أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل

الكاتب: المدير -
أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل
"أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي أحد أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وجد النبي صلى الله عليه وسلم خيمة لأعرابي، فنزل في ضيافته، فأكرم ذلك الأعرابي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد الجميل كعادته، كيف لا، وهو القائل: ((من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه))؟! فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأعرابي أن يأتيه ليكرمه، فلما جاءه، قال له النبي: ((سل حاجتك))؛ أي: اطلب ما تشاء، فماذا تتوقعون أن يطلب هذا الأعرابي وهو أمام نبي وحاكم؛ بل أمام أفضل الأنبياء والمرسلين عند الله عز وجل، أمام نبي لو سأل الله عز وجل لأحد شيئًا من أمر الدنيا أو الآخرة فلا يرد طلبه؛ ولكن ذلك الأعرابي لم يغتنم الفرصة، نعم، إنها فرصة العمر التي قد لا تعود إليه، فلم يسأل الدرجة العالية من الجنة، ولم يسأل مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ بل ولم يسأل أن يكون غنيًّا في الدنيا؛ لعله أن يستفيد من هذا المال بالتقرب إلى الله عز وجل بإكثار الصدقات ومساعدة المحتاجين؛ وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ناقة ليركبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي ولبقية الصحابة الحاضرين: ((أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل)؟!

 

فما قصة عجوز بني إسرائيل؟

لنتحدث عن حال كثير من الناس، ممن اغتروا بهذه الحياة، فجعلوا الدنيا أكبر همِّهم، فحرصوا على متاعها فقط، وتغافلوا عن آخرتهم التي إليها معادهم، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم ويقينهم بالآخرة.

 

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعهَّدنا ائتنا))، فأتاه الأعرابي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سل حاجتك))، فقال: ناقة برحلها، وأعنز يحلبها أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل))؟ فقال أصحابه: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: ((إن موسى، لما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت، أخذ علينا موثقًا من الله تعالى أن لا نخرج من مصر، حتى ننقل عظامه معنا، قال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا عجوزًا من بني إسرائيل، فبعث إليها فأتته، فقال: دلوني على قبر يوسف، قالت: لا والله، لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة، فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: أن أعطها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا، قالت: احفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلما أقلوها من الأرض، إذ الطريق مثل ضوء النهار))؛ رواه الحاكم، وأبو يعلى، وصححه الألباني.

 

هذا الحديث لا يتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)؛ لأن المقصود بالعظام هنا البدن.

 

وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله، يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: ((بلى))، فاتخذ له منبرًا مرقاتين– أي: له درجتان- رواه أبو داود، فهم يطلقون العظام، ويريدون البدن كله، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

 

لقد تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الأعرابي، فإنه لم يطلب من أمور الآخرة شيئًا، فلم يقل كما قال ذلك الصحابي الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم له الوضوء، ثم قال له: يا رسول الله، حاجتي، قال: ((وما حاجتك))؟ قال: حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال: ((ومن دلَّكَ على هذا؟)) قال: ربي، قال: ((إمَّا لا، فأعِنِّي بكثرة السجود))، فاستغل هذا الرجل هذه الفرصة العظيمة، حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألك حاجة؟)) واستغلها صحابة آخرون، ومنهم عكاشة رضي الله عنها حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل الجنة من أمته سبعون ألفًا بلا حساب ولا عذاب، فقال عكاشة: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((اللهم اجعله منهم))، فاغتنم هذه الفرصة، فأصبح أسعد رجل في العالم؛ لأنه ضمن دخول الجنة بلا حساب.

 

ولكن هذا الأعرابي لم تكن همته عالية، فلم يسأل عن أمور الآخرة، وهو في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولم يسأل من أمور الدنيا الشيء الكبير والعظيم؛ وإنما سأل أن يمنح بعيرًا وغنيمات، يمكنه أن يطلب ذلك كله من أي تاجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟!))؛ لأنها كانت امرأة ذكية، لم تسأل موسى عليه السلام عَرَضًا من أعراض الدنيا زائلًا.

 

فالشاهد من هذه القصة، أن المسلم في هذه الحياة عليه أن يغتنم الفرص التي تمر عليه وقد لا تتكرر؛ ولكن هل هناك نبي من الأنبياء في عصرنا الحاضر يمكن أن نذهب إليه فنقول له: ادع الله لنا؟ أو أن نغتنم الفرصة عنده، فنعرض عليه حاجاتنا؟

 

الحقيقة أنه لا يوجد نبي بعد وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهو القائل: ((إنه لا نبي بعدي))، فباب النبي صلى الله عليه وسلم قد أغلق بوفاته، فلا يشرع لأحد الآن أن يتوجه إليه ليسأله أو يطلب الدعاء منه، حتى الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك.

 

لما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس يستسقي، لم يتوجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليتوسل به؛ وإنما توجه إلى العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون، فلم يتوجه عمر رضي الله عنه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليطلب منه الحاجات، فكذلك حالنا، فلا يشرع لنا التوجه إلى قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا إلى قبر أي رجل صالح، فنعرض عليه حاجاتنا، أو أن نقول له: ادع الله لنا.

 

فإذا كان باب النبي صلى الله عليه وسلم قد أغلق بوفاته صلى الله عليه وسلم، فهناك باب عظيم لم يغلق؛ وهو باب الله جل وعلا، قال تعالى: ? وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر: 60]، والذي قال عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا))، إن هذا الباب العظيم قد ضيعه وفرط فيه كثير من الناس، ((تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي منادٍ: هل من داعٍ فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مكروب فيفرج عنه؟)) ونحن نائمون، بل قد نكون مستيقظين، فنصف الليل في دول الخليج العربي يبدأ الساعة الحادية عشرة والنصف في غالب أيام السنة، ومعظم الناس مستيقظون في هذا الوقت، ولكنهم ينشغلون عنه، فكم ضيعنا من فرص عظيمة لنسأل حاجاتنا، ونعرضها على الجواد الكريم؟! ولا يخفى على الجميع فضل الدعاء، وأن الداعي لن يخسر بدعائه شيئًا، فإما أن يستجيب الله له ولو بعد حين، أو يدخره له يوم القيامة، أو يصرف عنه السوء.

 

كما أن هناك أوقاتًا أخرى يُستجاب فيها الدعاء، فتسأل فيها حاجتك، فعند السجود تكون أقرب إلى ربك، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الدعاء أثناء السجود، فقمن أن يُستجاب لنا، وكذلك بعد كل أذان، فإذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء، فلا تكونوا مثل ذلك الأعرابي، وكونوا كعجوز بني إسرائيل، التي أهمَّها أمرُ الآخرة، فحقَّق الله مرادها.

 

إن قصة الأعرابي وقصة عجوز بني إسرائيل تمدنا بفوائد ودروس عديدة، أجملها في فائدتين:

أولها: ينبغي عليك إذا سألت الله عز وجل أن لا تسأله عن أمور الدنيا فقط، وتنسى أمر الآخرة؛ ولذلك جاء قوله تعالى: ? فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ? [البقرة: 200]، في معرض تصحيح مفاهيم وأخطاء، كان أهل الجاهلية يرتكبونها أثناء حجهم؛ أنهم كانوا يسألون الله عز وجل لأمور دنياهم ومعاشهم فحسب، ويغفلون عن أمر آخرتهم.

 

فالمسلم ينبغي أن يكون دعاؤه يشمل خيري الدنيا والآخرة، فقال الله مؤدبًا: ? وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [البقرة: 201]، فبعض الناس تراه يسأل الله عن أمور معاشه، وتفريج مشاكله فقط، ولا يسأله مغفرة أو رفعة درجات في الجنة أو اللطف من كربات يوم القيامة، وإن سأل عن ذلك لم يكثر، فأنت تسأل غنيًّا كريمًا، عنده أمر الدنيا والآخرة.

 

والأمر الثاني: اطلب الدنيا على قدر بقائك فيها، واطلب الآخرة على قدر بقائك فيها؛ لذلك لا تعلق قلبك بالدنيا الفانية، فتشغله عن الآخرة وهي الباقية، فذلك الأعرابي لما تعلق قلبه بالإبل كثيرًا سأل عنها، وغفل عما هو أهم منها.

 

وهناك أعرابي آخر- قيل: إنه منافق- أشغله بحثه عن جَمَلِه عن الفوز بالمغفرة، فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يصعد الثَّنِيَّة- ثنية المُرار- فإنه يُحَطُّ عنه ما حُطَّ عن بني إسرائيل))- وثنية المرار طريق بين جبلين عند الحديبية - قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تَتامَّ الناسُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وكلكم مغفور له إلا صاحب الجَمَل الأحمر))، فأتيناه– أي: أتوا إلى صاحب الجَمَل الأحمر- فقلنا له: تعالَ يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجل ينشد ضالة له؛ رواه مسلم.

 

ولذلك حذرنا صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((من كانت الآخرةُ همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه.

 

واعلم يا أخي، أن أعظم الفرص لتغتنمها هي: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك.

 

جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


"
شارك المقالة:
34 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook