أثر الصفح والعفو في الدعوة

الكاتب: المدير -
أثر الصفح والعفو في الدعوة
"أثر الصفح والعفو في الدعوة

 

إن القائم بالدعوة إلى الله تعالى، والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، لا يسلم في غالب الأحيان من مس الناس له بالأذى، سواء بالقول أم بالفعل، ولهذا قال لقمان لابنه مبينا له هذه السنة ? يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? [لقمان: 17]، كما أمر الله تعالى نبيه بالصبر في مواضع كثيرة، كما في قوله تعالى ? وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ? [المزمل: 10]، وبين له الكلفة الناتجة عن نزول القرآن، وأنه سيتبع ذلك أذى وابتلاء، فقال تعالى ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ? [الإنسان: 23، 24].

 

وهنا يرد سؤال:

ما هو تصرف الداعية حيال ما يمسه من أذى المدعوين؟ وكيف يمنع الأذى عن نفسه دون الإخلال بعلاقته مع المدعوين؟ وكيف يمنع التعارض بين مراعاة أحوالهم وبين كف الضرر عن نفسه؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن (للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل، فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله ونحو ذلك، وهو قادر على دفعه، فله دفعه عنه، بخلاف إذا ما وقع الأذى وتاب منه، فإن هذا مقام الصبر والحلم.

 

والكمال في هذا الباب حال نبينا صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، لا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل[1])[2].

 

ومن أعظم الأمثلة على ذلك عفوه عن أهل مكة جميعهم، فيما يتعلق بحقه صلى الله عليه وسلم وخاصة من مسه بأذى في نفسه كمن كان يهجوه من الشعراء، أو بأذى في أهله كوحشي بن حرب، وهند بنت عتبة، وقصتهما معروفة مع سيد الشهداء رضي الله عنه، وهبار بن الأسود الذي آذى ابنته فأسقطت جنينها بسببه[3].

 

أما إذا كان التعدي على حقوق الله تعالى، فهو أول من يغضب له، ويقيم حدوده، كما روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن المؤمنين عائشة رضي الله عنها:( والله، ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله)[4].

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله: ( والآمر الناهي إذا أوذي وكان أذاه تعدياً لحدود الله، وفيه حق لله، يجب على كل أحد النهي عنه، وصاحبه مستحق للعقوبة، لكن لما دخل فيه حق الآدمي، كان له العفو عنه، كما له أن يعفو عن القاذف والقاتل وغير ذلك، وعفوه عنه لا يسقط عن ذلك العقوبة التي وجبت لحق الله، لكن يكمل لهذا الآمر الناهي مقام الصبر والعفو الذي شرع الله لمثله، حتى يدخل في قوله تعالى ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?[آل عمران: 186] [5]).

 

والفرق بين الصفح والعفو وبين الصبر، أن الداعية مأمور بالصبر دائما، قبل دعوته وأثناء قيامه بها، وبعد الدعوة يصبر لما يترتب عليها من نتائج، أما الصفح فالداعية يبلغ به أعلى درجة في الإحسان، كما أنه قد لا يرافق الداعية في جميع أحواله، فقد يصفح الداعية ويعفو في سبيل مصلحة أعلى محققة، وأحيانا تكون المصلحة ملازمة لإيقاع العقوبة، وذلك حين يكون صدور العفو أو تكراره مدعاة للاستهانة بجانب الداعية، والتقليل من شأنه، أو اجتراء الفساق عليه[6].

 

ويوضح شيخ الإسلام فرقا آخر فيقول: (ثم هنا فرق لطيف، أما الصبر، فإنه مأمور به مطلقاً، فلا ينسخ، وأما العفو والصفح، فإنه جعل إلى غاية، وهو: (أن يأتي الله بأمره)، فلما أتى الله بأمره: بتمكين الرسول صلى الله عليه وسلم ونصره، صار قادراً على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم من المنكر، صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزاً عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك، كما كان مأمورا بالصبر أولاً)[7].

 

وقد يشْكل على الداعية قوله تعالى ? وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ? [الشورى: 38]، فالآية تمدح المؤمنين بأن فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، فهم ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم[8]، والجمع بين هذه العزة وبين العفو والصفح، بأنهم كانوا يكرهون أن يُستذلوا، فإذا قدروا عفَوا، فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } [الشورى: 39] يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له، ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزاً وذلاً، بل هذا مما يذم الرجل، والممدوح العفو مع القدرة والقيام لما يجب من نصر الحق، لا مع إهمال حق الله وحق العباد[9].




[1] صحيح مسلم كتاب الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته 4 /1814 ح 2328، ورواه أبو داود مختصرا في سننه كتاب الأدب باب في التجاوز في الأمر 4/ 250 ح 4785.

[2] الفتاوى: ابن تيمية 15 /168-169، مع اختلاف يسير في لفظ الحديث، والمثبت هو اللفظ عند الإمام مسلم.

[3] راجع ص 132.

[4]كتاب الحدود باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله 8 /16، وصحيح مسلم كتاب الفضائل باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره من المباح أسهله.. إلخ 4 /1813 ح 2327.

[5] سورة آل عمران جزء من آية 186.

[6] كما في قصة قتله صلى الله عليه وسلم أبي عزة الجمحي بعد غزوة أحد. سبق تخريج القصة ص 427.

[7] الفتاوى: ابن تيمية 15 /170.

[8] بتصرف، تفسير القرآن العظيم 7 /198.

[9] بتصرف، الفتاوى: ابن تيمية 15 /174. وانظر عددا من أمثلة عفوه صلى الله عليه وسلم مع قدرته على الانتقام أوردها الحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 7 /198، وانظر شرح السنة 13 /165 باب الصبر على أذى المسلمين والتجاوز عنهم.


"
شارك المقالة:
35 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook