مستريح ومستراح منه

الكاتب: المدير -
مستريح ومستراح منه
"مستريح ومستراح منه

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى صحبه وأزواجه وأبنائِه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فعن أبي قتادة بن رِبْعيٍّ الأنصاري رضي الله عنه: أنه كان يحدِّث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مُستريحٌ ومُسْتَراحٌ منه))، قالوا[1]: يا رسول الله، ما المُستريحُ والمُستَراح منه؟ فقال:

((العبد المؤمن يستريح من نصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يَستريح منه العبادُ والبلاد والشجَرُ والدوابُّ))[2].

 

وضوح وبيان:

ولعَمْرُ الله إن هذا الحديث الصحيح الشريف، لَتَقْطُرُ منه الحِكمة والفقه، وتَنْبعثُ منه دلالات وأمَارات وعلامات على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، وجلالة رسالته وسُموِّها، وأنه - وإلى ذلك - لدليلٌ من تلك الأدلة الكثيرة والمتكاثرة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم: أُوتِيَ جوامع الكلم.

 

وهذا الحديث الشريف يُعَدُّ في أعلى ما يكون من درجات الوضوح والبيان، يقول العلامة ابن عبدالبر - رحمه الله -: ليس في هذا الحديث معنًى يُشكِلُ، ولا ما يحتاج إلى تفسير، ولا ما يحتمله من خلاف التأويل[3].

 

وهذا حقٌّ؛ فإن الحديث قويُّ المبنى، واضح المعنى، وهو - وبشيء من الاختصار - يدل على أن الموت هو النهاية المحتومة، والتي لا يمكن لأحد بوجه من الوجوه أن يفرَّ عنها، على حد قولكعب بن زهير:

كلُّ ابنِ أُنثَى وإن طالتْ سلامتُهُ = يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ

 

وأن الموتى ضربان وقسمان:

ضَرْبٌ يستريح، وضَرْبٌ يُستَراح منه.

فالأول: المؤمن، وهو من أشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يَستريحُ مِن نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله)).

والآخر: الفاجر، وهو من أشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يستريح منه العبادُ والبلاد والشجر والدوابُّ)).

 

فالأول: يستريح هو من نصب الدنيا وما فيها.

والثاني: تستريح منه هو الدنيا وأهلُها.

 

ولذلك فإنه ومع شيء من البحث والتقميش، والتأمل والتفتيش، ترَى وبوضوح، وتتبيَّن وبجلاء: أنه ليس لأحد - كائنًا من كان - أن يخرج من هذه القسمة ألبتة، أو يتجاوزها أو تتجاوزه، وأنه ولا بد أن يكون أحد الوصفين: ((مستريح، ومستراح منه)) مستغرقًا له، دالاًّ عليه، واصفًا لحاله.

 

بيان معنى الاستراحة:

فالقسم الأول: يستريح من نصب الدنيا: تعبها وأذاها، ولا سيما وهي: (سجن المؤمن) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ويوضِّح مدى هذه الراحة والاستراحة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما وَجَدَ مِن كرب الموت ما وَجَد، قالت فاطمة: واكرب أبتاهْ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا هو شاهدنا -: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم))[4]؛ وذلك أن الكرب الحقيقي عند المؤمن، ينتهي بنهاية الدنيا وانقطاعه منها؛ وذلك لأنها تحجزه عن ما بعدها من السرور والسعادة الأبدية، والتي لا ينغصها شيء.

 

والقسم الثاني: يستريح غيره منه؛ مِن أذاه وظُلمه، وسوء خُلقه وجَوْرِه، يستريح غيره من فساده الكبير، وشرِّه المستطير، والحقيقة أن هذا الغير يقع في حيرة مع مثل هذا الضرب والنوع؛ لأنه بين حالين لا ثالث لهما: فهو بين أن يُقابِل هذا الفسادَ والشر بالإنكار، فينال منه، ويلحق به المشقة والضرر والأذى، وبين أن يُعرِضَ عنه ويتركه، فيقع الأمر الآخر، وهو أن ذلك الفساد والشر منه سيعود أذاه على البلاد والشجر والدواب وسيتَأَذَّوْن منه جميعًا؛ وذلك لأن هذا الفساد والشر - والسكوت عنه - سيكون سببًا في انتشار المعاصي والذنوب، والتي سوف تُهلِك الحرثَ والنسل، كما أنها - أي: المعاصيَ والذنوبَ - ستكون سببًا في قلة الأمطار، وضيق الأرزاق؛ وذلك لشؤمها.

 

بل لربما استراحت منه الأرضُ بدوابِّها وشجرها؛ لسوء فِعاله معها، والتي لم تكن تطيقها منه، كتسلُّطِه عليها، وتحميلها ما لا تحتمله، أو إلحاق الأذى بها بأي صورة من صور الأذى.

 

ولربما وقع هذا كلُّه منه وهو يظن - لِمَا منَحَه الله عز وجل وأعطاه إياه في الدنيا[5]؛ ابتلاءً واختبارًا - أنه محسن غير مسيء، وله مكانة ومنزلة ليست لغيره، وأنه عند موته سيَنال من النِّعم ما كان يناله في الدنيا، على حد قول من قال منهم: ? وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى ? [فصلت: 50]، أو قول الآخر: ? وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ? [الكهف: 36]، قياسًا منه للآخرة على الدنيا، ولم يَدْرِ هذا الأخرقُ أو ذاك أن قضية هذا الإعطاء من الدنيا ليست ميزانًا على القَبول والرضا، أو عدمهما في الآخرة، وأنها لا تعدو أن تكون استدراجًا؛ ولذلك ردَّ الله على هذه الدعوى في آيات كثيرة: فقال الله - عز وجل -: ? وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ? [آل عمران: 178]، وقال الله - عز وجل -: ? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ? [المؤمنين: 55]، وقال - عز وجل -: ? سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ? [الأعراف: 182، 183]، وقوله - عز وجل -: ? قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ? [مريم: 75]، على أحد وجهَيِ التفسير[6]، إلى غير ذلك من الآيات.

 

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يعطي الدنيا من يحبُّ ومَن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من أحب))[7].

 

المؤمنون شهداء الله - عز وجل - في الأرض:

وإذا أراد أحدُنا أن يَزِنَ أحد الموتى، ويعلم من أي النوعين هو؟ فعليه أن يسمع ما يقوله المؤمنون فيه، من أقربائه وجيرانه وممن هم حوله، والذين هم شهداء الله - عز وجل - في الأرض، وهل هم يُثنون بالخير على الميت، أم لا؟ ولا بد أن يكونوا جمعًا من المسلمين الصادقين، وأقلُّهم اثنان، ولا سيما من جيرانه العارفين به، من ذوي الصلاح والعلم.

 

عن أنس رضي الله عنه قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة، فأُثنِي عليها خيرًا، وتتابعت الألسن بالخير، فقالوا: كان - ما علِمْنا - يحبُّ الله ورسوله، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وَجَبَتْ وجبت وجبت))، ومُرَّ بجنازة فأُثنِيَ عليها شرًّا، وتتابعت الألسن لها بالشر، فقالوا: بئس المرءُ كان في دين الله! فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وجبت وجبت وجبت))، فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازة فأثني عليها شرًّا، فقلت: ((وجبت وجبت وجبت))؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أثنَيْتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) [وفي رواية: ((والمؤمنون شهداء الله في الأرض، إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر))][8].

 

فنسأل الله - عز وجل - السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا جميعًا ممن إذا مات استراح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل.




[1] قال الحافظ: ولم أقف على اسم السائل منهم بعينه، إلا أن في رواية إبراهيم الحربي عند أبي نُعَيْمٍ: قلنا، فيدخل فيهم: أبو قتادة رضي الله عنه، فيحتمل أن يكون هو السائل؛ فتح الباري (11 /364).

[2] أخرجه البخاري رقم: (6147)، ومسلم رقم: (950).

[3] الاستذكار (3 /119)، وذكره في التمهيد (13 /63) بنحوه مختصرًا.

[4] أخرجه ابن ماجه رقم: (1629)، وابن حبان (6613)، عن أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

[5] وانظر للفائدة مقالاً لنا بعنوان: متاع قليل.

[6] وقد استظهر هذا صاحبُ الأضواء - رحمه الله - (7 /117).

[7] الصحيحة (6 /482) رقم: (2714).

[8] أخرجه البخاري رقم: (1301)، ومسلم رقم: (949)، وانظر: أحكام الجنائز (ص: 46).


"
شارك المقالة:
240 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook