أسلوب الإيحاء في الدعوة (متطلباته ومجالاته)

الكاتب: المدير -
أسلوب الإيحاء في الدعوة (متطلباته ومجالاته)
"أسلوب الإيحاء في الدعوة
(متطلباته ومجالاته)




الإيحاء لغة: مشتق من كلمة أوحى، والوحي: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك.

 

يقال: أوحى إلى فلان إيحاء: أي أشار وأومأ، وأوحيت إليه الكلام ووحيت: هو أن تكلمه بكلام تخفيه[1].

 

والإيحاء من أساليب الدعوة غير المباشرة، والمقصود بأسلوب الإيحاء: إيصال القناعة بفكرة ما إلى ذهن الطالبة، عن غير التلقين والأمر المباشر، فقد يكون تعريضا أو عن طريق قصة مثلا، فيكون الإيحاء باستخدام (التشبيه والتمثيل أو الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو التعريض، إلى غير ذلك مما يُكتفى فيه بدلالة اللوازم الفكرية، ولا تكون الدلالة على المعنى المراد بمنطوق اللفظ، بل بدلالة اللوازم الفكرية، فيأتي المعنى المقصود مستخفياً متوارياً بأقنعة متباينة الكثافة، تعطي جمالاً ولا تحجب الرؤية عن قاصدها ذي النظر العادي)[2].

 

ويكون الإيحاء بلسان المقال، كأن تتحدث المعلمة بكلام عن غير الفكرة المقصودة، وتنبِّه ضمنا في الوقت ذاته عنها، أو بلسان الحال، بأن تفعل ما يدل عليها، أو تترك فعل ما يأمر بها.

 

وتبرز أهمية أسلوب الإيحاء كونه من الأساليب النفسية غير المباشرة، وقد يكون أحيانا أشد تأثيرا من الدعوة الصريحة المباشرة، فمن حكمة الداعية أن تصرف الطالبة عن الرذيلة إلى الفضيلة، بتلويح في المقال، وتعريض في الخطاب -ما أمكن- فإن الطالبة إذا فهمت المقصود منها، كان أوقع في نفسها، وأعظم تأثيرا في قلبها، مع مراعاة حرمتها بترك المجاهرة والتوبيخ[3].

 

أهمية استخدام أسلوب الإيحاء:

1- إن أسلوب الإيحاء له أثر كبير مع ذوات النفوس المتصلبة، الرافضة للحق المعاندة، وفيه تجاوز لهذه العقبات الصادة عن الحق، في ذات الوقت هو إشعار بحفظ كرامة الطالبة وحفظ ماء وجهها.

 

2- اقتناع الطالبة بالفكرة المطروحة عليها، يكون بشكل أكبر مما لو عُرضت عليها مباشرة، إذ تشعر بأنها هي مُنطلق الفكرة وصاحبتها.

 

3- مراعاة أسلوب الإيحاء للتفاوت العقلي واختلاف النفسيات عند الطالبات، لتفاوت انطباعاتهنّ وإدراكهنّ لما وراء القول والفعل، أو التوجيه، فتفهم كل واحدة منهنّ بحسبها، وهذا يؤدي إلى تأثر شريحة أكبر خاصة إذا كان الإيحاء واضحا وعمليا.

 

مجالات استخدام أسلوب الإيحاء:

أما أهم مجالات استخدام أسلوب الإيحاء في الدعوة إلى الله، فهي كما يأتي:

1- في الحث على القيام بالأعمال الصالحة، إما بتبيين أجرها وثوابها، أو بالتعريض في التوجيه إليها كالمدح والثناء للفت الانتباه، كقوله - صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما[4]: (( نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)). فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلا)[5].

 

أو بالمقارنة بين فضيلة القيام بالأعمال الصالحة، ومراتبها واختلاف أجرها، لتدفع بالطالبات إلى الوصول إلى المرتبة الأعلى كقوله تعالى: ? لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ? [6]، فيقرر تعالى أن الذي ينفق ويقاتل في حال قلة الأنصار، وغربة الدين، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء، غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثر، والغلبة والفوز قريب المنال[7].

 

2- في البيئات التي تستلزم مراعاة نفسيات المدعوات ومشاعرهنّ، إما لشدة الحساسية عند هؤلاء، أو لإرادة الستر عليهنّ، في مواقف تصحيح الخطأ مثلا، وذلك باستخدام الأسلوب النبوي: (ما بال أقوام)، إشارة إلى طالبات وقعن في أخطاء، وللداعية عليهنّ ملحوظات، فتنبه إلى ما تريد دون جرح لمشاعر إحدهنّ[8].

 

3- إذا لم تجد الأساليب الدعوية المباشرة، أو عند توقع عدم جدواها، إما لوجود موانع في نفس الطالبة كالكبر والعجب، أو لعوامل أخرى تصدها عن القبول لشرفها ومكانتها، فاستعمال الداعية لأسلوب الإيحاء، يجاوز بها هذه العقبة، وتنفذ بالدعوة إلى قلب الطالبة، دون أن تشعر بالمساس لكرامتها أو الإهانة لشرفها، لأن التصريح قد يدفعها إلى الجرأة و الإعراض، كما أنه قد يحرضّها على الإصرار على الباطل.

 

4- عند الرغبة في توجيه عاطفة الحب في الله والبغض في الله عند الطالبات، فالداعية إذا أرادت غرس محبة شخص ما – حيا أو ميتا - بالغت في وصفه بمكارم الخصال، وأبرزت محاسنه، فلا تملك الطالبة إلا توقيره ومحبته، وإذا أرادت تبغيضها في شخص ما بالغت في وصفه بأقبح الصفات وأبرزت نواقصه، فتبغضه الطالبة، وكيف يحب المسلمون الصحابة والسلف الصالح إلا بما أثر عنهم من جميل الأخلاق، وكيف يكرهون أهل الشرك والكفر إلا بما ذكر عنهم من القبائح والسوء.

 

5- عندما تريد المعلمة الداعية أن تغير سلوك الطالبة وتعدله وترتقي به، فتعمل على تغيير مفهوم الطالبة عن نفسها، بإبراز الجوانب الطيبة المتميزة فيها، مع تحفيزها باستمرار نحو الخير، والبعد عن لومها وتحقيرها على سلوكها الخاطئ[9].

 

متطلبات نجاح هذا الأسلوب:

تتمثل متطلبات نجاح أسلوب الإيحاء في الميدان الدعوي في بيئة طالبات المرحلة الثانوية فيما يأتي:

1- مراعاة الفروق الفردية، والاستعدادات الذهنية والنفسية عند المدعوات، فلا تخاطبهنّ الداعية بما هو فوق مستوى عقولهنّ، فإذا كانت الداعية مطالبة-أثناء توجيه خطابها المباشر- بأن تحدث طالباتها على قدر عقولهنّ: ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)[10]، فمن باب أولى مراعاة ذلك إذا أريد من المدعوات التلقي السليم لما توحي به معلمتهنّ، و قراءة ما وراء السطور، ولضمان صحة الفهم، إذ إن الغالب أن يبادر إلى فهم ذلك ذوات الأذهان المنفتحة، اللمّاحة سريعات الفهم، بينما تتأخر من هي دونهنّ في المستوى الذهني، ولئلا يطلب منهنّ ما هو فوق مستواهنّ العقلي.

 

2- التنويع في أسلوب الإيحاء، فيكون أحيانا قوليا، كالثناء والمدح بجميل خصال الطالبة لحثها على الخير، وأحيانا بالإيحاء الفعلي، كالإقبال والبشاشة على الطالبة المحسنة، أو الإعراض والترك للتنفير من خصال السوء، كما يكون الإيحاء بما يظهر على أسارير الوجه من انفعالات، تبلّغ بها الداعية إلى من حولها ما تريد قوله، وقد كان الصحابة يقرءون تعابير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم ويدركون المقصود منها غالبا، مثل قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - [11] يصف النبي - صلى الله عليه وسلم: ((وكان رسول الله إذا سُرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه))[12]، وكذلك تعبيره - صلى الله عليه وسلم عن الغضب المعتمل في نفسه وعدم الرضا، كقوله - رضي الله عنه - في شأن تخلفه عن غزوة تبوك: (( فجئته، فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسُّم المغضب))[13].

 

3- أن يسبق أسلوب الإيحاء إثارة لمكامن الإحساس في نفس الطالبة، كذكرها بخير ووصفها بالوصف الجميل، كأن تبين ما لها من مكانة، وما فيها من فضل، وما عليها من نعمة، لينجذب قلبها إليها، فتعدّها لفهم ما تريد، فالطالبة التي ترى لنفسها شرفا ورفعة وفضلا، تترفع عن الدنايا التي تدنس شرفها، وتذهب بفضلها، أما التي ترى نفسها دنية وضيعة فإنها لا تبالي ما تفعل، فمن حكمة الداعية هنا ذكر ما في المخاطبة من فضل وما لها من شرف ومنزلة، ليكون ذلك أدعى لتخلّيها عما هي فيه من ضلال، وإقبالها على الهدى والخير[14].

 

ويحسن بعد استخدام هذا الأسلوب، التحاور مع الطالبات، للتأكد من متابعتهنّ وفهمهنّ لما أوحت به إليهنّ، لتختبر مدى إدراكهنّ لقصدها، ومدى تأثر واستجابة عواطفهنّ وأحاسيسهنّ وانفعالاتهنّ لها.




[1] ينظر: الصحاح، فصل الواو من باب الواو والياء 6 /2520، والمنجد ص 891.

[2] فقه الدعوة إلى الله: عبد الرحمن الميداني 1 /439.

[3] ينظر: هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة: الشيخ علي محفوظ ص 117.

[4] عبد الله بن عمر بن نفيل القرشي العدوي، أسلم صغيرا وهاجر مع أبيه، ولم يجز في بدر وأحد، وأول غزواته الخندق، ممن بايع تحت الشجرة، كان حريصا على اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآثاره حتى خيف على عقله، توفي - رضي الله عنه - بمكة سنة 74هـ وعمره 84سنة. ينظر: سير أعلام النبلاء2 /203، والإصابة في أسماء الصحابة 2/347.

[5] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب الأخذ على اليمين في النوم، ح7028( فتح الباري12 /418)، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما4 /1928ح 2479 واللفظ له.

[6] سورة الحديد: جزء من آية 10.

[7] ينظر: في ظلال القرآن 6 /3484.

[8] ينظر: علم النفس الدعوي: د.عبد العزيز النغيمشي ص 290.

[9] ينظر: علم نفس المراحل العمرية: د. عمر المفدى ص 346-347.

[10] صحيح البخاري، سبق تخريجه ص 127.

[11] كعب بن مالك بن عمرو بن القين الأنصاري الخزرجي العقبي الأحدي، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليه، وقصته مشهورة، مات- رضي الله عنه - سنة 40 أو 50هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 2 /523، والإصابة في أسماء الصحابة 3 /302.

[12] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، ح4418( فتح الباري 8 /116)

[13] المرجع السابق 8/ 114.

[14] ينظر: هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة: الشيخ علي محفوظ ص 120-121.


"
شارك المقالة:
35 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook