أشباه الوعاظ

الكاتب: المدير -
أشباه الوعاظ
"أشباه الوعاظ




مُنِي الوعظ والوعاظ في هذا العهد بطائفة من المُسْتَجْدِين، حفظوا بعض كلمات يرددونها في المساجد، ويستدرُّون بها عطفَ المصلِّين وإحسانهم، وقد بلغت الجراءة والقحة ببعضهم أن ادَّعى أنه واعظ رسمي من قِبَل الأزهر، وتسمَّى باسم أحد وعاظ الإسكندرية، ولا أدرى كيف مرت هذه الفِرية المكشوفة، والخدعة السخيفة على إمام المسجد - وكان حاضرًا - دون أن يعرف حقيقة هذا المفتري ويقفه عند حده، ويعلمه أن أساس الدعوة إلى الله الصدق والأمانة والخلق الفاضل الكريم؟




والعجب: أن بعض هؤلاء الشرذمة يُعجِبُ السامعين قولُه، فيتأثرون به بعض التأثُّرِ، وما هي إلا دقائق حتى يرفع الستار وتنكشف الحيلة، وتختم العِظَةُ - إن صح أن نسميَها عظة - بأنه عالم فقير، أو واعظٌ متطوع، أو رحَّالة متجول، أو ابن سبيل منقطع، إلى غير ذلك من أساليب المساءلة والاستجداء.

 

كان المستجدون - ولا يزالون - يصارحون الناس حاجتهم، وأحيانًا كانوا يتوسلون إليها بإمام المسجد، أو بالواعظ إن صادفوه، إلا أن الوعَّاظ أعرفُ الناس بهؤلاء الدجاجلة، فلم يكونوا ليمكِّنوهم من بُغيتِهم، فضلاً عن أن يساعدوهم عليها، ولكن قضى التجديدُ في سؤال الناس واستدرار عطفهم أن يقدم فريق من هؤلاء مقدمةً من الوعظ والإرشاد بين يدي مسألته وادِّعائه.

 

إن هذا الصنف من الدُّخلاءِ والمدلسين قد أساؤوا إلى أنفسهم وإلى الناس جميعًا، بل أساؤوا إلى الوعَّاظ، وإن كانوا لا يشعرون؛ أساؤوا إلى أنفسهم؛ حيث غشوها ودنسوها، وألبسوها لباسَ الذِّلة والهوان، والضراعة والاستخذاء، وأعدوا لها خزيًا عظيمًا يومَ يلقون الله وليس في وجوههم مُزعةُ لحم، وأساؤوا إلى الناس؛ لأنهم بتَكْرارِ صنيعهم هذا يوشكون أن يصدوا الناسَ عن الدعوة الخالصة، ويحرموهم الاستماعَ إلى العِظاتِ الصادقة، والنصائح الحكيمة، غيرَ أننا نحمد الله سبحانه أن جعل للصادقين علائم واضحة، ودلائل ساطعة، ورزق المخلصين قوةَ التأثير والنفع، ووسَمَ هؤلاء الكذابين بسيما الذِّلةِ والخزي، فإن وقَعَ الناس في حبائلهم مرةً فإنهم لا يُلدغون منهم مرة أخرى، والجماهير كلُّها بحمد الله - إلا قليلاً منهم - أضحت على حَذَرٍ من المحتالين والأفَّاكين، وتنبَّهت بفضل تعميم الوعظ والإرشاد إلى مواطن الإحسان والمواضع الجديرة بالرعاية والعطف، ثم أساؤوا إلى الوعظ والدعوة إلى الله؛ لأنها أبعدُ الأشياء عن استعطاف الناس والإثقال عليهم، وتكليفهم شيئًا ما جليلاً أو حقيرًا، فلو اقترنت بأي لون من ألوان المادة، أو صبغة من صبغ الازدراء، لانفضَّ الناس ونفروا كل النفور منها.

 

ولقد بلغ من حِيطةِ الوعاظ وبعدِهم عن الريبة أنهم لا يعلنون عن مجلتهم، ولا يدعون الجماهير إلى الاشتراك فيها؛ خشيةَ أن يظن ظانٌّ أنهم يكلفون الناس شيئًا، والناس أحباؤك وأصحابك، والمستمعون إليك والمنتفعون بوعظك وهديك، ما عففتَ عنهم وكنت خفيفًا عليهم، فإذا ما أثقلتَهم، فعلى وعظِك وإرشادك العفاء.

 

كنتُ بالفيوم أُلقي محاضرة أسبوعية بمسجد المركز الجامع، فسمِعْتُ بأذني ذاتَ ليلة عقب منصرفي من المحاضرة ريفيًّا يقول لصاحبه: ألم تسمَعْ درس الوعظ بالمسجد الكبير؟ قال: يا عم دَعْنا؛ هؤلاء وعَّاظ الحكومة يتقاضون مرتبًا، الواعظ الحقيقي: هو الذي يَعِظُ الناس متبرعًا، لا يأخذ على وعظه أجرًا، قال له صاحبه: عجبًا لك! أتريده يَعِظُ الناس ويرشدهم ثم يأتي إليك مستجديًا؟ أو تعطف عليه؟ ها أنت ذا لم تحضر درسه، ولم يطلب منك شيئًا، فكيف بك إذا طلب؟ إن أكبر حسنة للحكومة هي توليةُ هؤلاء الوعاظ، يعلِّمون ولا يسألون على تعليمهم أجرًا.

 

عجبتُ لهذه الحجج الفِطرية الدامغة التي دافع بها عن الوعاظ محامٍ ريفيٌّ على الفطرة والبداهة، وما أعتقد إلا أنه أميٌّ، وهنا حمِدتُ اللهَ تعالى أنه وفَّقَ هذا وهداه إلى أن يتطوَّع بالدفاع عني وعن إخواني، لا يريد منا جزاء ولا شكورًا، ثم خفَّفْتُ الوطءَ لأستمع إلى جواب صاحبه، فما سمعته أحار جوابًا.

 

وذكرت ساعتئذٍ ما كان يدور بخَلَدي من تفضيل التدريس على الوعظ، حتى لقد همت بالعدول عنه حبًّا في أن أعِظَ متطوعًا غيرَ مكلف.

 

وبعد، أفليس في هذه المحاورة الفطرية - وأنِ انتُصِرَ فيها للوعاظ - تصوير لتقدير العامة للوعظ، وأنه ينبغي أن يكون أبعدَ شيء عن الإثقال والسؤال والعرض والطلب، وكأني بهم يريدون من الواعظِ أن يكون ملكًا لا يأكل ولا يشرب، ولا يمشي في الأسواق، وقديمًا اعترض الكفار الرسلَ، ونقموا منهم أنهم بشر، وأنهم يأكلون ويشربون.

 

ألاَ إن الدعوة إلى الله والداعين إليه لَيبرؤون من صنيع هؤلاء، ويحذرونهم من سوء منقلبهم، وينصحون إليهم ألا يجعلوا دينَ الله والدعوةَ باسمه مرتزقًا لهم ومعاشًا، فليمشوا في مناكب الأرض، وليبتغوا من فضل الله، والله خير الرازقين.

 

الإسلام السنة 6، العدد 7، 19 من صفر 1356هـ، 30 أبريل 1937


"
شارك المقالة:
31 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook