آثار سماع القرآن في النفس

الكاتب: المدير -
آثار سماع القرآن في النفس
"آثار سماع القرآن في النفس
وكيف أثر القرآن في نفوس الصحابة؟




قال الله تعالى: ? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر: 21].




إذا تأملتَ في هذه الآيةِ، ترى بأنَّ هذا القرآنَ العظيمَ له أثرٌ في الجماداتِ؛ بل ومختلف العوالمِ والكائناتِ، فكيفَ بالنفسِ البشريةِ التي إذا صفَتْ للهِ تعالى كانتْ في أعلى الدرجاتِ؟

هذا القرآنُ الكريمُ يؤثِّرُ في النفسِ تأثيرًا لم يشهدْ أحدٌ مثلَه قبلَ نزولِ القرآنِ، ومثالُ ذلك نراه في مشهدٍ لعُتبةَ بنِ ربيعةَ عندما جاءَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم يفاوضُه في أمرِ رسالتِه، ويَعرِضُ عليه المالَ والجاهَ والمُلكَ والسلطانَ ليدعَها، فأجابَه الرسولُ الكريمُ بقولِ اللهِ تعالى: ? حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ? [فصلت: 1 - 4] إلى أنْ وصلَ إلى قولِه تعالى: ? فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ? [فصلت: 13]، فرجَع عتبةُ ترجُفُ بوادرُه، حتى قالوا: لقد رجَعَ إليكم أبو الوليدِ بوجهٍ غيرِ الوجهِ الذي ذهبَ به، ثم أقبلَ عليهم يقولُ: واللهِ، لقدْ سمعتُ كلامًا ما هو بالشِّعرِ ولا بالسِّحرِ ولا بالكهانةِ! وإنَّ له لَحلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّ أعلاه لَمثمرٌ، وإنَّ أسفلَه لَمغدقٌ، وما يقول هذا بشرٌ، هكذا فعلَ القرآنُ بنفسٍ ذهبتْ ترفضُه وتحاربُ مَن نزلَ إليه، فهو آيةُ اللهِ الخالدةُ التي تؤثِّرُ في نفوسِ البشرِ بطريقةٍ ربانيةٍ يعلمُها منزلُ هذا الكتابِ.

 

? ويأتي هنا سؤالٌ آخرُ: هل تغيَّرتْ نفوسُ المسلمين وأوضاعُهم وطباعُهم بغيرِ هذا القرآنِ؟

والإجابةُ على ذلك هي أن القرآنَ الذي نقرؤُه ونسمعُه، وهو بين أيدينا في المصاحفِ المطبوعةِ والمسموعةِ - هو نفسُ ما كان يُتلى على الصحابةِ رضوان الله عليهم، وهو الذي تحدَّى به اللهُ الإنسَ والجنَّ، ولا يزالُ التحدِّي إلى أن يرفعَ اللهُ هذا الكتابَ من صدورِ الخلقِ.

 

هو هو القرآنُ لم ينقصْ منه حرفٌ، ولم تَضِعْ منه آيةٌ، ولم تتبدلْ فيه كلمةٌ، فلماذا لم يغيِّرْ من نفوسِنا كما غيَّرَ من نفوسِ أصحابِ رسولِ اللهِ رضوان الله عليهم؟ الإجابةُ على هذا أفاضَ العلماءُ فيها القولَ، ومِن أحسنِ ما قيلَ في ذلك: قولُ أحدِ أئمةِ الدعوةِ رحمة الله عليهم أجمعين، وهو يتحدثُ عن القرآنِ، ويسألُ أهلَ ذا الزمانِ ممن عاصروه: فما له - أي: القرآنِ - لم يفعلْ بكم ما فعلَ بهم؟ ولم يغيِّرْ منكم ما غيَّرَ من أخلاقِهم وأوضاعِهم وطباعِهم؟ فأجابَ قائلًا - وهو السائل -: ذلك بأنهم تلقَّوْهُ مؤمنين، وقرؤوه متدبِّرين، واستمَعوا إليه طائعين، وأقبَلوا عليه منفِّذِين، وأسلَموا زمامَ النفوسِ والأرواحِ، وهو كمياؤه التي لا تستعصي على فعلِها العناصرُ، ولا يقفُ أمامَ فعلِها جاحدٌ أو مكابرٌ، فأنشَأهم قومًا آخَرِين، وجعلهم حجتَه على الظالمين، وتستطيعون أن تكونوا كذلك إذا آمَنتم بالقرآنِ إيمانَهم، ونهجتُم به - في أنفسكم وأوضاعكم - نهجَهم؛ فأحْلَلتُم حلالَه، وحرَّمتُم حرامَه، وأنفذْتم أحكامَه، وتدبرتُم آياتِه، وسرْتُم بتوجيهاتِه، وكان هواكم تبعًا لما جاءَ بِه.

 

وقدْ بيَّنَ الرافعيُّ في كتابِه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) كيف ارتقى القرآنُ العظيمُ بهذه النفوسِ، فقال: وأنتَ إذا تدبرتَ هذه القوةَ الرُّوحيةَ في آدابِ القرآنِ الكريمِ، واعتبرتَها بمأتاها في الطِّباعِ، ومَساغِها إلى النفوسِ، واشتمالِها على سننِ الفطرةِ الإنسانيةِ، فإنك تتبينُ من جملتِها تفصيلَ تلك المعجزةِ الاجتماعيةِ التي نهضَ بها أولئك الجفاةُ من العربِ، فنفضوا رمالَ الصحراءِ على أشعةِ الشمسِ في هذا الشرقِ كلِّه؛ فحيثما استقرتْ منها ذرةٌ وقعَ وراءَها عربيٌّ! بلْ نفضُوا أقدامَهم على عروشِ الممالكِ، وهم كانوا بين داعٍ للصنَمِ، وراعٍ للغنمِ، وعالِمٍ على وهمٍ، وجاهلٍ على فهمٍ، وبين شيطانٍ كأنه لخبثِه مادةٌ لوجودِ الشيطانِ، وإنسانٍ كأنه لشرِّه آلةٌ لفناءِ الإنسانِ، فما زالوا يبسُطون تلك الجزيرةَ حتى بلغتْ أضعافَها، وما زالوا بالدنيا حتى جمَعوا إليهم أطرافَها، وليس من دليلٍ في التاريخِ على أن هذه الأرضَ شهدتْ مِنْ خلقِ اللهِ جيلًا اجتماعيًّا كذلك الجيلِ الأولِ في صدورِ الإسلامِ، حين كان القرآنُ غضًّا طريًّا، وكانتِ الفطرةُ الدينيةُ مواتيةً، وكانتِ النفوسُ مستجيبةً، على أنه جيلٌ ناقَضَ طباعَه، وخالَفَ عاداتِه، وخرَجَ مما أَلِفَ، وخُلِقَ على الكِبَرِ خلقًا جديدًا، ومع ذلك فإن الفلسفةَ كلَّها، والتجاربَ جميعًا، والعلومَ قاطبةً: لا تنشئُ جيلًا منَ الناسِ، ولا جماعةً منَ الجيلِ، ولا فئةً من الجماعةِ - كالذي أخرجتْه آدابُ القرآنِ وأخلاقُه من أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في علوِّ النفسِ، وصفاءِ الطبعِ، ورقةِ الجانبِ، وبسطِ الجناحِ، ورجاحةِ اليقينِ، وتمكُّنِ الإيمانِ، إلى سلامةِ القلبِ، وانفساحِ الصدرِ، ونقاءِ الدِّخْلَةِ، وانطواءِ الضميرِ على أطهرِ ما عسى أن يكونَ في الإنسان من طهارةِ الخلقِ، ثم العفةِ في مذاهبِ الفضيلةِ، من حسنِ العصمةِ، وشدةِ الأمانةِ، وإقامةِ العدلِ، والذِّلةِ للحقِّ، وهلمَّ إلى أن تستوفيَ البابَ كلَّه[1] ا.هـ.

 

هكذا نرى كيفَ غيَّرَ القرآنُ في هذه النفوسِ بل العالمِ كلِّه.




[1] - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية؛ المؤلف: مصطفى صادق بن عبدالرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبدالقادر الرافعي (المتوفى: 1356هـ)، ط دار الكتاب العربي، ص 69.


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook