أعداء الدعوة

الكاتب: المدير -
أعداء الدعوة
"أعداء الدعوة




قال تعالى: ? إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ? [الأنفال: 49 - 54].

 

لقد بات واضحًا أن أعداء الدعوة ثلاثة أصناف: صنف ظاهر يعمل في وضوح، وصنفان يعملان في خفاء:

أما الصنف الظاهر، فهم المشركون المتمثلون في كفار مكة، وهم الذين خرجوا بطرًا ورئاءَ الناس؛ ليصُدُّوا عن سبيل الله.

وأما الصنفان اللذان يعملان في خفاء، فهما الشيطان والمنافقون، وقد سبق الحديث عن المشركين وأفعالهم القبيحة، وعن الشيطان ودوره في تزيين أعمال المشركين، وتحريضهم على قتال المسلمين، ويبقى الحديث عن المنافقين:

أولًا: معنى النفاق - لغةً -: يُقال: نَفَقَتِ الدراهمُ: نَفِدَتْ، وهو يبتغي نفقًا في الأرض، وأخذوا عليه الإنفاق، ونفق اليربوع - (حيوان كالفأر) - وانتفق: خرج من نافقائه، ونفق ونافَق: دخل فيها، وتنفقته: أخرجته منها[1].

 

ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي:

(المنافق: كلمة مأخوذة من نافقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر، يعيش في الجبال في سراديب، وحين يتتبَّعه حيوان آخر ليفترسه، فهو يُسرِع إلى جحره الذي يُشبِه السرداب، وهو يفتح أكثر مِن فتحة لهذا الجحر لتكون مخارج له، ومثل هذه الفتحات كالأبواب الخلفية، فينجو من الافتراس، فكأنه فتح لنفسه نفقًا يُنافق منه غيره، فلا يقوى على اللحاق به؛ ولذلك نجد المنافق متعارِضًا مع نفسه، ينطق لسانُه بما لا يؤمن به، متخبِّطًا مع نفسه، لسانُه يقول كلمات الإيمان، وقلبه يضمر الكفر)[2].

 

أما في الاصطلاح: فقد جاء في أصول الدعوة: المنافق في الاصطلاح الشرعي هو الذي يُظهِر غير ما يُبطِنه ويُخفِيه، فإن كان الذي يخفيه التكذيبَ بأصول الإيمان، فهو المنافق الخالص، وحكمُه في الآخرة حكم الكافر، وقد يزيد عليه في العذاب؛ لخداعه المؤمنين بما يُظهِره لهم من الإسلام، قال تعالى: ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ? [النساء: 145]، وإن كان الذي يُخفِيه غيرَ الكفر بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو شيء من المعصية لله، فهو الذي فيه شعبة أو أكثر مِن شُعَب النفاق) [3]، فالنفاق: إظهار الخير، وإبطان الشر.

 

ثانيًا: النفاق والرياء: هناك فرق بين النفاق والرياء؛ يقول الرازي:

(الرياء: عبارةٌ عن القصد إلى إظهار الجميل، مع أن باطنه يكون قبيحًا، والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية) [4].

 

ثالثًا: المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ: هل هما صنفانِ، أم صنف واحد؟

إن المنافقين - كما سبق وتبيَّن - هم الذين يُضمِرون الكفر والكراهية للإسلام، ويُظهِرون غير ذلك، والذي دفعهم إلى هذا التلون هو أنهم مُذَبْذَبون بين قوتينِ؛ قوة الإسلام الصاعدة، وقوة الكفر المولِّية، وهم ليسوا على يقينٍ لمَن ستكون الغلبة والسيطرة، فهم مِن ناحيةٍ متمسِّكون بالثوابت القديمة، ومِن ناحيةٍ أخرى فهم غير مطمئنين لعواقب الأمور؛ ولهذا فإن صنف الذين في قلوبهم مرضٌ، هم المؤهَّلون للحصول على درجة المنافقين ولنَيْل هذا اللقب، وليكونوا في زُمْرتهم، وفي هذا يقول عز وجل: ? فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? [البقرة: 10]، على أن أمورًا يجب إلقاء الضوء عليها في قوله تعالى: ? إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ? [الأنفال: 49]:

1- أن حرف العطف (الواو) يقتضي المغايرة، مع أن بعض المفسرين قالوا: إن ? فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ? صفة للمنافقين، فالواو داخلةٌ بين المفسَّر والمفسِّر، كما قيل أيضًا: إن ? فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ? هم المنافقون، والعطف تفسيرٌ[5].

 

2- أن المراد بالمرض: الإِحَن والعداوات، وقيل: الشك، وقيل: الشبهة[6].

 

3- أن الذين قالوا هذه المقالة ? غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ? هم (قومٌ كانوا مِن المنافقين بمكة، وقيل: هم قوم كانوا أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأَوْا قلة المسلمين قالوا: ? غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ?، وقيل: هم قومٌ لم يشهَدوا القتال مع المسلمين يوم بدر) [7].

 

أما القول بأن القائل هم قومٌ كانوا من المنافقين بمكة، فهو قول فيه نظر؛ ذلك لأنه لم يكن بمكة نفاقٌ، وأن النفاق إنما ظهر ونشأ بالمدينة؛ وذلك لوجود عدَّة قوى وجبهات: جبهة المشركين الذين لم يُسلِموا بعد، ومعهم اليهود، وجبهة المسلمين المؤمنين بالدعوة الجديدة، وعلى هذا فإن ظاهرة النفاق وُلِدت في المدينة، ولم يكن بمكة نفاق، جاء في كتاب (أصول الدعوة):

(عندما تنتصر الدعوة إلى الله في المجتمع الكافر، وتعلو كلمة الله تعالى، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا، وتستأصل قوة الكفر، ويذهب سلطان الكافرين، فتكون القوة والمَنَعة للمسلمين - عند ذلك يمكن أن يوجد المنافقون، الذين لم يؤمنوا مع المؤمنين، ولم يَبْقَوا على كفرهم ظاهرينَ معروفين مع الكافرين؛ خوفًا من سطوة المسلمين، فيُبطِنون الكفر ويُظهِرون الإسلام، وعلى هذا فالنفاق لا يوجد إذا كانت الغلبة والسطوة والسلطة للكفار؛ لأنه لا خوف في هذه الحالة من إظهار الكفر والتمرُّد على الإسلام؛ ولهذا لم يكن أحدٌ من المسلمين منافقًا في مكة قبل الهجرة إلى المدينة؛ لأن المسلمين كانوا قلَّةً، مستضعَفين، لا حول لهم ولا قوة ولا سلطان، وإنما السلطان لكفار قريش، ولكن بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينةِ، وصار للمسلمين قوةٌ وسلطان، وانتشر الإسلام في المدينة - ظهر النفاق والمنافقون) [8].

 

ومما سبق يتضح ما يلي:

أ‌- أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض هما صنفانِ؛ الثاني يسير في الطريق إلى الأول، وأن اتِّحاد المقولة دليلٌ على اتحاد المواقف والأهداف، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ لا يريدون للدعوة خيرًا، ويتحيَّنُون الفُرَص للنَّيْل منها، وإيذاء أصحابها بالقول وبالفعل إن أمكن، فليرتِّبِ الدعاةُ أوراقهم وينتبِهوا للأعداء الجدد والذين يعملون في خفاء، وتتلوَّن مواقفهم حسب حال الدعوة من القوة أو الضعف، فهم أخطر أعداء الدعوة!

 

ب‌- أن أعداء الدعوة كثيرون، وهم حتى الآن (حتى مرحلة بدر) مشركو مكة، والشيطان، والمنافقون (الذين ظهروا مؤخرًا)، والذين في قلوبهم مرض (وهم المرشحون لنَيْل درجة النفاق)، ولكل صنفٍ مِن هؤلاء ما يُناسِبه من وسائل وأساليب على طريق المواجهة، فالمشركون يُدْعَون باللِّين أولًا، ثم بالترغيب والترهيب ثانيًا، ثم بالضرب فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم، مع إمضاء سُنة الأولين بمدافعتهم وإعمال السيف فيهم، قال تعالى: ? قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? [الأنفال: 38 - 40].

 

ومواجهة الشيطان إنما تكون بالاستعانة والاستعاذة بالله، وتحقيق العبودية الخالصة لله رب العالمين، وتجنُّب خطواته ونزغاته وطُرُقه، وأما المنافقون، فلا شكَّ أنهم يُعامَلون بظاهر أمرهم، والله يتولَّى سرائرهم، وقد ذكر القرطبي أقوالًا في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين؛ منها:

1- إنما لم يقتلهم؛ لأنه لم يعلم حالهم أحدٌ سواه، وقد اتَّفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يحكمُ بعلمِه.

 

2- إنما لم يقتُلْهم مصلحة لتأليف القلوب عليه؛ لئلَّا تنفِرَ عنه، وكيلا يقال: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، وقد كان يُعطِي للمؤلَّفة قلوبُهم - مع علمه بسوء اعتقادهم - تألفًا.

 

3- أن الله تعالى كان قد حفِظ أصحاب نبيِّه عليه السلام، بكونِه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون، أو يفسدوا دينهم، فلم يكن في تبقيتهم ضرر، وليس كذلك اليوم؛ لأنَّا لا نأمن من الزنادقة أن يُفسِدوا عامَّتنا وجُهَّالنا[9].

 

وأما الذين في قلوبهم مرضٌ، فالدعاء لهم، والتودد لتأليف قلوبهم، ودعوتهم باللين تارة وبالحجة تارة لإزالة الشك من قلوبهم، ومحاولة جَذْبهم ناحية المؤمنين وإبعادهم عن طريق المنافقين والمشركين، عسى الله أن يهديهم ويشرح صدورهم للإيمان.

 

ج - أن على المؤمنين أن يُواجِهوا أعداء الدعوة، خصوصًا الذين يعملون في الخفاء ويُدبِّرون المؤامرات، ويُروِّجون للرذائل، ويشيعون الفواحش في مجتمع المسلمين بالحذر أولًا، لكشف هذه المؤامرات وفضحها، وتحذير الناس منها، ثم بالدعوة المستمرة والعمل الدائب؛ (حيث إن أعداء الإسلام يعملون بجد واجتهاد، وبالليل والنهار، للفساد والإفساد)، ثم بالتوكل على الله تعالى واستمداد العون منه، ففي قوله تعالى: ? وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [الأنفال: 49]، إشارةٌ إلى أن الله تعالى دافع الشر عن المؤمنين، وهو ناصرهم ومتولِّي شؤونهم، فهو سبحانه (العزيز)؛ أي: الغالب الذي لا يذلُّ مَن توكل عليه، ولا يخذل مَن استجار به، (الحكيم) الذي يفعل بحكمته البالغة ما تستبعدُه العقول، وتحارُ في فهمه ألباب الفحول، فينصر مَن يستحق النصر، ويخذل مَن هو أهل لذلك.




[1] أساس البلاغة، مادة (ن ف ق).

[2] تفسير الشعراوي، المجلد الثامن، ص 4736.

[3] أصول الدعوة؛ د. عبدالكريم زيدان، ص 396.

[4] مفاتيح الغيب، المجلد الخامس، جزء 15 ص 1990، (دار الفكر).

[5] روح المعاني، جزء 6ص 22.

[6] المرجع السابق.

[7] تفسير ابن كثير، ج 2، ص 318.

[8] أصول الدعوة؛ د. عبدالكريم زيدان، ص396.

[9] تفسير القرطبي، ج 4 ص 173، وفيه قول الإمام مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شُهِد عليه بها دون استتابة، وإنما كفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليُبيِّن لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه؛ المرجع السابق.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook