كان الإجماع منعقداً على أن الحاكم هو الله، لكن اختلفوا في مسئلتين هما: الأولى هل أحكام الله لا تعرف إلّا بواسطةِ رُسله، أو يمكن للعقل أن ينفرد بإدراكها، وعلى أي أساس يكون ذلك؟ الثانية: وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الرسول، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يتبعه من ثواب وعقاب في الآجل، ومدح وذم في العاجل؟ اختلف العلماء في هاتين المسألتين، ونحن نجمل أقوالهم فيما يلي، ثم نتبع ذلك مع بیان الراجح منها.
القول الأول: “قول فريق من الجعفرية ومذهب المعتزلة”، إنّ في الأعمال حسناً ذاتياً، وسوءاً ذاتياً، وإنّ العقل يستقل بفهم معظم الأعمال بالنظر إلى صفات الفعل وما يترتب عليه من نفع أو ضرر، أي: مصلحة أو مفسدة؛ وإنّ هذا الفهم لا يتوقف على وساطة الرسل وتبليغهم، فحسن الفعل أو قبحه أمران عقلیاً، لا شرعياً، أي: لا يتوقف إدراك ذلك على الشرع، وإن حكم الله يكون وفق ما أدركته أو تدرکه عقولنا من حسن الأفعال أو قبحها ، فما رآه العقل حسناً فهو عند الله حسن، ومطلوب من الإنسان فعله، ومع الفعل المدح والثواب، ومع المخالفة الذم والعقاب، وما رآه العقل قبيحاً فهو قبيح عند الله ومطلوب من الإنسان ترکه، ومع الترك المدح والثواب، ومع الفعل الذم والعقاب.
في نظر أصحاب القول الأول: لا تأتي إلّا عن طريق مطابقة ما أدركهُ العقل من أفضل الأفعال أو أسوئها، فما أدرك العقل حسنه جاء الشرع بطلب فعله ولا يمكن أن يطلب ترکه، وما أدرك العقل سؤة جاء الشرع بطلب ترکه ولا يمكن أن يطلب فعله، وما لم يدرك العقل حسنه أو قبحه كما في بعض العبادات وكيفياتها فإنّ أمر الشارع أو نهيه فيها يكشفان عن حسن أو قبح هذا النوع من الأفعال، وبنوا على ذلك: أنّ الإنسان مكلف قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة إليه، إذ عليها أن يفعل ما أدرك العقل حسنه وأن يترك ما أدرك العقل قبحه، لأنّ هذا هو حكم إليه بتكليف المسؤولية والحساب وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب.