أحقا ماتت أمي لطيفة؟!

الكاتب: المدير -
أحقا ماتت أمي لطيفة؟!
"أحقًا ماتت أمي لطيفة؟!

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

أحقًّا ماتت أمي لطيفة؟! لعل الخبر فيه تشابه مع اسم امرأةٍ اسمها كاسم أمي لطيفة.

 

أحقًا ماتت أمي لطيفة ؟! لعل الخبر إلى الحُلم أقرب منه إلى الحقيقة.

 

لعل ولعل.. آهٍ، ليتني أصحو من نومٍ عميقٍ، فأجدُ أن الخبر كان حُلمًا، وليس بحقيقة، بل لعلي ولعلي أجد من يَهْمِسُ في أذني، بأنها لا تزال على قيد الحياة..

 

لكن مهلًا مهلًا، فليس الخبر كالمعاينة، فحقيقة معاينة عيني لها وهي ميتة، تفيد بأن خبر وفاة أمي كان حقيقة، فَمُشَاهَدَتُهَا مُسجَّاة في مغسلة الأموات، وصلاتي عليها كان حقًّا حقيقة، بل مَشَاهِدُ دفنها في قبرها، وهلَّ التراب عليها، واستقبال المعزين فيها، عين الحقيقة، عليها رحمات ربي ورضوانه.

 

إذًا يا فؤادي ليس لك مهرب، من تصديق خبر موت أمي لطيفة، فقد تحققتُ من خبر موتها، كتحققي من أن اسم أمي لطيفة، فيا قلبي المفجوع صبرًا على فراق أمي الحنونة لطيفة، ويا قلبي المكسور جبرًا، ففي تجرع الصبر سلوان عن ألم المصيبة، ويا قلبي الملهوف مهلًا، فالموت حق وكُلنا سنذوقه: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? [سورة الأنبياء 35]، فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ولا نقول إلا ما أمرنا به ربنا: ? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ? [البقرة: 156]، والحمد لله على قضاء ربي وتقديره.

 

فيا رب ارحم أمي لطيفة، مَنْ ضربت أروع صور الصبر والاحتساب في مرضها، فلم تجزع ولم تعترض، بل علَّقت قلبها بربها، ونطق لسانها بحمده وشكره على ما قدَّره عليها في الدنيا الحقيرة.

 

فكم تعبت فأسرَّت، وعانت فأخفتْ، وسهرت لياليَ وتألَّمت أيامًا، فتجلدت وتصبرت، وكأنه لم يَمسَّها ضرٌّ، حيث أثر داء السكري عليها، فأصيبت بغرغرينة في قدميها، فكانت معاناتها مع جروح قدميها، وتجددها وتنقلها من قدم لأخرى، وبتر بعض الأصابع، مع ما يصاحب ذلك من أوجاع وشدة وتعب وقلة نوم وأكل، كل ذلك وأكثر كان ملازمًا لها في آخر ثلاث سنوات من عمرها، إضافة إلى التغيير اليومي للجروح الذي كان من سِمات يومها، جعل الله ما أصابها تكفيرًا ورفعة، وأثاب الله من كان يغير الضمادات لها.

 

فلا ضَجرتْ ولا ولْولتْ، بل لِسانُها لربها بالحمد يلهج، وقلْبُها بالشكر يمتلئ؛ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأمْرِ المُؤمنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ، ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيرًا لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ)؛ رواه مسلم.

 

فلله درُّ أمي لطيفة على دروس الصبر التي كانت تَعْرِضُها واقعًا في حياتها، وكأنها تُربي مَنْ حولها بطريقة صامتة: ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر: 10].

 

ولله درُّ أمي لطيفة على صبرها واحتسابها في دخول المستشفيات ومراجعة الأطباء، وتناول العلاج خلال سنواتها الأخيرة، فهي تؤمن بفعل الأسباب وتقول بِلَهْجَتهَا: احزم يدك وعرِّضها للأطباء، ثم تتوكل على الشافي مسبب الأسباب.

 

أمي لطيفة، كم تفرح بالاجتماعات العائلية، وتحثنا أنا وإخوتي وأخواتي على حضورها، وتذكرنا بصلة الرحم، وتكون سببًا فيه، فهي تَجْمعُ ولا تفرق وتَصِلُ ولا تقطع.

 

بل هي تَسْبِقُنَا فتزور وتتصل، وترسل وتبادر، حتى إنها لا تأنف من أن تتصل على من يَصْغُرُهَا، فتسأل عن الأخبار، وتطمئن على الأحوال، فَتُخْبِرُنَا بالمرضى، وتذكِرنا بزيارتهم، وبالاتصال عليهم، وتحثنا وتتعاهدنا على ذلك.

 

أمي لطيفة، صاحبة روح خفيفة لطيفة، على الكبير والصغير، والقريب والبعيد، يُحِبها من يُجالسها أول مرة ويسعد بها.

 

وكم رأينا أنا وإخوتي وأخواتي في أيام العزاء مَنْ يخبر بِحُبها، فيبكي عليها ويدعو لها ويتعاطف معها.

 

وقد تساءلنا عن سبب قَدْرِهَا في القلوب؟ فاتفقنا على أن لها سِرًّا بينها وبين علام الغيوب، ولعل السر كان في صبرها واحتسابها في مرضها، فقد والله غَبِطناها على عُلوِّ منزلتها، وارتفاع قدرها، فلله دَرُّ أمي لطيفة، عليها رحمات ربي تتنزل ورضوانه.

 

أمي لطيفة، كم تتفقد الفقراء والمحتاجين من أقارب وغيرهم، فَتَعْرِض حالهم على أبي وعلينا، فتكون واسطة في الخير والمساعدة.

 

وكل ذلك بسرية تامة، فلا يعلم أحدٌ بذلك، حتى في بعض الأحيان أذهب بها لبعض المحتاجين، فتعطيهم بنفسها.

 

أمي لطيفة، تحفَظ لسانها من نقل القيل والقال، فتتجاهل ما يحدث ويدار، فلا تشارك فيما لا يعنيها، بل حتى في حقها وما يعنيها، لا تطالب في حقها، بل تكون آخر من يطالب فيه.

 

أمي لطيفة، لها مع إطعام الطيور الصغيرة والحيوانات الأليفة طرائق وأحوال لطيفة.

 

فقد وضعت قبل سنوات وعاءين في فناء المنزل، أحدهما للماء، وآخر للطعام، تضع فيه ما تبقى من طعام البيت، فلا تسل عن تهافت الطيور الكثيرة إليه، فرحمها الله برحمتها لهذه الطيور.

 

بل كان يَشْغَلُ بَالَهَا عند حضور المناسبات والولائم جمعُ الطعام لهنَّ، فتجلبه معها، بل تضعه في الثلاجة، وتُخرجه على دفعات، وكأنها تطعم أولادها، لا طيور غريبات! بل من يجهل أمرها، يظن أنها تربي طيورًا خاصة بها! بل زادت على إطعام الطيور إطعام القطط الأليفة حول البيت، فنقلت الطعام والماء إلى خارج البيت عند الباب الخارجي، فصارت تحرص على ذلك، بل تجعل الماء والطعام عند الباب؛ ليخرجه من يخرج من الباب، فتهتم له وتوصينا على تفقُّده، وتأمر الكبير قبل الصغير، كي يوصله للمكان.

 

فأي قلب تحمله أمي لطيفة على هذا الاهتمام، وأي رجاء لها من فعلها لهذا العمل الاحتسابي، إلا رحمة الرحمن والفوز بجنة الباري.

 

فهنيئًا لها الأجور، وسن سنة حسنة في الإطعام والسُقيا، حتى كان المكان يقصده بعض الجيران، فيضعون الباقي من الطعام، ويتعاهدون الماء.

 

ويشاركها الاهتمام والدي الغالي أطال الله عمره على عمل صالح، فكان يتعاهد ذلك، كتب الله لهما أجر ذلك، وجعله في ميزان حسناتهما.

 

أمي لطيفة، لها أسلوبها المميز واللطيف في سرد القصص والحكايات والأحداث، مما تحفظه أو تسمعه، أو مما وقع لها من قصصها وحكاياتها وطرائفها في سنواتها الماضية.

 

فلا يُمَلُّ من سماعها عندما تصادف بالًا طيبًا لها، ووقتًا مفتوحًا أمامها، وتفاعلًا مِنْ مُستمعيها.

 

أمي لطيفة، حريصة على صلاتها ونوافل الصلاة، من صلاة ضحى وصلاة ليل، فتصلي الشفع والوتر، وتصوم في بعض الأحيان يوم الاثنين.

 

ومن فضل الله عليها أنها ذاكرة لله، أسمع تسبيحها وهي جالسة بجانبي، تسبِّح وتستغفر الله، بل نَسمعُها في البيت، وعندما تدخل البيت تقول: لا إله إلا الله تَمُدُّ بها صوتها، وهذا معروف عنها ويُعرفُ مَجيئها بذلك، بل عندما تشتد بها الأوجاع، تذكر الله وتردِّد كثيرًا: لاحول ولا قوة إلا بالله.

 

وفي مرضها الأخير عندما كانت في العناية، كانت مخدرة وفي فمها أنبوب التنفس أكثر من أسبوعين، فلما أزيل عنها، كان الدكتور بجانبها، فيقول وهو مستغرب منها: أنها أول ما تلفظت به ذكرت الله وحمِدته!

 

أمي لطيفة، في آخر حياتها دخل عليها آخر رمضان لها 1441، وهي في أحسن حال، فأكرمها الله بالصيام والصدقة، وصلاة التراويح في البيت، وبعض الأعمال الصالحة، فكانت هذه الأعمال خاتمة خير لحياتها، حيث استمرت على هذا الحال حتى بَلَغَ هِلال رمضان بدر التمام، فلما بدأ بدر السماء بالتناقص، توافق معه بدر الأرض أمي لطيفة، فكأنهما اشتركا في الحُسن والنقص، فبدأت الصحة تعتل، والصيام يتأثر، فأفطرت ودخلت العناية.

 

فلبثتْ قُرابة شهر وحالتها مضطربة؛ حيث كانت حالتها أول ما دخلت مستقرة ثم تدهورت، فقد أثر داء السكري على القلب والرئة والكلى، حتى تمكن منها المرض، جعل الله ما أصابها رفعة وتكفيرًا.

 

فنزل بها الموت بعد منتصف شوال، فرحمها الله رحمة واسعة، وأسكنها ونحن معها الفردوس الأعلى من الجنة مع المؤمنين الأبرار؛ آمين.

 

أمي لطيفة، فقْدُها أليم، ورحيلها من بيننا أثَّر في قلوبنا أيما تأثير، صورتها بين أعيننا شاخصة، وأماكن جلوسها في البيت كأنها الآن فيه جالسة!

 

إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا أمي لمحزونون.

 

فنسأل الله أن يرحمها ويغفر لها، ويجعل قبرها روضة من رياض الجنة، ويسكنها الفردوس الأعلى من الجنة، ويجمعنا بها في الجنان.

 

وهذا حال الدنيا، كلنا على هذا الطريق، نسأل الله حسن الخاتمة، وأن يوفِّقنا للاستعداد ليوم الرحيل، فالموت ليس بيننا وبينه حاجز ولا مانع، بل يأتي بغتة، هذا مما يسر الله من ذكر شيء يسير من محاسن حياة أمي لطيفة رحمها الله، وفضائلها وأعمالها وأحوالها، لعلنا نقتدي بها فيما تفضل الله به عليها، ويكون في ذكر ذلك سبب في الدعاء لها، فلا تنسوها من صالح دعواتكم وجميع موتى المسلمين.

 

والحمد لله على قضاء الله وقدره، توفيت أمي لطيفه سلامة الخضير عليها رحمات الله رضوانه، ظهر الاثنين السادس عشر من شوال 1441، وصُلِّي عليها من الغد غفر الله لها ولجميع موتى المسلمين، وإن مما يُستبشر به: الاستبشار ببعض الرؤى، لذلك فإن من فضل الله أنه بعد موت أمي، رآها بعض الأقارب في مرائي حسنة، ولله الحمد؛ (حُرر في 25 شوال عام 1441).

 

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook