أكوام التمن!

الكاتب: المدير -
أكوام التمن!
"أكوام التمّن!




ذكر لي صديقي وأخي الأكبر الدكتور محمد بن عبدالله اليحيى -حفظه الله- قصةً حصلت له مع جدَّه لأمّه الشيخ الوجيه: عبدالله بن فوزان بن عثمان الفوزان السابق - رحمه الله – قال: كنت عنده في مزرعته ذات مرّة، ثم خرجت معه للتنزه فوقف فجأة على كمية القمح المحصودة على أشكال زُبرٍ كبيرة متكومة فعجلته دمعته ولم يستطع إخفاءَها، فبادرته بالسؤال: هل حدث شيء؟ ظننته أصيب لا قدر الله.. فسكت وقال: لا شيء لا شيء.. ثم مسح دموعه وقال لي - رحمه الله - : بنيّ محمد.. لعلك تعجبتَ من بكائي أليس كذلك؟ !!. قلت نعم !! قال: دعني أحدثك عن سرِّ ذلك.. عندما كنت فتىً صغيرًا حلَّ بنا في نجد جوعٌ شديد وفقرٌ مدقع حتى اضطررت إلى اللحاق بالقوافل المتجهة للعراق آنذاك للعمل وطلب الرزق، وبعد معاناة شاقة وصلنا العراق، وبدأنا العمل وكنت أشاهد أكوام التمن (نوع من الأرز) بكميات كبيرة وكثيرة لا أحد يلتفت إليها، وكنت أتمنى نقلها لأهلنا في نجد.. والآن استدارت الدنيا، وأصبحتُ أملك هذه الثروة الكبيرة بحمد الله، وانظر يا بنيّ كيف أصبح حال إخواننا هناك؟! .. فبكى ثم قال: أخشى أنّ هذا استدراج..!! اهـ.

 

في مقال قديم للكاتب جلال أمين وقف متأملًا أحوالَ أولئك العمال المعوزين الكادحين خاصةً الذين يعملون عند طبقة الأغنياء وفاحشي الثراء. أو أولئك الذين يقدمون ويباشرون للضيوف في الحفلات أو المطاعم الفاخرة حيث هذا العامل البسيط قَدِم من أسرة متواضعة فقيرة وربما معدمة، ثم ينظر أحوالَ أولئك البشر وكأنهم من كوكب آخر!.. ويعيش تلك اللحظات ثم ينتقل إلى سكنه (عزبته) وربما يكونون ثمانية أو أقل أو أكثر في غرفةٍ واحدة، وتجد الواحد منهم يوفر من طعامِه ليرسل لأهله.. وهكذا.. فكيف ستكون نظرة هذا العامل البسيط لأولئك؟.. اهـ[1].

 

وربما مثلهم أولئك المشاهير الذين يستعرضون بممتلكاتهم ورحلاتهم وأطعمتهم وما يشربون عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، بل وربما بعضهم يُظهِر ما ليس عنده فقط ليُحمد بما لم يفعل!!، وينظر إليهم الجميع حتى ذلك الشاب أو تلك الفتاة التي تقطن في حي فقير معدم مسحوق في ناحية من أنحاء هذا العالم الفسيح ولم تستطع أن تقدم شيئًا لأبيها المقعد!! إلا ما يأتيها من فتات من بعض صالحي البشر!!.

 

ويزداد الطين بلّة أن يخرج هذا المستعرض ثم يُنَظِّر لحياة ذلك البائس المسكين. وعنوان طلّته البهية ماذا علمتني الحياة؟

 

يا ترى ماذا علمتك الحياة؟ أعلمتك أن كان والدك غنيًا فمات فأغناك الله به !! أم علمتك أن كنت تافهًا فتناقل الناس تفاهتك، واستُخدِمتَ وربما صُنعت حتى أصبحت مشهورًا وتخليت عن مبادئك.. !! إنّه توفيق الله تعالى وحكمته، وربما بلاؤه واستدراجه لك! ربنا استر عوراتنا وآمن روعاتنا..

 

إنني أدرك أخي القارئ الكريم أنّ الغِنى والفقر ابتلاءٌ من الله تعالى لعبادِه، ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ?[2].

وعجبًا لحال المؤمن.. إن أصابَته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له[3]. وأثق تمامًا أنّ الفقر والعوز ربما هو الخير للعبد، ? وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ?[4] ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم أفضل البشر معيشتهم كانت كفافًا..

 

لكني لا أخفيك أنني أتعجب من أنفسنا حين لا نتعظ وأنّ هذه النعم التي بين أيدينا ربما تسلب بلحظة حينما نفشل في امتحان الحياة، جاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ? فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ? [الأنعام: 44] رواه الإمام أحمد[5].

 

قال الحسن البصري رحمه الله: مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُمْكَرُ بِهِ فَلا رَأْيَ لَهُ، وَمَنْ قُتِّرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُنْظَرُ لَهُ فَلا رَأْيَ لَهُ. ثُمَّ قَرَأَ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) قَالَ الْحَسَنُ: مُكِرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ‌أَعْطُوا ‌حَاجَتَهُمْ، ‌ثُمَّ ‌أُخِذُوا[6].




[1] بتصرف

[2] [الأنبياء: 35].

[3] أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب.

[4] [الشورى: 27].

[5] صحيح، أخرجه أحمد (17311)، وصححه الألباني في الصحيحة (414).

[6] أخرجه ابن أبي الدنيا في الزهد (43)، وابن أبي حاتم في التفسير (7289).


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook