أقراص السلوان

الكاتب: المدير -
أقراص السلوان
"أقراص السلوان

 

لَمَّا ألِف الإنسانُ رغد العيش وطيب الحياة، ظن أنَّ أدنى مصيبةٍ تحُل بداره هي الأنكى والأشدُّ على الإطلاق، ولا تجاريها أية مصيبة أخرى في الوجود، وذلك محض ترَّهات وسفاهات ما كانت لتقبع في دواخلنا لولا ضعفُ الإيمان، والانغماس في الترف من أخمص القدمين حتى الرأس.

 

ولو أن العبد حين تجتاحُه المصيبةُ رجع للوراء قليلًا لينظر للمشهد عن بُعدٍ بكامل تفاصيلِه؛ لرأى هناك في الأفق مصائبَ مهولة حاصرت غيرَه، وأتْلفَت ما أمامها، وحصدتْ كلَّ شيء، وعلم أن ما أصابه كان وخزةً بالنسبة لتلك المصائب.

 

ليس مِن بَيتٍ على ظهر هذه البسيطة إلا وشحبت وجوهُ أهله من مصيبةٍ أو نكبة أو وفاة، ومن الذي سلم من هذا الذي لم يسلم منه أشرفُ بيت؟! بيته صلى الله عليه وسلم!

ولما كان هذا الأمرُ وقعه شديد، وحِمله ثقيل، كانت هذه الأسطرُ - كوقفات إيمانية - هي بإذن الله العكاز لقلب المريض أو أهله؛ ليقيم سيرَه إلى الله بعد تعثُّره جراء الصدمة الأُولى.

 

لا بد أن تعلم أن هذا الأمر على شدَّته وحلوكة ليله وتأخُّرِ فجره خيرٌ، وهذا حقٌّ لا مرية ولا شك فيه البتة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإنْ أصابَتْه ضرَّاء صبر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.

وكل مؤمن يصدِّق بهذا؛ لكن التفاوت هو في يقين القلوب بذلك، وهذا مردُّه لضعف التسليم لله أو قوَّته.

 

ولما كان الإيمانُ بخيرية المرض للمريض يضعف اليقين به، أحيانًا يفوت على الإنسان أنَّ (لو) تتربص به، تنتظر الوقت المناسب للانقضاض، وذلك حين تقف على مريضك وتراه ممددًا على سَريره يتأرجح بين الموت والحياة، هنا وفي غَمرة العاطفة تنقض عليك بجيوشها من كل حدب وصوب، فما لك إلا أن تحاربها، ولو لم تجد إلا الذر لتحاربها به فافعل، ولن تجد لك سلاحًا أقوى من سلاح الرضا، وتمرين القلب على ذلك، مستشعرًا حديثَه صلى الله عليه وسلم: ((وتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليُصيبك))؛ رواه أحمد، فإن لم تُحاربها وتسللت بجنودها إلى قلبك، فستعيث فيك حسرةً وألمًا.

 

وحتى تُجْهز عليها، وتقضي على جحافلها، عليك أن تَتَنَفَّس الذِّكر شهيقًا، وتَتَنَفَّسه زفيرًا، واملأ به قلبك حتى يفيض؛ ? أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? [الرعد: 28].

ذكِّر نفسك دائمًا بأنَّ رحمة الله أقرب إلى مريضك مِن ثيابه التي عليه، ولكنا قومٌ عجِلون؛ فمن رحمته أنه يرعاك وأنت مريض، أو يقوم بشأن مريضك، بل يقوم على كلِّ الأنفس: بأمورها وشؤونها كلِّها، وفي كل لحظة وآنٍ، من الأزل إلى الأبد، كلُّ نفْس هو قائمٌ على أدنى شؤونها وأعظمِها؛ فلا تقدر على شيء، ولو تناهى في الصِّغَر ما لم يقم الله عليه؛

قال تعالى: ? أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ? [الرعد: 33].




وهنا بارقة سؤال: هل تستطيع فعلَ مثل ذلك القيام على شخص واحد فقط هو مريضُك؟!

أنت تنشغل عنه وتنساه ولو لحظات، وتطوح بك الأفكار حينًا، وحينًا يشتغل عقلُك بأهلك، بشؤونك، بعملك، بل حتى بجوَّالك! أمَّا الله فلا يغفل عن مريضك.. لا.. ولا لحظة، فمن الأرحم؟!

 

وما دامت هذه رعايته لك وعلى اللانهاية من البشر والخليقة الذين من قبل ومن بعد فسلِّم أمرَك له، وفوِّض شكايتك إليه، وقم بالأسباب ثم نَم.

وإذا سلَّمت الأمر لله فاضمنه يقينًا، وحذارِ أن يطَّلع الله على قلبك، فيجد فيه فتاتَ قَلقٍ على الذي استودعته! حذارِ! فوالله لو استودعت مالَكَ عند أبيك أو أخيك ما قلقت مقدار شعرة، ولذهبتَ لشأنك وعُدْت آمنًا ضامنًا! أَوَتَقلقُ، و((إذا استُودِع اللهُ شيئًا حفِظه))؛ رواه ابن حبان؟!

 

وهذا التسليم والتفويض والإلقاء بكامل الشكوى بباب الله، لا يكون إلا بتجرُّدٍ من الحَول والقوة، لا يكون إلا حين تنفُض أيَّ ذرةِ تعلُّقٍ بالأطباء والاستشاريين والمُمَرِّضين، فإنهم لا يملكون شفاءَ أنفسهم إذا مرضوا، أَوَيَمْلِكونه لغيرهم؟!

هذا التسليم والتفويض يفرِّغ القلب من بقايا وسوسة الشيطان، فإن بقي القلبُ فارغًا عادت إليك وسوستُه من جديد، لكن إن ملأته تفاؤلًا فأنت تقتفي أثرَ أولئك المؤمنين الذين لم يتفاءلوا فقط قبل بَدء المعركة حين حانت، وقبل معرفة أعداد العدو، بل تفاءلوا في أحلك الظروف لما رأوا عيانًا ضخامته التي لم يتوقَّعوها؛ ? وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ? [الأحزاب: 22].

 

تفاءل حتى لو عبس وجه الطبيب، وأشارت التقارير بضد ما تحب، واستمرت غيبوبةُ مريضك.

تفاءل وأنت تسمعُ رنينَ أصوات الأجهزة في تلك الغرفة الكئيبة.

تفاءل فَمِن رَحِم الظلام يولد النور.

تفاءل فـ ? إِنَّ الأَمرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? [آل عمران: 154].

 

وحتى نكون أكثر واقعيةً فقد يصاب الفأل بضمور أحيانًا، وفي المقابل ينتفخ اليأس حتى يسِدَّ الأُفق:

يذرع الأطباء الغرفة دُخولًا وخروجًا.

يتهامسون ويتكلمون بسرعة..

يقطّب جبين كلِّ واحدٍ منهم، ثم يصارحونك بفداحة الداء!

هنا إياك أن تخور عزائمُك، أو ينهار صبرُك، بل قم بتفتيت أصغر ذرَّات اليأس في نفسك.

 

فإن سمعت الطبيب يقول: الحالة صعبة، وربما ميئوس منها علميًّا، فقل له: الله يقول: ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ? [البقرة: 243]، هؤلاء ألوف.. ألوف.. خرجوا من قراهم حذر الموت فأماتهم الله!

لم يمرضوا! لم تأت تقارير تُخبر بأنهم شارفوا على الموت! هؤلاء ماتوا.. ماتوا.. وهم ألوف..! تخيَّل جثثهم الآن متناثرة هنا وهناك، لا نفس، لا حياة، كبار وصغار، صمت مطبِق، لو اجتمع عليهم أطبَّاء الكون ليئسوا وما استطاعوا ردَّ حياةِ واحدٍ منهم!

 

أَكْمِل وقل له: قال الله: ? ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ? [البقرة: 243]، هكذا ببساطة، عادوا للحياة من جديد، وأصبحت تلك الميتة من الذِّكرى ? قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ? [مريم: 9].

ثم اقذف هذا السؤال في وجه الطبيب: أليس ذلك بقادر على أن يشفيَ المرضى؟!

ثم إذا انتهيت من هذا الحوار، نادِهِ لحسبة عقلية؛ قل له: أين أنت أيها الطبيب قبل مقدار عمرِك؟

 

وأين كنت قبل ذلك بمليارات الدهور؟

مَن أوجدك وأوجدني؟

آلأصعب الإيجاد أم الشفاء من الأمراض؟

ثم أجب عنه وقل: بل الإيجاد أصعب في نظرنا، وليس بذلك على الله، إذًا أيصعب عليه أن يعيدَ مريضنا؟!

ثم اتل هذه الآية: ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [البقرة: 106]، وتخيَّل كم يختبئ خلف كلمة (شيء) من أشياء وأشياء وأشياء من الأزل إلى الأبد.

 

يا من دهمتْه الأمراضُ، أو دهمتْ قطعةَ فؤادِه، وقرين رُوحه:

اعلم أنه ما تتابع ذِكر الصبر في القرآن إلا لِعِظَم أجره، ولو اطَّلع المريض أو أهله على ما للصابرين عنده، لألهاهم الفرح به عن مصيبتهم، بل إن القرآن لم يحدد سقفًا لثواب الصابر، فجعله مفتوحًا، هكذا لا يُرى له نهاية، وإن شئت فاتلُ: ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? [الزمر: 10].

 

وحزنك على مريضك الذي رض قلبك، وفلق كبِدك - عزيز على الله، فالذي ردَّ موسى لأمِّه كي لا تحزن قادرٌ على رد مريضك لبيتك كي لا تحزن! فاصرخ وناد نفسك: ? فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ? [مريم: 26]، ولا تقنطي كي لا تكوني من الضالين!

وأوصيك بالدعاء، أزح ارتباطاتك وأشغالك وكوِّمها في ركنٍ قَصِيٍّ على قارعة الطريق، ادخل بيتك، واخلُ بالله، افرش سجادة في ناحية مظلمة هادئة، وانعزل عن العالم، وتوجَّه إلى الله، ارفع دعوات من قلبٍ مكسور، ونَفْس عضَّها البؤس، ومسَّها الوجد، وقل: رب مسَّ مريضَنا الضرُّ وأنت أرحم الراحمين، وتابِع الدعاء بدعاء حتى تتلعثم الكلمات، وتتعثر الأصوات، ويبقى أزيز الصدر هو الأبلغ في ذاك الموقف.

 

وأوصيك بالقراءة على مريضك، قراءةً ليست كأيِّ قراءة، قراءة مفعمة بالتأمُّل الموغل في الآيات، والاستشعار لكل حرف، والإبحار خلف المعاني.

وقبل أن تقرأ تذكَّر أنه لو كان هناك كلام يُقرأ على سلاسل الجبال في العالم فزالت، أو على المساحات الهائلة من الأرض فتشقَّقت وتصدَّعت، أو على الأموات من الأزل حتى الأبد فقاموا؛ لو كان هناك كلامٌ يفعل ذلك لكان هذا القرآن؛ ? وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ? [الرعد: 31].

 

وأخيرًا:

أيها المحزونون على المقاعد في دهاليز المشافي...

أيها المتعطِّشون لقطمير بشارة...

أيها المنكسرون لأنصافهم الذين على الأسرة البيضاء...

يا كُلَّ المحرومين، يا كل البؤساء...

? أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ? [إبراهيم: 10] حتى لا يشفي مرضاكم، ويفرج همومَكم، ويبدلكم خيرًا مما أُخِذ منكم؟!

 

لَله أقدر على ردِّهم لأهلهم منك على ردِّ إصبعك لكفك!


"
شارك المقالة:
24 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook