أدب الحوار في الإسلام

الكاتب: المدير -
أدب الحوار في الإسلام
"أدب الحوار في الإسلام




لقد شاء الله تعالى أن يجعل القرآنَ الكريم المعجزة الخالدة؛ ليكون هذا الكتاب المبين هدًى للمتقين، ومنهاجًا للمصلحين، وهداية للحائرين، وتقويمًا لأخلاق المعوجين، وإرشادًا للضالين؛ ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ? [الإسراء: 9].

 

وباتباعه تتسامى النفوس عن الخضوع المذل للنزوات الطائشة، وتترفع عن ارتكاب الذنوب والعيوب؛ لأن القرآنَ أنزله الله -تعالى- ليكون شرعةً للناس ومنهاجًا، وجعله محفوظًا ثابتًا لا يتبدل ولا يتغير؛ لكيلا يتبدل الناس ولا يتغيروا؛ فهو الذي ينقذ الحيارى من الجهالات والمتاهات: ? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ? [إبراهيم: 1]، ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ? [الفتح: 28].

 

(قل: آمنتُ بالله، ثم استقِمْ):

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام: فقال له: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم))، ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه قد أوتي جوامعَ الكلم، ? وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ? [النجم: 3، 4]، وقد جعل الله تعالى طاعتَه من طاعته؛ فقال عز وجل: ? مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ? [النساء: 80].

 

وقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)) قد جمع الإسلام في جملة واحدة، وهي أن الإسلام إيمانٌ بالله، واستقامة في الحياة؛ فلا انحراف ولا فساد ولا عيوب، ولا ضلال ولا التواء، ولا غل ولا رياء، لكنه إيمان بالله، واعتصام بحبل الله، وتراحم وتعاطف، وتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان؛ لأن المؤمنين إخوة: ربهم الله، ورسولهم خاتم رسل الله، سيدنا محمد بن عبدالله، الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وقال له: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء: 107].

 

(جبريل عليه السلام يعلمنا المثَل الأعلى للحوار الديني):

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخِذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقتَ، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: ((أن تَلِدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثم انطلق، فلبثت مليًّا، ثم قال: ((يا عمر، أتدري من السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلِّمكم دينكم)).

 

هذا هو الأدب الرفيع بين السائل والمجيب، كما في هذا الحديث الشريف الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب، وهو ذلك القدوة العظيم، وكان المعلم فيه سيدنا جبريل عليه السلام، أمين الوحي الكريم، ومتلقيه - وهو المجيب عن تلكم الأسئلة -: هو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، هو خاتم رسل الله، سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومنزلة هذا الحديث من السنَّة المطهرة كمنزلة أم الكتاب (الفاتحة) من القرآن الكريم، فمن عمِل به، سلِم في دِينه، وفي يقينه، وهُدِي إلى صراط مستقيم.

 

أرأيت كيف كانت هذه الأسئلة الهادئة الهادفة بإجابتها الرشيدة السديدة منهجًا تربويًّا متكاملاً، ودرسًا دِينيًّا مثاليًّا شاملاً، وحوارًا أمينًا بين أمين الوحي سيدنا جبريل عليه السلام وبين سيد المرسلين صاحب الخُلُق العظيم، خاتم رسل الله سيدنا محمد بن عبدالله، الرحمة المهداة للعالمين، الذي بعثه ربه للناس كافة؟!

 

ولقد تكلم العلماء في شرح السؤال عن الإسلام وعن الإيمان كذلك، فقالوا: الإسلام لغة: هو الاستسلام، يقال: أسلم له قِياده، إذا استسلم وخضع، ولم يعارض ولم يتردد، أما الإيمان فهو التصديقُ والإذعان، مع الجزم به، وعدم التردد فيه، ومع الاطمئنان واليقين، وقد جاءت النصوصُ في الآيات والأحاديث تدلُّ على وحدتهما؛ كقوله - جل جلاله -: ? فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? [الذاريات: 35، 36].

 

وتارة على تغايرهما، مثل قوله - تبارك وتعالى -: ? قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ? [الحجرات: 14].

 

ولكنهم اتفقوا على أن الإيمان والاسلام هما وإن تغايرا في معناهما، فلا يعتد بأحدهما دون الآخر؛ فهما متلازمان في الشريعة، وإن انفكا في المفهوم؛ فليس بمسلمٍ مَن لا يكون مؤمنًا، وليس بمؤمن شرعًا من لا يكون مسلمًا، نعم قد ورد في السنة ما ظاهره ينفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن...)) إلى آخر الحديث، فإن ظاهره يفيد انتفاء الإيمان عمن يفعل مثل هذا الإثم، ولكن هذا الظاهر غير مقصود، وإنما المراد هو أنه لو لاحظ معنى الإيمان المستقر في قلبه، الكامن في أعماق نفسه، واستحضر مراقبةَ الله الذي يعلم ما تكسب كل نفس - لمنعه إيمانُه ودِينه ويقينه من فعل السوء، وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ لأن هذا الإيمان حارس أمين، يمنع من فعل الخبائث والنقائص؛ ذلك لأن المؤمن حقًّا يمنعه الخوف من الله، والحياء منه، من معصية ربه علام الغيوب، القاهر فوق عباده، والإيمان المنفي هنا: هو الإيمان الكامل، الذي يتفاوت فيه المؤمنون، ? وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ? [الذاريات: 55].

 

وقد ورد في شأن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أنه لو وُزن إيمانه بإيمان الأمة، لرجَح إيمانه.

 

وأما الاعتقاد الجازم - وهو الإيمان الحق - إذا نقص بالتردد أو الشك، فلا يكون إيمانًا حقًّا، وقد أجاب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فبين بيانًا شافيًا كافيًا حينما سأله سيدنا جبريل عليه السلام عن الإسلام وعن الإيمان، موضحًا بذلك حقائق هذا الدين القيِّم، وقواعد الإسلام الحنيف في ذلكم الحديث الشريف.

 

وهذه توجيهات وعلامات من القرآن الكريم في أوصاف وجزاء المؤمنين، تقرن الإيمان بالعمل الخيري الجاد، الذي يرشد العقل السليم إلى سواء السبيل.

 

? إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [الرعد: 19].

 

أخبرني عن الإحسان:

((والإحسان أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك؛ ? فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ? [طه: 7].

 

وفي مراقبة الله تعالى سر الحياء، الذي يصون المرء عن ارتكاب المعصية، والله سيصرف السوءَ والفحشاء عن المخلَصين من عباده المتقين، الذين آمنوا وكانوا يتقون، فاعمل أنت ليراك الله؛ فإن الله يسمع ويرى، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، والإحسان يكون متعديًا بـ: إلى؛ كقولك: أحسِنْ إلى جارك، وبغير إلى؛ كأحسن العمل؛ أي: أتقن العمل، وهذا هو المراد هنا، ((وأخلص العمل؛ فإن الناقد بصير)):

 

وهذا الإرشاد من أعظمِ طرق التربية والتعليم، بل هو من جوامع كلِم سيد المرسلين، والله يقول:

? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ? [النحل: 128].

 

والسؤال عن الإحسان كان للاهتمام بقيمة الإحسان؛ لرفعة شأنه، وعلوِّ قدره؛ لأن الله يحب المحسنين، وهو القائل:

? وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ? [القصص: 77]، ? هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ? [الرحمن: 60].

 

وتأمل الجواب، وهو: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه))، ? وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ? [الحديد: 4]؛ فاتق الله حيثما كنت، وكن ممن يخشون ربهم، ولتكن موصولاً بالله أينما حللتَ، وأنَّى وُجِدت، ? وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ? [طه: 132].

 

والله يقول:

? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ? [النازعات: 40، 41]، ويقول الله تبارك وتعالى: ? يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ? [الأحقاف: 31].

 

ويقول:

? وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ? [الزمر: 33، 34].

 

والله يرى ويعلم، ويسمع ويبصر؛ ((فإن لم تكن تراه، فإنه يراك))، وسيرى عمل كل عامل، ذكرًا كان أو أنثى، ولا يضيع أجرَ مَن أحسن عملاً: لا يذهب العُرفُ بين الله والناس.

 

قال: فأخبرني عن الساعة:

قال صلوات الله وسلامه عليه: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، وهذا هو الجواب البليغ، الذي لا يناسب جواب غيره، ولا يستطيع أحد أن يأتي بجواب مثله، من حيث البلاغة والفصاحة، ودقة التعبير، وقوة الإقناع، ووضوح الأمر لأولي الألباب وأهل الفصاحة والبيان، العالمين بأسرار البلاغة.

 

? وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ? [العنكبوت: 43].

 

قال: فأخبرني عن أمارتها:

فأجابه صلى الله عليه وسلم عن الأمارات، وفي رواية: عن أماراتها، موضحًا أشراطها، فقال: ((أن تلد الأَمَةُ ربتها))؛ أي: سيدتها، وكأن التأنيث جاء لمراعاة معنى النفس الآدمية، ذكرًا كان أو أنثى، والأمارة (العلامة)، وفسر العلماء هذا بأنه كناية عن كثرة عقوق الأولاد للأمهات، فكأن المرأة بدل أن تلد ابنًا بارًّا أو البنت البارة - التي تتقرب إلى الله بطاعة أمها، وترى أن الجنة تحت أقدام الأمهات - تلِدُ من الأولاد من يتسلط ويتحكم فيها، ويرى نفسه كأنه سيدها وهي أَمَتُه، وغير ذلك من أقوال الشراح باجتهادهم في هذا، ولا شيء أكثر إراحة من أن علم الساعة عند الله -تعالى- وقد استأثر هو وحده بعلمه: ? إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ? [لقمان: 34]، ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ? [النازعات: 42 - 44].

 

((وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاءِ يتطاولون في البنيان)):

وهذا يشير إلى انقلاب الأحوال، ويرمز إلى انتقال الإمرة والسيادة إلى طَغَامِ الناس، ومنهم الذين يستعمرون بغدرهم أرض الإسلام، ويستأثرون بخيراتها، وأصحاب الأوطان المسلمة لاهون، وفي غمرة ساهون، بعد أن مكن الله لهم في الأرض حينًا من الدهر، وخضعت لسلطانهم جبابرة الطغيان شرقًا وغربًا، والتاريخ يحفظ هذا جيدًا ويَعِيه، والله يقول: ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ? [هود: 117].

 

والله يهَبُ النِّعَم لمن يشاء من العباد، فإذا بدلوا نعمة الله كفرًا، أخذها منهم، وأعطاها لغيرهم، ممن لا يعتد بهم، ممن كانوا بالأمس سُوقة حفاة عراة، عالة أذلاء فقراء، فأصبحوا يتطاولون في البنيان؛ ليذل الله بذلك كبرياءَ الذين طغَوا وبغَوْا؛ ? وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? [طه: 61].

 

وقد تبين لنا أن الإسلام لا يتحقق إلا بقبول الأوامر، واجتناب النواهي، فلا ينفك الإسلام عن الإيمان، ولا الإيمان عن الإسلام، وثمرات الإسلام تظهر بالعمل به، ثم ما هو السر في مجيء جبريل عليه السلام على هذا الوجه في هذا الحديث؟ السر: هو أن ينبههم على أن يسألوا عما فيه فائدة لهم في دِينهم من معنى الإسلام والإيمان والإحسان، فيَقيسوا عليها السؤال عن المهم في الأحكام، وألا يسترسلوا في السؤال عن غير المهم من الأمور، وأما سؤاله عن الساعة، فليعلمهم أنه لا سبيل إلى علمها، فيكفوا عن السؤال عنها، وعن موعدها، وليهتموا بتطبيق الإسلام على أنفسهم عمليًّا، وكذلك الإحسان، وهو يكون بمراقبة الله، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فلنقِفْ بعقلنا المحدود - الذي لا يدرك اللامحدود - عند الحدود؛ فما أوتينا من العلم إلا قليلا، ولنتقِ الله؛ ليعلمنا الله الذي ? عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ? [العلق: 5].

 

هذا هو الإسلام في وضوح أدلته وشَهادة بيانه؛ لأن عقائده لم ترهِقِ العقول بما تعيا عن فهمه، ولكنها ترشد الإنسان إلى ما تدركه نفسه، ويقع عليه حسُّه، ومن مظاهر نعمة الله أن يتعهد العقل بهداة يقوِّمونه إذا زَلَّ، ويرشدونه إذا ضلَّ، ومعهم الأدلة الظاهرة، والبراهين الساطعة، والآيات الباهرة، التي تدل على أنهم رسل من عند الله مبشرون ومنذرون.

 

? الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ? [الأحزاب: 39].

 

وفي الشَّهادتين تبصيرٌ للنفس بإخلاص العمل لله، الذي لا يقال لغيره: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ? [الفاتحة: 5، 6].

 

وفي إقام الصلاة: تذكير للنفس - ليلاً ونهارًا - بعظمة الخالق، والاستعانة به وحده في كل شأن، مع تعظيمه وإجلاله وتبجيله، والخضوع مع الخشوع لله الواحد القهار، وهو القائل: ? اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ? [العنكبوت: 45].

 

قال ابن القيم: الذِّكر ثلاث درجات: أعلاها ذِكر يتواطأ عليه القلب واللسان، ويليه ذكر بالقلب وحده، ويلي هذا الذِّكرُ باللسان وحده، وهو الدرجة الثالثة، والله يقول: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ? [الأحزاب: 41، 42].

 

نماذج أخرى من أدب الحوار:

سُئل سيدنا أبو الدرداء - رضي الله عنه - عن أحسن ما يعطي الله العبد، قال: سَعَة علم، قالوا: فإن لم يكن؟ قال: رجاحة عقل، قالوا: فإن لم يكن؟ قال: صدق لسان، قالوا: فإن لم يكن؟ قال: سكوتٌ طويل، قالوا: فإن لم يكن؟ قال: ميتة عاجلة.

 

أرسل سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بصُرَّةٍ فيها نفقة مع عبده إلى أبي ذر - رضي الله عنه وأرضاه - وقال لعبده: إن قبِلها فأنت حرٌّ، وكان سيدنا أبو ذر فقيرَ المال، ولكنه كان أبيًّا عفيفًا، غنيَّ النفس نزيهًا، فأبى أن يقبَلَها، وردها إلى العبد، فقال له: اقبَلْها يرحمك الله؛ فإن فيها عتقي، فقال: إن كان فيها عتقُك، ففيها رِقِّي، هذه نفوس عالية صنعها الإسلام، ورباها القرآن:

يَعِزُّ غنيُّ النفس إن قلَّ مالُه = ويَغنى غنيُّ المال وَهْو ذليلُ

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله، مَن أكرم الناس؟ قال: ((أتقاهم))، فقالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: ((فيوسفُ ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله))، قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فقُهوا)).

 

هذه نماذج من أدب الحوار الديني بين السائل والمجيب، تريح النفس، وتطمئن القلب؛ فلا شرود ولا شذوذ، لكنه تيسير الإسلام، وتوجيه القرآن، وبيان سنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام.

 

? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? [القمر: 17].


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook