آفة النصيحة

الكاتب: المدير -
آفة النصيحة
"آفة النصيحة

 

إن من أشدِّ الآفات التي أصبحنا نعاني منها ومن تراكماتها النفسية والفكرية على نفوس النشء: النصيحة! والأمر ليس على الإطلاق، بل على البعضية الغالبة، ويا أسفي على ذلك.

 

أسفي على أن تتحوَّل النصيحة إلى سجلات طويلة من الرغبة في فرض السلطةِ، أو في بَسْطِ عضلاتٍ هزيلة، أو حتى إلى مباراة لأعلى صوتٍ ممكن في تقديم النصيحة! والأعظم من ذلك كله: أن يَنْصِبَ الناصحُ نفسَه إلهًا؛ فيحاسب هذا، ويُكفِّر ذاك، ويُلقي بتصنيفاته الهوجاء على الآخرين، وكأنه عليمٌ، تقيٌّ، معصومٌ عن الخطأ!

 

فلا عجب أن ترى هذا الناصح يشتمك ويقذفك، ويفضحك أمام الملأ، بل يحشر نفسه في أمورك كأنه وصيٌّ عليك، ووليُّ نعمتك، بحجة أنه ناصحٌ لك، وأنَّ عليك أن تخضع وتتجرَّع كل ذلك باسمًا، بل شاكرًا وممتنًّا له؛ لأنه ينصحك ويقدم لك - على طبقٍ من سوء - أفكارَه وقناعاته الخالية من الخُلُق، وربما الحق.

 

إنه ينصحك، وهذه تضحيةٌ عظيمة منه، واستقطاعٌ من وقته المهم، الذي كان من المفترض أن يقضيه في مشاهدة مباراة، أو تدخين، أو تَبطُّح أمام الشاشات، والتجوُّل داخل المواقع المختلفة، وقضاء الأوقات في اللعب الإلكتروني! عليك عزيزي المنصوح أن تُقدِّر هذه النصيحة العظيمة منه، وأن يتَّسع صدرُك، وتسأل الله أن يُفرِغ عليك صبرًا أنْ قابلتَ رويبضةً ينصحُك!

 

أكاد أجزم أن المسألة برمَّتها تتعلق بفكرة واحدة: ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ? [الزخرف: 22]؛ أي: إن هذه الطريقة الفادحة في النُّصح إنما هي لاتِّباع موروثٍ عُنْجُهِيٍّ ما أنزل الله به من سلطان، تربَّى ونشأ عليه صديقنا الناصح، دون أن يُفسِح المجال لعقله أن يتفكَّر ويؤدي تعاليم دينه كما أمره الله، وليس كما علَّمه مجتمعه وعاداته وتقاليده الفارغة من المنطق والعيش الطبيعي.

 

إن الله لم يأمر أحدًا بمحاسبة أحد ما لم يَقُم بما يُؤذي الآخرين، أو باقتراف ما فُرِض على اقترافه عقوبة، ولا حتى رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ فلم يكن مأمورًا بالحساب، بل بالبلاغ، البلاغ فحسب؛ ? فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ? [الرعد: 40]، وهناك بونٌ شاسع أيها الناصح بين تقديم النصيحة وبين محاسبة المنصوح، فتفكَّر! وتدبَّر وتعلَّم دينك كما يجب، فهذا الدين الجليل بعيدٌ كل البعد عما تعتقده وتقوم به، فالله أمر باللطف في النصح، بالحكمة، بالموعظة الحسنة، بالستر، بالخُلُق الذي ليس منه الفجور واللعن والسباب!

 

ألم تسمع قولَ الله تعالى لموسى وهارون يوصيهما ويُعلمهما كيف يُقدِّمانِ نصحهما لفرعون الذي طغى في الأرض وتَجبَّر وزعم أنه إله؟ ألم تسمع أو تقرأ قوله جلَّ في علاه: ? فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? [طه: 44]، فأين أنت من القول الليِّن في نصح أخيك المسلم؟

 

ألم تسمع قول الله تعالى يُعلم رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الطريقةَ الصحيحة للنصح والأخذ بيد العباد؟ حين قال جلَّ في علاه: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل: 125]، وانظر إلى النتيجة التي أخبر اللهُ بها رسولَه الكريم - لو أنه تَعامَلَ بما يُشبه فظاظتك في النصح - حين قال سبحانه: ? وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ? [آل عمران: 159].

 

فتفكَّرْ وأَعِد حساباتك فيما تفعل، وفي أهدافك ومقاصدك، فما الذي كنتَ تريده من نصحك ذاك؟ هداية أحدهم؟ خوفًا عليه من الخطأ والإثم؟ محبة له؟ عدم رضاك بالصمت في حضرة الخطأ؟ إن كانت هذه مقاصدك، فتأكَّد أن طريقتك الفَظَّة الغليظة لن تؤتي ثمارًا حسنة أبدًا، بل على العكس تمامًا، إنك بفَعلتك هذه تُنفِّر المنصوح مما تنصحه به، وتَحمِله على كرهك وكُرْه ما جئتَ به، والأعظم من ذلك: قد تكون سببًا في استرساله وتمسُّكه بالخطأ والمعصية؛ عنادًا لك، وانتقامًا من أذيَّتك له بتلك الطريقة في النُّصح.

 

فأي المقاصد كنت تريد؟

وأي عقيدة تتَّبع؟ عقيدة ما فُطِرتَ عليه من العُنجُهيَّة والجهل في عاداتك وتقاليدك، أم عقيدة إلهك الحق وما أرسَلَ به رسوله المصطفى من الرحمة والحكمة والخُلُق الحسن؟

 

وهل نظرتَ إلى عيوبك وأخطائك ومساوئك التي لا تُعَد ولا تحصى، واستثمرت وقتك الثمين في إصلاحها، وإصلاح رعيتك الذين تحت وصايتك فعلًا، قبل أن تُكرِّس وقتك وجهدك في النظر إلى حياة وسلوكيات الآخرين، والتدخُّل في شؤونهم، ونقدهم نقدًا فاحشًا؛ لأنهم خالفوك وفعلوا شيئًا لم تعتَدْ عليه أو تعرفْه قبلًا؟

 

يجب أن تعلم أنَّ للنصيحة أساليبها وطرائقها التي لا تشبه أبدًا أسلوبك وطريقتك، إذا أردت أن تنصح بمقصدٍ طيب، فليكن أسلوبك كما مقصدك طيبًا، بأن تكون نصيحتك شديدة الخصوصية، لا تتعدى الشخص المنصوح، فلا تفضَحْه أو تنصَحْه على الملأ، أو تغتَبْه وتُسِئْ إليه في غيابه، واحرص كل الحرص أن يكون حديثك ليِّنًا ولطيفًا وحكيمًا، ذا أصلٍ شرعيٍّ حق، وليس لعادةٍ أو تقليدٍ مجتمَعِيٍّ فارغ جُبِلتَ عليه، فقناعات الناس ليست قناعة واحدة هي قناعتك حتى تغضب إن خالفوها! فتفكَّر واحترم هذا الاختلاف.

 

وقِفْ ولو لمرة واحدة في حياتك القصيرة هذه، واسأل نفسك: هل عرَفتَ واتَّبعت شريعة الإسلام حقًّا في شؤونك وتعاملاتك؟

 

أرجو ذلك.


"
شارك المقالة:
37 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook