الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الغُرِّ المحجَّلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد أخرج الإمام البخاري وغيره عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر - رضي الله عنهما - آخذٌ بيده، إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النجوى؟ فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق، فيقول الأشهاد: ? هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ? [هود: 18])).
إنه يوم القيامة، والناس فيه بين مستور ومفضوح؛ فمن ألقى الله عليه ستره وحجابه، سُتر، ومن ناقشه الحساب فطغى وتكبر وأجرم وعصى، فُضح.
يوم القيامة، يوم تمور السماء مورًا، يوم يفر المرء من أخيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه، يوم تذهلُ كل مرضعة عمَّا أرضعت، سترى المجرم والسارق والزاني والمتكبر ممَّن فضحهم الله وكشف عنهم ستره، ستراهم واضحة صورهم، بينة أشكالهم ? يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ? [الرحمن: 41].
الأمور مكشوفة، والسرائر معلنة، والخفايا ظاهرة، والخبايا بيِّنة، إلا مَن ستره الله، روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة، يُرفَع لكل غادرٍ لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان))، أيُّ فضيحة يوم ترى راية ذلك الغادر على رؤوس الأشهاد؟! وإليك ما رواه ابن ماجه - بسند صحيح - من حديث جابر، قال: لما رجعتْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرةُ البحر، قال: ((ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة))، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرَّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرَّت على ركبتَيها فانكسرت قُلَّتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَر إذا وضع الله الكرسيَّ وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدقتْ صدقت، كيف يقدِّس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!)).
أخي الكريم.. أختي الفاضلة.. الكل سيرى مشهد المفضوح والمستور يوم القيامة، فترى مَن كان متكبرًا في الدنيا وهو مفضوح هناك، فقد روى الترمذي وغيره - بسند حسن - من حديث عبدالله بن عمرو قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يُحشَر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صور الرجال، يغشاهم الذلُّ من كل مكان)).
نعم سترى فضيحة اللصوص وسرَّاق الأموال ومختلسي المال العام وأموال الدولة، وستعرفهم من أشكالهم؛ فقد أخرج الإمام البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الغلول فعظَّمه وعظم أمره، قال: ((لا ألفينَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبته شاةٌ لها ثُغاءُ، أو على رقبته فرس لها حمحمةٌ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رُغاءٌ يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، وعلى رقبته صامتٌ، فيقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك))، فمن فضيحة أولئك السراق واللصوص أن يجبروا على حمل ما سرقوا على رقابهم وظهورهم في مشهد نادر، وكلما عظمت السرقة انتفخ الجسم؛ ليتحملَ وزن تلك السرقات، حتى ترى صنفًا منهم له ضرس كجبل أُحُد كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم.
ولا يظن ظانٌّ أنه سيكتم شيئًا، أو أن الله تخفَى عليه خافية، فأول مَن سينطق ويشهد على ابن آدم أعضاؤه ? الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? [يس: 65].
وسترى تلك الفضائح يوم أن تنطق الأعضاء على أصحابها، فقال - عز وجل -: ? وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? [فصلت: 19 - 21].
في ظل هذه الصور من الفضائح، اعلَم - رعاك الله - أن المستور مَن ستره الله ومنَّ عليه، والمفضوح مَن أوكله الله إلى عمله وما كسبتْ يداه، فمَن أراد الستر، فعليه بما صح عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم -: ((من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله يوم القيامة))، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا رب العالمين.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.