أسباب تأخير العقوبة

الكاتب: المدير -
أسباب تأخير العقوبة
"أسباب تأخير العقوبة




قال تعالى: ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ? [الأنفال: 33].

إن الإسلام دينُ الرحمة، ونبيه صلى الله عليه وسلم نبيُّ الرحمة، فهؤلاء المشركون آذَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذَّبوه، وهمُّوا بقتله، وأخرَجوه، وكان حريصًا على هدايتهم، وكان حزينًا على عدم إيمانهم؛ قال تعالى: ? لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? [الشعراء: 3]، وقال تعالى: ? وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ? [النحل: 127]، ومع ذلك لم يَدْعُ عليهم، بل كان يدعو لهم، ويطلب من الله لهم الهداية، قال الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ? إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ? [الأحزاب: 45، 46].

 

لقد طلب المشركون العذابَ واستعجَلوه وقتَ أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم في مكة، ولم يعجل الله لهم العقوبة، ولم يأمرِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ منها:

1- أن الهدف الأول للدعوة الإسلامية هو بِناء العقيدة السليمة، والتربية الإيمانية، وتتميم مكارم الأخلاق، ولتحقيق ذلك كان هناك وسيلةُ الصبر والحلم، وعدم رد الاعتداء، وعدم القتال، وفي أثناء ذلك كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعمال أسلوب الرفق واللين لعرض الدعوة الجديدة، بتوجيه الأنظار إلى آيات الله الكونية وآياته الإنسانية، وكذلك إسماعهم آيات القرآن الكريم، ودعوة العقل والفكر للتأمل والتدبر، والحوار الهادئ، حتى فتح الله عز وجل قلوبَ كثيرٍ مِن المشركين للدخول في الدين الجديد؛ كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أسلَم لمَّا سمع آياتٍ من كتاب الله تُتْلَى من سورة طه، يقول ابن إسحاق: (فلما قرأ صدرًا منها، قال: ما أحسَنَ هذا الكلامَ وأكرَمَه!)[1]، فقد كان ذلك هو منهج الدعوة في هذه المرحلة، وكانت هذه هي المعركة الأولى للإسلام، وهي معركة البيان، والمقارعة باللسان وبالبرهان.

 

2- الاختلاط والتداخل بين مَن أسلم ومَن لم يسلم على مستوى البيوت والشعاب، وكان المسلمون قلَّة مستضعَفة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُواسيهم، ويعلمهم، ويربيهم؛ ولهذا لم يؤمَر بقتال، ولم يعجل لهم العذاب.

 

3- عدم نزول تشريعات بمكَّة لتُبيِّن حكم القتال والأنفال والأسرى، ولبيان قانون الحرب والسلام، ومتى تكون الحرب وما هي غايتها.

 

4- كانتِ الهجرةُ مِن مكة عنوانًا على إيثار السلام واستبعاد (خيار القتال)، يقول فضيلة الدكتور عبدالله عبدالحي: (كانت الهجرة إيثارًا للسلم، وتفاديًا لما كان سيقع من معاركَ قبَلية، واشتباكات أسرية، مما ينتج عنه الضغائن والأحقاد) [2].

 

ومِن هنا فقد تبيَّن فضلُ الله على البشرية في عدم إنزال العذاب، وفي إمهال المشركين، لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان هذا هو الأمان الأول، أما الأمان الثاني، فهو الاستغفار، ذكر ابن كثير ما رواه الترمذي عن أبي بُردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزَل الله عليَّ أمانينِ لأمَّتي: ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ? [الأنفال: 33]، فإذا مضيتُ تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة))[3].

 

فالاستغفار سببٌ للإمهال وعدم تعجيل العقوبة، وهو سببٌ لرفع البلاء، وعدم نزول المصائب، كما أن الذنوب سببٌ لزوال النعم ونزول النِّقَم، فما من مصيبة إلا بذنب، ولا تُرفع إلا بتوبة واستغفار، فالاستغفار أمانٌ للأمة من العذاب، أما إذا ترك الناس الاستغفارَ، فقد حلَّت المصائب ونزل البلاء، وذاق الناس بعضهم بأسَ بعضٍ.

 

والاستغفار سببٌ لنزول الخيرات والبركات، وسببٌ من أسباب القوة وزيادة الموارد الاقتصادية والبشرية؛ قال تعالى: ? فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ? [نوح: 10 - 12].

 

كما أن الاستغفار سببٌ ووسيلة لرفع الأزمات، وكشف الكربات، وهو المخرَج من كل صعب وعسير، ومن كل ضيق وبليَّة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لزم الاستغفارَ، جعل الله له مِن كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [4].

 

هذا، والاستغفار شكرٌ لله تعالى على نِعَمِه وفضائله، وأهمها النصر على الأعداء، والتمكين للدين، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، كما قال تعالى: ? إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ? [النصر: 1 - 3].

 

أما بالنسبة لهؤلاء المشركين، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم مِن مكة (كما سبقت الإشارة)؛ لأنهم تآمروا على قتله، وأخبَره الله تعالى بمكرهم وما يُدبِّرون، فترك لهم مكة، وهاجَر فرارًا بدينه بعد أن آذَوه وآذَوا أصحابه، وفتَنُوهم وعذَّبوهم، فلم يَعُدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمًا فيهم، وكان هذا هو الأمان الأول مِن العذاب، وقد مضى بالنسبة لهم، ولم تعد له قائمة بينهم.

 

أما الأمان الثاني، وهو الاستغفار، فلقد أصرُّوا على كفرهم وعنادهم واستكبارهم، ولم يتوبوا ولم يستغفروا الله لذنوبهم ومعاصيهم، بل تعقَّبوا المسلمين في موطنهم الجديد، فبذلك استحَقوا العذاب، وهو أن يُعذِّبهم الله تعالى بألمِ الجراح وقطع الرقاب، وضرب البَنان، بالملائكة، وبأيدي رجال مؤمنين موحِّدين، يُحبُّون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبذلون جهدهم، ويضحُّون بأموالهم وأنفسهم لنصرة دين الله، ونصرة المظلومين والمستضعفين في الأرض، إعمالًا لسُنة المدافعة، ومقاومة الشر والشرك، ولتحرير البشر من عبودية البشر، ولإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتكون كلمةُ الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإعمالًا لسُنة الابتلاء، فالله عز وجل إنما شرع مقاومة الباطل وجهاد الكفار وقتال المشركين اختبارًا وتمحيصًا للمؤمنين، ومَحْقًا للكافرين، ولإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين، مع أن الله تعالى قادر وحدَه أن ينصر دينه وينتقم من أعدائه، كما قال تعالى: ? وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ? [محمد: 4]، وكما قال تعالى: ? وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? [آل عمران: 141].

 

لقد شاء الله تعالى ألا يكونَ عذاب هذه الأمة استئصالًا؛ لأنها الأمة الخاتمة، وكان العذاب المقدَّر هو إما أن يُسلِّط الله تعالى الناس بعضهم على بعضٍ، فيذوق بعضُهم بأس بعض، كما جاء في قوله تعالى: ? قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ? [الأنعام: 65].

 

وفي معنى الآية الكريمة خرَّج البخاري رحمه الله تعالى عن جابرٍ رضي الله عنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية: ? قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ? [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، ? أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ? قال: ((أعوذ بوجهك))، ? أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?، قال: ((هذه أهوَنُ وأيسر)).

 

يقول ابن حجر: (وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعًا، فرفع عنهم اثنين، وأبى أن يرفع عنهم اثنين: دعوتُ الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وألا يلبِسهم شِيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأُخريينِ))[5]، فهذا نوع من العذاب أو العقوبة.

 

وهناك نوع آخر من العقوبة والجزاء، هو سُنة الاستبدال، كما جاء في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? [المائدة: 54]، وكما جاء في آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم: ? وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ? [محمد: 38].

 

ومِن هنا، فإن الله تعالى كلَّف المؤمنين به، المصدِّقين برسوله صلى الله عليه وسلم، العامِلين بكتابه، الداعين إلى دينه - أن يقاوِموا الباطل، ويجادلوا أهل الشرك باللسان والبيان، والحجة والبرهان، ثم بمدافعة أهل الباطل بكل ما يملك المؤمنون من قوة إذا دَعَتِ الضرورة وتحتَّمت المواجهة.

 

ولهذا وجب على الدعاة أن يشرحوا للناس سُنة الله تعالى في كونه وفي خُلقه، ويبيِّنوا للناس ما يجب عليهم تجاه دينهم، وأن يحذروهم من عقاب الله وعذابه، فالله تعالى يُمهِل عباده ولا يعجل بالعقوبة، ويحلم ويصبر، ويُملِي ويستدرج، حتى إذا أخذ فإن أخذه أليم شديد، فالله تعالى رحيم، لكن عذابه أليم، وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، كما أنها لا تحابي ولا تجامل، فقوانين الله تعالى صارمة، فتأمَّلْ!




[1] السيرة النبوية؛ لابن هشام، ج1، ص 335.

[2] الدعوة الإسلامية وموقفها من القتال، رسالة دكتوراه، كلية أصول الدين، القاهرة، ص 105.

[3] تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير، ص 305، وانظر سنن الترمذي، كتاب التفسير، رقم 3082، ص 785، وقال الترمذي: حديث غريب.

[4] رواه أبو داود، وابن ماجه، وانظر: رياض الصالحين، حديث رقم 1875، ص 616، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

[5] فتح الباري، باب (قل هو القادر...)، ج8، ص 234.


"
شارك المقالة:
38 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook