث الإفراد والتركيب إلى مفردة ومركبة. فالمفردة هي ما كان المستعار فيها لفظا مفردا كما هو الشأن في الاستعارة التصريحية والمكنية.
 
أمّا المركبة فهي ما كان المستعار فيها تركيبا ، وهذا النوع من الاستعارة يطلق عليه البلاغيون اسم «الاستعارة التمثيلية». وهم يعرفونها بقولهم : «الاستعارة التمثيلية تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي».
 
واستجلاء لحقيقة هذه الاستعارة نورد فيما يلي بعض الأمثلة لها معقّبين عليها بالشرح والتحليل.
 
* * *
 
الأمثلة :
 
١ ـ قال المتنبي :
 
ومن يك ذا فم مرّ مريض
يجد مرّا به الماء الزلالا
«يقال لمن لم يرزق الذوق لفهم الشعر الرائع».
 
فهذا البيت يدل وضعه الحقيقي على أنّ المريض الذي يصاب بمرارة في فمه إذا شرب الماء العذب وجده مرا. ولكن المتنبي لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمن يعيبون شعره لعيب في ذوقهم الشعري ، وضعف في إدراكهم الأدبي ، فهذا التركيب مجاز قرينته حالية ، وعلاقته المشابهة ، والمشبه هنا حال المولعين بذمه والمشبه به حال المريض الذي يجد الماء الزلال مرا في فمه.
 
ولذلك يقال في إجراء هذه الاستعارة : شبهت حال من يعيبون شعر المتنبي لعيب في ذوقهم الشعري بحال المريض الذي يجد الماء العذب الزلال مرا في فمه بجامع السّقم في كلّ منهما ، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الأصلي قرينة حالية تفهم من سياق الكلام.
 
* * *
 
٢ ـ قال الشاعر :
 
ومن ملك البلاد بغير حرب
يهون عليه تسليم البلاد
١٩٣
«يقال لمن يبعثر فيما ورثه عن والديه».
 
فالمعنى الحقيقي للبيت هنا هو أنّ من يستولي على بلاد بغير تعب وقتال يهون عليه تسليمها لأعدائه. والشاعر لم يستعمل البيت في هذا المعنى الحقيقي ، وإنّما استعمله مجازيا للوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه لعلاقة مشابهة بينهما ولقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.
 
إذن في هذا التركيب الذي اشتمل عليه البيت استعارة ، وإذا شئنا إجراءها قلنا : شبهت حال الوارث الذي يبعثر فيما ورثه عن والديه بحال من استولى على بلاد بغير تعب وقتال فهان عليه تسليمها لأعدائه ، بجامع التفريط فيما لا يتعب في تحصيله في كل ، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة حالية.
 
* * *
 
٣ ـ لا تنثر الدر أمام الخنازير.
 
«يقال لمن يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به».
 
المعنى الحقيقي لهذا التركيب هو النهي عن نثر الدر أمام الخنازير. وهذا التركيب لم يستعمل للدلالة على هذا المعنى الحقيقي ، وإنّما استعمل مجازيا لمن يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به ، لعلاقة مشابهة بينهما. والقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.
 
فالتركيب هنا استعاري وفي إجراء استعارته يقال : شبهت حال من يقدم النصح لمن لا يفهمه أو لمن لا يعمل به بحال من ينثر الدرّ أمام الخنازير ، بجامع أنّ كليهما لا ينتفع بالشيء النفيس الذي ألقي إليه ، ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة
 
التمثيلية. والقرينة التي تمنع من إرادة المعنى الحقيقي قرينة حالية تفهم من سياق الكلام.
 
* * *
 
٤ ـ قال المتنبي :
 
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا
«يقال مثلا للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله».
 
فالمعنى الحقيقي للبيت أنّ من اتّخذ الأسد وسيلة للصيد افترسه الأسد في جملة ما افترس. والمتنبي لم يستعمل البيت في هذا المعنى الحقيقي ، وإنّما استعمله مجازيا للتاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله ، لعلاقة مشابهة بين الحالين ، ولقرينة تمنع من إرادة المعنى الحقيقي.
 
وعلى هذا يكون البيت بتركيبه قد اشتمل على استعارة يقال في إجرائها : شبهت حال التاجر اختار مشرفا على متجره فنهبه واغتاله بحال من اتّخذ الأسد وسيلة للصيد فافترسه في جملة ما افترس من الصيد ، بجامع سوء البصر بما يستخدم ورجاء الخير مما طبع على الشر. ثمّ استعير التركيب الدال على المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية. والقرينة هنا كالقرائن السابقة حالية تفهم من سياق الكلام.
 
* * *
 
من هذا التحليل يتضح أنّ كل مثال من الأمثلة السابقة قد تألف من تركيب استعمل في غير معناه الحقيقي ، وأنّ العلاقة بين معناه المجازي ومعناه الحقيقي هي المشابهة ، وأنّ هناك دائما قرينة تمنع من إرادة المعنى
 
الحقيقي ، وأنّ التركيب الذي تتوافر له كل هذه الحقائق يسمى استعارة تمثيلية.
 
وما من شك في أنّ كل ذلك يوضح ويؤكد ما سبق أن ذكرناه في مستهل هذا الموضوع من أنّ الاستعارة التمثيلية هي تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
 

مكان الاستعارة من البلاغة

 
الاستعارة صورة من صور التوسع والمجاز في الكلام ، وهي من أوصاف الفصاحة والبلاغة العامة التي ترجع إلى المعنى.
 
وإذا كان البلاغيون ينظرون إلى المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية على أنّها عمد الإعجاز وأركانه ، وعلى أنّها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها ، وتوجب الفضل والمزية ، فإنّهم يجعلون المجاز والاستعارة عنوان ما يذكرون وأوّل ما يوردون.
 
وكما يقول عبد القاهر الجرجاني إنّ فضيلة الاستعارة الجامعة تتمثل في أنّها تبرز البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا ، وتوجب له بعد الفضل فضلا ، وإنّك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد ، حتى تراها مكررة في مواضع ، ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد ، وشرف منفرد ...
 
ومن خصائصها التي تذكر بها ، وهي عنوان مناقبها : أنّها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدّة من الدرر ، وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر.
 
ومن خصائصها كذلك التشخيص والتجسيد في المعنويات ، وبث الحركة والحياة والنطق في الجماد ، وقد التفت الجرجاني إلى شيء من ذلك بقوله : «فإنّك لترى بها الجماد حيا ناطقا ، والأعجم فصيحا ، والأجسام الخرس مبينة ، والمعاني الخفية بادية جلية ... وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها ، إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنّها قد جسمت حتى رأتها العيون ، وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلّا الظنون ، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها» (١).
 
يقول الله تعالى في تصوير العذاب الذي أعدّه للكافرين به : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟.)
 
«فالشهيق» في الآية الكريمة قد استعير «للصوت الفظيع» وهما لفظتان و «الشهيق» لفظة واحدة ، فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان. و «تميز» استعير للفعل «تنشق من غير تباين» والاستعارة أبلغ ، لأنّ التميز في الشيء هو أن يكون كل نوع منه مباينا لغيره وصائرا على حدّته ، وهو
 
أبلغ من الانشقاق ، لأنّ الانشقاق قد يحدث في الشيء من غير تباين. واستعارة «الغيض» لشدّة الغليان أوجز وأبلغ في الدلالة على المعنى المراد ، لأنّ مقدار شدّته على النفس مدرك محسوس ، ولأنّ الانتقام الصادر عن المغيظ يقع على قدر غيظه ، ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة.
 
فالاستعارات هنا قد حققت غرضين من أغراض الاستعارة هما الإيجاز والبيان ، كما تضافرت معا في رسم نار جهنم وإبرازها في صورة تنخلع القلوب من هولها رعبا وفزعا ، صورة مخلوق ضخم بطاش ، هائل جبار ، مكفهر الوجه عابس يغلي صدره غيظا وحقدا.
 
فالاستعارة هي التي لوّنت المعاني الحقيقية في الآية كل هذا التلوين ، وهي التي بثّت فيها كل هذا القدر من التأثير الذي ارتفع ببلاغتها إلى حد الإعجاز.
 
ومن خصائص الاستعارة المبالغة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة كقوله تعالى في الإخبار عن الظالمين ومقاومتهم لرسالة رسوله : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) على قراءة من نصب «لتزول» بلام كي.
 
«فالجبال» ههنا استعارة طوي فيه ذكر المستعار له وهو أمر الرسول ، ومعنى هذا أنّ أمر الرسول وما جاء به من الآيات المعجزات قد شبه بالجبال ، أي أنّهم مكروا مكرهم لكي تزول منه هذه الآيات المعجزات التي هي في ثباتها واستقرارها كالجبال.
 
فجمال المبالغة الناشئة عن الاستعارة هنا هو في إخراج ما لا يدرك
 
إلى ما يدرك بالحاسة تعاليا بالمخبر عنه وتفخيما له إذ صير بمنزلة ما يدرك ويشاهد ويعاين.
 
وعلى هذا ورد قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ.) فاستعار «الأودية» للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها ، وإنّما خص الأودية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها ، لأنّ معاني الشعر تستخرج بالفكر والروية ، والفكر والروية فيهما خفاء وغموض ، فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق لإبراز ما لا يحس في صورة ما يحس مبالغة وتأكيدا.
 
ومما ورد من الاستعارة في الأحاديث النبوية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار «النار» للرأي والمشورة ، أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم.
 
فرأي المشركين أمر معنوي يدرك بالعقل وتمثيله بالنار هو إظهار له في صورة محسة مخيفة يبدو فيها رأي المشركين نارا تحرق كل من يلامسها أو يأخذ بها. فالسر في قوّة تأثير هذه الصورة وجمالها راجع إلى مفعول الاستعارة ، هذا المفعول الذي انتقل بالفكرة من عالم المعاني إلى عالم المدركات مبالغة.
 
ومن خصائص الاستعارة أيضا بث الحياة والنطق في الجماد كما ذكرنا آنفا كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فكل من السماء والأرض جماد تحول بالتوسع الذي هيأته الاستعارة إلى إنسان حي ناطق.
 
وكقول الرسول وقد نظر يوما إلى «أحد» : «هذا جبل يحبنا ونحبه» ،
 
فجبل أحد هذا الجماد قد استحال بسحر الاستعارة إلى إنسان يجيش قلبه بعاطفة الحب.
 
كذلك من خصائصها تجسيم الأمور المعنوية وذلك بإبرازها للعيان في صورة شخوص وكائنات حية يصدر عنها كل ما يصدر عن الكائنات الحية من حركات وأعمال.
 
فأبو العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة يقول من قصيدة :
 
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فالخلافة هنا تستحيل بفعل الاستعارة إلى غادة هيفاء مدللة تعرض عن جميع من فتنوا بها إلّا المهدي فإنّها تقبل عليه طائعة في دلال وجمال تجر أذيالها تيها وخفرا.
 
وأبو فراس الحمداني عند ما يقول :
 
ويا «عفتي» مالي؟ ومالك؟ كلما
هممت بأمر هم لي منك زاجر! 
فما شأن عفّة أبي فراس؟ وما شأن الصراع الناشب بينها وبينه؟ إنّها تستحيل بلمسة من لمسات الاستعارة السحرية إلى إنسان يقف موقف الزاجر كلما هم الشاعر بأمر تراه العفة غير لائق به!
 
فهذه الصورة الرائعة الخلابة المؤثرة ما كانت لتكون لو أنّ الشاعر التزم في التعبير حدود الحقيقة وقال مثلا : «أنا لا أحاول ما يشين لأني رجل عفيف».
 
والأفلاك وهي جماد والدهر وهو أمر معنوي ما خبرهما في بيت البارودي الذي يقول فيه :
 
إذا استلّ منهم سيد غرب سيفه
تفرّعت الأفلاك والتفت الدهر
فكل من «الأفلاك» و «الدهر» قد تحوّل بالاستعارة إلى كائن حي حساس. فهاتان الاستعارتان قد أعانتا الشاعر على أن يرينا صورة الأجرام السماوية حية حساسة ترتعد خوفا وفزعا ، وصورة الدهر إنسانا يلتفت عجبا وذهولا كلما استلّ سيد من قبيل الشاعر المشهود لهم بالشجاعة والفروسية سيفه من غمده!
 
هذه الصورة التي تموج بالحركة والاضطراب والحيوية والمشاعر المختلفة من فزع وخوف ودهشة هي وليدة الاستعارة التي بالغ الشاعر في استخدامها إلى حد يجعل المتملي لها يتولاه الذهول من هول المنظر الذي يراه ماثلا أمام عينيه!
 
وبعد ... فليس من قصدنا أن نعرض لكل صور الاستعارة وخصائصها وأغراضها ، فهذا أمر يطول شرحه ويضيق المقام عنه هنا.
 
وحسبنا ما ذكرنا من خصائصها للإبانة عن مكانتها في البلاغة. ولعلّ في هذا القدر ما يشوق الدارس ويستحثه للكشف بنفسه عن خصائصها الأخرى ، والدور الذي تؤديه في صناعة الكلام وأثرها فيه.
شارك المقالة:
1147 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook