أمة الدبلوماسية.. كيف تجدد رسالتها للعالم؟

الكاتب: المدير -
أمة الدبلوماسية.. كيف تجدد رسالتها للعالم؟
"أمة الدبلوماسية
كيف تجدد رسالتها للعالم؟

 

لقد كان عملُ السفارات الإسلاميَّة صناعة دبلوماسية متميزة في منهجِها وانطلاقتها، ورسالة إيجابية حضارية امتدَّ أثرها في أنحاء الأرض؛ فجذَبَت الأمم والشعوب نحوَ الإسلام، ونجحت في إسعاد البشريَّة، وإنهاضها، وإخراجِها من الظلمات إلى النور، كما تركَت بصماتها الجميلة في التاريخ، والإبداع، والحضارة.

 

لقد خرجَتِ السفارات الإسلامية إلى العالم انطلاقًا من المقوِّمات الروحيَّة والأخلاقيَّة، والعلمية والتنمويَّة المستمدَّة من الإسلام؛ فقدَّم المسلمون للبشرية منهج العلم والمعرفة، وعلَّموا الإنسانية آداب العلاقات الدولية، ومكَّنوا للأصول الأخلاقية التعاونية، التي تعترف بأهمية التعاون بين البشر على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والظلم والعدوان، كما فتحوا آفاقًا واسعةً للإبداع الذي يطوِّر الحياة البشرية، ووصل المسلمون لقيادة العالم.

 

رواد العمل الدبلوماسي:

اهتمَّت الدولةُ الإسلامية بالرسل والسفراءِ والمبعوثين اهتمامًا كبيرًا، يُعبِّر عن الدور الكبير الذي يقوم به هؤلاء السفراء، حيث كانوا يقومون بمهمة عظيمة لدى الدول التي أُوفِدوا إليها، وكانت هذه المهمةُ تتمثَّل في دعوتهم لدين اللهِ، وتبليغ رسالة الله للناس كافَّة؛ انطلاقًا من الدور الأساس للدولة الإسلامية؛ وهو الدعوة إلى الله، فكان هذا الهدفُ يدفع الدولة الإسلامية منذ قيامها في المدينة إلى إرسالِ الرسل والسفراء والمبعوثين إلى الملوكِ، والدول، والشعوب؛ لدعوتهم إلى دينِ الله، وبيان فضائلِ هذا الدين ومحاسنه[1].

 

ولا يعني ذلك أن مهمةَ السفراء في الدولة الإسلامية كانت مقصورةً على الدعوة إلى الإسلام، بل كانت مهامُّهم شاملةً لمختلف جوانب العَلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، إلا أن الدعوةَ إلى الإسلام كانت في مقدمةِ الأهداف التي يُرسلَ السفراء من أجلها.

 

وقد بدا واضحًا أن الدولة الإسلامية في عهدها النبويِّ كانت تُولي السفراءَ والرسل عنايةً فائقة، ويبدو ذلك من خلال عدد الرسل الذين بعَث بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والدولِ التي أرسل إليها هؤلاء الرسل والسفراء، فقد وصلوا إلى أهمِّ الدول القائمة في ذلك الوقت؛ وهي دولة الفُرس، والروم، والقِبط في مصر، وكذا البحرين وعمان، واليمن وغيرها، وعرف التاريخُ الإسلامي كثيرًا من السفراء الذين بعث بهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم ؛ مثل حاطب بن أبي بَلْتعة، وعبدالله بن حُذافةَ السَّهْمي، ودِحْيةَ بن خليفة الكلبي، وغيرهم من السفراء[2].

 

وشَهِد الفقهُ الإسلامي أحكامًا مختلفة تبحث في شؤون السفراء والرسل؛ كحمايتِهم، وتأمينهم من أي اعتداء، وكذلك الوفاء وعدم الغدر في علاقات المسلمين بغيرِهم، وبحث الفقهاءُ أحكام السفراءِ والرسل والمبعوثين أثناءَ إقامتهم في الدولة الإسلامية، وغير ذلك من الأمور.

 

ولم يتوقَّف اهتمامُ الإسلام بالرسل والسفراء عند العهد النبوي فقط، بل استمرَّ في جميع عهود الدولة الإسلامية.

 

وإذا كان عهدُ الخلفاء الراشدين يتميَّز باهتمامه بتأمين استقرار الدولة الإسلاميَّة داخليًّا، والقضاء على الرِّدة والفتنة التي حدثت بعد وفاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الانطلاق في الفتوحات الإسلاميَّة نحو الفرس والروم - فإن هذا العهدَ شَهِد اتِّصالًا بين المسلمين وغيرهم من خلال إرسال السفراءِ والرسل، وازدادَتِ الحاجة لهذا الأسلوب من العَلاقات بعد أن دخل الطرَفان في حرب وقتال، واحتاج الأمرُ إلى سفراءَ ورسلٍ ينتقلون بين الطرفين، ومن ذلك أن (أبا بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه في خلافتِه بعث إلى قيصر ثلاثةَ رسلٍ؛ وهم: هشام بن العاص، ونعيم بن عبدالله، ورجل آخر.

 

وفي عهد عمر رضي الله عنه أرسل رسولًا إلى قيصر الروم، ووفد عليه رسول منه.

 

وشهدت الدولةُ الأُموية تطوُّرًا واسعًا في إرسال الرسلِ والسفراء بينها وبين الدول الأخرى، فبعد أن استقرَّت أركان الدولة، توسَّعت في فتوحاتها، وبدأت تمدُّ علاقاتها إلى دول مختلفة من أرجاء العالم، وشهد العهد الأُموي تطوُّرًا في أسلوب السفارات، وطابعها وتنظيمها، وتشعُّب ميادينها)[3].

 

أما الدولة العبَّاسية، فقد شهدت كذلك تطوُّرًا واسعًا في علاقاتها مع الدول الأخرى، وكثُرت السفارات والاتصالات بينها وبين الدول المجاورة لها، وتوافَد الرسلُ والسفراءُ على بغداد عاصمة العباسيِّين، كما خرَجَت منها الوفودُ والسفارات إلى الفُرس والروم، والصين، والفرنج، والحَبَشة، وغيرها من الدول، وتعدَّدت أغراض السفارات وأماكنها.

 

وشهدَتِ العصور الإسلاميَّة الأخرى في مختلف مراحلِها تطوُّرًا واسعًا في إرسال السفراءِ والرسل، فكان للدولة الإسلاميَّة الأندلسيَّة، والدولة الأيوبيَّة، ودولة المماليك، وغيرها من الدول - شأنٌ عظيم في إرسال الرسل والسفراء.

 

وهكذا كانت عنايةُ المسلمين بالسفراء والمبعوثين عنايةً فائقة بما يدلُّ دلالةً تاريخيَّة مؤكَّدة على أننا أمَّة عميقة التجربةِ في ميادين العمل الدبلوماسي، وأننا أمة الدبلوماسيَّة، حيث الدور الحضاري الذي قام به هؤلاء السفراء لدى الأممِ والدول التي أُرسِلوا إليها، وما عرَضوه من محاسن الإسلام، وعرَّفوا الآخرين بهذا الدين العظيم.

 

وقد سبق المسلمون غيرَهم في وضع القواعد والشروط لاختيارِ الرسل والسفراءِ والمبعوثين، فكان يتمُّ اختيار السفراء والرُّسل والمبعوثين من أهل المكانة والنَّسَب في الدولة الإسلامية، وممن يتَّصف بالذكاء والقدرة على أداء المهمة التي أُرسِل من أجلها بصورة حسنةٍ، ثم تطوَّر نظام اختيار السفراء من خلال (ديوان الإنشاء) الذي يُشبِهُ في عصرنا الحاضر (وزارة الخارجية) من حيث إعداد السفراء وتدريبهم وإرسالهم.

 

ويأتي تشدُّد الخلفاء والملوك في طريقة اختيار السفراء؛ لأنهم ينطقون بلسان ملوكِهم، ويتصرَّفون باسمِهم، وينوبون عنهم في مهماتهم، فهم صورة عنهم، قال الثعالبي: (اعلم أن الأيدي بأصابعِها، والملوك بصنائعها، وأن وزير الملك عينُه، وأمينه أذنه، وكاتبه نطقُه، وحاجبه خلقُه، ورسوله عقلُه، ونديمه مثلُه، بهم تستقيم الأعمال، وتجمع العمَّال، ويقوى السلطان، وتعمر البلدان، فإن استقاموا استقامت الأمور، وإن اضطربوا اضطرب الجمهور)[4].

 

وجاء في كتاب (التاج في أخلاق الملوك):

(ومن الحقِّ على الملِكِ أن يكون الرسول صحيحَ الفطرة والمِزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيرًا بمخارج الكلام ووجوهه، ومؤدِّيًا لألفاظ الملِك ومعانيها، صدوقَ اللهجة، لا يميل إلى طمعٍ، حافظًا لما حمل، وعلى الملِك أن يَمتحِنَ رسولَه محنة طويلة قبل أن يجعله رسولًا)[5].

 

وكان عبدُالملك بن مروان إذا ولَّى رجلًا بريدًا، سأله عن صدقه وعفَّته وأمانته، وقال: (إن كذبَه يشكِّك في صدقه، وشره يحمل على ما يندمُه ويؤثمه) [6].

 

ولم يختلف أسلوب اختيار السفراء في العصر الحديث عمَّا كان عليه المسلمون قديمًا في اختيارهم لسفرائهم، فقد اتَّبعت الدول الحديثة أسلوبَ اختيار الشخصيات المعروفة، والمشهود لها بالكفاءةِ والقدرة على حسن الأداء لعملها السياسي، كما اتَّبعت الدول أسلوبَ التدريب والاختبار للمبعوثين في العمل، وقد عُنِيت كثير من الدول بذلك؛ فأنشأت المراكز والمعاهدَ المتخصِّصة بتخريج العاملين في الميدان السياسي، كما أقامت الكليات الجامعيَّة التي تدرس أصول العمل السياسي حتى تستطيعَ أن تدرِّب المبتدئين في العمل السياسي الخارجي الذين يتمُّ اختيارهم من بين المرشَّحين وفقًا لما يحقِّقونه من تقدُّم ونجاح في التدريب والتعليم؛ حيث (يجري اختبارُ هؤلاء المبتدئين في معلومات تاريخيَّة، وجغرافيَّة، وقانونية، وشفويَّة في بعض المعلومات العامة؛ لاكتشاف مدى إلمام المرشح بالشؤون الجارية وبطريقة تحليلها، فإذا نجح في هذين الاختبارَيْنِ، فإنه يمرُّ على الفحص الطبي للتثبُّت من خلوِّه من الأمراض، وفيما يتعلَّق بالولاء المفروض في الدبلوماسي يجري البحث عن حياته الخاصَّة منذ ولادته، وتوضع أسرتُه ومن يعاشرهم أيضًا تحت المِجْهر)[7].

 

إن من المحاسن الخالدةِ لديننا أن للممارسة الدبلوماسية فيه طبيعةً سياسيَّة وحضارية متفردة، قادرة على أن تَكفلَ للإنسانية حياة التعارف، والاستقرار، والأمن، والنهوض البشري، والارتقاء الحضاري.

 

فالدبلوماسيَّة الإسلامية ذات خصوصيات تستمدُّها من القيم والمفاهيم الإسلاميَّة، ومن الأهداف الإنسانيَّة السامية التي تتحرَّك في إطارها لخدمة قضايا الأمن والسَّلْم، ولترسيخ قواعد الحوار والتعايش والتعاون بين الأمم والشعوب[8].

 

ماذا نفعل بصورة الإسلام؟

لا يجوزُ لأمة الدبلوماسيَّة التي قادت العالم للهداية والعلم والحضارة - أن تتكاسلَ عن رسالتها، أو تضعُفَ أمام الهزائمِ التي تعطِّل دورها الكوني في الحياة، أو تنظرَ لنفسها بازدراءٍ؛ فتتجاهل مكانَها ومكانتَها في هذا العالم، أو تنشغلَ بقضايا تافهةٍ تعرِّضُها للضَّياعِ والصراع الذي يشلُّ حركيَّتَها وانطلاقها الكوني من جديد، إن لم نحسن صورةَ إسلامنا في بيئاتنا وأسلوب حياتنا، فستظلُّ عيون الملايين من غير المسلمين ترانا في سفاهة، وتظُننا من الكاذبين.

 

لقد اختار الله الأمةَ المسلمة لتقومَ بأعباء خيرِ رسالة تنشرُ الرحمة في العالمين، وتبني حضارةَ الإيمان وعمارة الأرض، وتَحُول دون الإفساد في الأرض والتخريب في العالم، قال تعالى: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ? [البقرة: 143]، ولن نتمكَّن من القيام بأعباء هذه الرسالة ونحن أمة تتصارع فيما بينها تصارعًا يؤدي للدمار الشامل، ويُشوِّه معالمَ رسالتنا الحكيمة.

 

لن تصلح أوضاعُنا المعوجَّة لقيادة دبلوماسية عالمية جديدة ومتطورة ومؤثِّرة، ما لم نتصالَحْ مع ديننا - الذي هو عصمةُ أمرنا، ومفتاح نجاحِنا في كل مجالات حياتنا الفكريَّة والاقتصادية والاجتماعية والسياسية - تصالحًا يضعنا في موضعِ القدوة الكونيَّة، ويحيي الإرادة الحضاريَّة التي لا ترضى بغير الفردوس الأعلى بديلًا.

 

إذا أردنا أن نخدم أهدافَ الدبلوماسية الإسلاميَّة بصدق وجدارة، وأن نعزِّز دور أمتنا الحواري والدَّعوي والحضاري، فلا بدَّ من توفير مشروع حضاري يملك إستراتيجيَّة علمية، وإمكانات مادِّية واسعة، وجهودًا مخلصة ليخدم السلام بيننا وبين شعوب الأرض، على أن تكون كافَّة مبادراته ذاتية، ومن قلب طموحاتنا الدبلوماسية تجاه حكومات الدول والشعوب.

 

لا يزالُ الطريق طويلًا أمام التيارات المعتدلة والوسطيَّة في عالمنا الإسلامي - شرقًا وغربًا - لكنها ستنجحُ بإذن الله؛ فقد وعد الله عز وجل بنصر عبادِه المؤمنين.

 

فنحن أمَّة قادرة على أن تبدِّد كلَّ أسباب القلق البشري والاضطراب الإنساني، وعلى أن تقدِّم رؤية دبلوماسيَّة جديدة للعالم تحفِّزُه لاحترامنا واحترام ديننا، واحترام تاريخنا ومستقبلنا، وعلى أن تقود العالم للخير والسلام، وقادرة على أن تتجاوزَ أزماتِها بجدارةٍ، وأن تُعالج أمراضها بوعيٍ وحكمة، فتصعد عطاءها الحضاري والدبلوماسي من جديد.

 

كما أن الإمكانيَّة الحضارية موجودة لدينا بقوتِها وقدراتها، وآليَّاتها وتصوُّراتها الواعدة، وبشائرها وآمالها؛ كي نجدِّد بهذه القدرات بواعثَ تواصل حضاري عالمي متجدد، أما بعث الفاعليَّة والتأثير من خلال هذه الإمكانات، فمحرِّكُها الإيمان، وعمودها الإنجاز والتنمية الشاملة، وقوامُها شخصيَّة واعية لا تستسلم لآلام أمَّتِها، ولا تضع طاقاتِها في أمور صغيرة ومنحرفةٍ تجرُّنا لمزيد من الركود والجمود والتأخُّر.

 

أمام أمتِنا فرص كثيرة لنُثبِتَ وجودنا الحضاري على خارطة الأرض؛ فنحن متغلغلون في كل قارَّات الدنيا وأرجائها الواسعة بطاقاتنا الفكريَّة، وقدراتنا المعرفيَّة، فلْنَفتَحِ الطريق من جديد أمام العالم ليستفيدَ ويشبع من عطاء الإسلام كنظام يكفلُ سعادةَ الفرد والمجتمع، وتتوفر فيه كلُّ عناصر الصلاح التي تسعدُ الإنسان في الدنيا والآخرة، وبدونها لا يكون إلا الشقاء المقيم، إن أفضلَ أجواء الحوار مع الغرب هو ما تتحوَّل نتائجه لخطوات عمليَّة ملموسة، تُساهم في شرح الفكرة الإسلاميَّة وتوصيلها بالحكمة والموعظة الحسنة لغير المسلمين.

 

وَحدتُنا سرُّ انطلاقنا:

إن قوةَ التماسُك والوَحدة في المرحلة المقبلةِ هي التي ستقوي بُنياننا الحضاري، وستُوفرُ التعاون المناسب لنتلاحمَ وتتكامل قدراتُنا وطاقاتنا الفكريَّة والتنمويَّة، والإبداعُ هو عمادُ هذا التقاربِ والتكامل الذي يؤهِّلنا لقمَّة الوعي والابتكار والتنافس، ومن تجهيزاتِنا الحضاريَّة للمستقبل أن نبني إنسانًا صالحًا قادرًا على التميُّز وإعطاء النموذجِ الصادق لكل أنحاء هذا العالمِ، ونكون مجتمعاتٍ متلاحمة كالبنيانِ المرصوص، إن أواصرَ الأخوَّة الإسلامية هي التي أقامت دولةَ الإسلام وحضارته، وبها تأسَّست أروعُ مدنية إسلاميَّة متسامحة ومتعاونة، ولقد أصبح الناس جميعًا في ظلال الإيمانِ والإخلاص لرسالتِهم سواسيةً في الكرامة والاحترام والمساواة، وبقاعدةِ الأُخوَّة الصافية جذبوا عقولَ الناس وقلوبهم نحو سموِّ الأخلاق الإسلاميَّة، ونُبْل مبادئ الإسلام العظيم.

 

إن رسالةَ أمَّتِنا عالمية إلى يوم الدين، قال تعالى: ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? [آل عمران: 110].

 

فهل نخرجُ من الآن لميادينَ أوسعَ في العَلاقات الدوليَّة؛ لكي نخدمَ رسالة الإسلام الحضاريَّة الخالدة، والتي لا تتجدَّد خدمتها بالهمم الهابطةِ، والقلوب اللاهيةِ، والعقول الغائبة، التي لا تعرفُ ربَّها معرفة صحيحة، والأجواء المفتقدة للحق والعدالة، بل بقِيَمِ الإيمان، والأخلاق، والتعارف الإنساني، والتنمية الشاملة، وصناعة الحياة الربَّانيَّة.

 

إنْ فَعَلْنا ذلك، فسنبدأُ مع العالم والتاريخ دورة حضاريَّة جديدة، نصلح بها بأن نكونَ صورة صادقة عن الإسلام وعالميَّته ومحاسنه، وخيره الشامل للدين والدنيا والآخرة.

 

إن مؤسساتِنا الإسلاميَّةَ والدبلوماسية في الشرق والغرب قادرةٌ على مهمة التعريف بديننا، وردِّ الشبهات عن حقيقته، وصدِّ كل محاولة مُغرِضة للنَّيْل من تشريعاته وأخلاقه، ولدينا أعدادٌ كبيرة من المفكِّرين والمُصلِحين يهتمُّون بالدائرة الإسلاميَّة والعالميَّة، والأجدر بنا أن نستفيدَ من جهودِهم وخبراتِهم في تحقيقِ هذه الطموحات الواعدة.

 

إن الحفاظَ على جوهرِ الثقافة الإسلاميَّة ينبغي أن يأتي في مقدمة الأولويَّات التي ينبغي على العاملين للإسلامِ داخلَ المؤسَّسات الإسلاميَّة وخارجها أن يهتمُّوا بها، وأن يولوها عنايةً خاصة؛ بما يضمنُ حفظ ولاءِ المسلم، وتوجيه طاقات الدعوة في الإطار السليم الذي ينشرُ العلوم الشرعية، وهذا يعني: تقديمَ الإسلام بشمولِه، وتطبيقه الواعي، وتناسق توجيهاته روحيًّا وماديًّا، ووسطيَّته العادلة، فالمنهجُ الإسلامي بين أيدينا قد جعله الله نورًا مبينًا، وشعاعًا ممتدًّا ليواجه الجهل والظلم والأنانيَّة، ويطلق الحريات، ويَشفي العالم من عِللِه وأمراضه.

 

وأما في الغرب، فإنه ينبغي الالتفاتُ إلى أنه (من الضروريِّ أن يغدوَ المسلم في الغرب على درجةٍ عالية من الاعتزاز بدينِه، وبما لديه من شريعةٍ تسمو على كلِّ شرائع البشر، فضلًا عن كونِها المُكمِّلَ لكل الرسالات السماويَّة، وعندها يكون بإمكانِه الاندماج في المجتمع دونَ خوفٍ على هُويَّته، بل بحافزِ تحويل ذلك الاندماج إلى عمل رسالي يُقدِّم من خلاله النموذجَ الأروع للمسلم الحقيقي)[9].

 

منظومة جديدة:

لا بدَّ من بناء منظومةٍ إعلاميَّة إسلاميَّة قويَّة تستفيدُ من التطوُّرات الإعلاميَّة والتقنية المعاصرة في توصيل رسالة الإسلام واضحة ومفهومةً، وتقديم رؤية لإصلاح أنفسنا وإصلاحِ النظام الدولي بعيدًا عن الخلافات السياسيَّة، والتعصُّبات المذهبيَّة، وإقامة عَلاقات واسعة مع صانعي القرارات في العالم وقادة الرأي؛ فغياب منظومة متجدِّدة للإعلام والدعوة في أوساط غير المسلمين يُعطِّل رسالتنا المنشودة.

 

كما نحتاجُ لقوة التخصص الدبلوماسي والإعلامي والدعوي لمواجهةِ العَقَبات التي تعترضُ طريقَ خطابِنا الإسلامي، وبناء الطاقات والمواهب الدبلوماسيَّة والإعلاميَّة والدَّعويَّة المخلصة لرسالة الإسلام، وتشكيل العقليَّة الإسلامية الكونيَّة التي تصنع المستقبلَ العمليَّ للأمة المسلمة، وأن يظلَّ الإيمان بهذه الاحتياجات باقيًا بقاء ضوء الشمس الذي يجدِّد حياتنا مع مطلع كلِّ يوم جديد، فالنهضة المرتقبة لأمتنا تتخبَّط مسالكها، وتضعف ضعفًا شديدًا عندما يتمُّ إغفال هذه القضية أو إهمالها.

 

وواقعيًّا فإذا ظلَّت أمتُنا في يقظةٍ دائمة من أجل الحقِّ الذي تعيش له، وربَّت الأجيال القادمة على أن تعرفَ مهمَّتَها في الحياة، ولم تُهمل الأسباب المادِّية التي تساعدها على التحرُّك نحو العالم المحيط بها؛ من حسن التخطيطِ، والإعداد الإعلامي الجيد، أو تهمل مميزاتها التاريخية والحضارية والكونية - فإن رسالتَها ستحيا من جديد، ويعود إليها رشدُها المعرفيُّ والحضاريُّ، وستربح كلَّ الجولات القادمة، وتوفِّر المعرفة الإسلاميَّة الهادية التي تجذب كلَّ مَن يريدُ أن يتزوَّد بالمعلومات الصحيحة عن الإسلام، وينجو من الهلاك.




[1] انظر: د/ سعيد عبدالله حارب - العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، ص: 291 ط1/1416- 1995م/ مؤسسة الرسالة.

[2] المصدر السابق، ص:91.

[3] انظر: حسن فتح الباب: مقومات السفراء في الإسلام، ص: 26/ ط 1390- 1970- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

[4] الأمثال؛ للثعالبي، ص: 62/ ط 1327هـ /دار الكتب العربية.

[5] التاج في أخلاق الملوك - المنسوب للجاحظ،ص: 121/ ط1 / 1322هـ - 1914م - المطبعة الأميرية - القاهرة.

[6] بهجة المجالس؛ للثعالبي، ص: 278، ط دار الكتاب - بيروت .د.ت.

[7] فؤاد واكد: السلوك الاجتماعي والدبلوماسي، ص: 265 ط1 1393 هـ -1973/ دار ممفيس للطباعة - مصر.

[8] انظر: د/ عبدالعزيز التويجري: الدبلوماسية الإسلامية في خدمة الحوار والسلام - منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو - 1430هـ/2009م.

[9] ياسر الزعاترة: المسلمون في الغرب (الاندماج وحمل الرسالة) - جريدة العالم الإسلامي - 5 شعبان 1423هـ.


"
شارك المقالة:
28 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook