أمتنا بين مد ا?فراح وجزر ا?تراح

الكاتب: المدير -
أمتنا بين مد ا?فراح وجزر ا?تراح
"أمتنا بين مد ا?فراح وجزر ا?تراح




الحمد لله الذي منَّ علينا بمواسم الطاعات والمسرَّات، وأكرَمَنا تعالى بإتمام القرُبات والعبادات، وألْهمَنا سبحانه الصبرَ على الشدائد والمصيبات، والصلاةُ والسلام على معلِّم البشرية آدابَ الأفراح والأتراح؛ لتظفر بالخيرات والدرجات العاليات، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرِّ الميامين، الذين اقتدوا برسولهم الكريم في سرورهم وحزنهم؛ فسعدوا وأسعَدوا، وكانوا خير مُثُلٍ وضَّاءة يُستنار بهداهم إلى يوم الدين.

 

أمَّتُنا الإسلامية في وقتنا الراهن مغموسةٌ في مشاكلَ كبيرة، ومآسٍ عظيمة، وويلاتٍ جسيمة، وبالمقابل مرَّت علينا وستمر مناسباتٌ سعيدة كأعياد وأفراح ونجاحات، فكيف نوفِّق بين فرحنا بهذه، وحزنِنا على تلك؟ وكيف نسيِّر حياتنا بتوازنٍ بين ذلك المَدِّ والجَزْرِ؟

 

لذا كان موضوع: (أمَّتنا بين مدِّ الأفراح وجزر الأتراح)، والذي سأتناول فيه كيف يوازن المسلمُ في هذه الحياةِ بين أفراحه وأتراحه، بين مسراته ومصائبه، وبين ما يصيبه مِن سرَّاءَ وضرَّاء.

 

مما يتفق عليه العقلاءُ أن من ثوابت السنن الإلهية في هذه الحياةِ كونَها لا تثبُت على حال؛ ففي التاريخ أممٌ تَفنى وأخرى تحيا، صحة ومرض، غنًى وفقر، عزٌّ وذل، نصر وهزيمة، رخاءٌ وشدة، أحزان ومسرات، وهكذا يقلِّب الله الليل والنهار، ويتقلب الخلقُ بتقدير الله من حال إلى آخرَ، قال تعالى: ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? [الأنبياء: 35]؛ وما ذاك إلا لأن هذه الدار جعلها الله دارَ ابتلاء، وجعل الآخرةَ دارَ جزاء، فبلاءُ الدنيا سببٌ لعطاء الآخرة، وعطاء الآخرة جزاءٌ لابتلاء الدنيا، فسبحانه يأخذ ليُعطي، ويَبتلي ليجزي، وهذا ينطبق على كلٍّ من: الفرد، العائلة، البلد، الدولة، الأمة.

 

أولًا - مد الأفراح:

إن الفرح مطلبٌ مهمٌّ، وهدفٌ منشود؛ فكلُّ مسلم يسعى لإسعاد قلبه، وزوالِ همِّه، وتفرُّقِ أحزانِه، ومن حق المسلم أن يعبِّر في المناسبات السعيدة عن فرَحِه وسُرُوره وبهجته، فتنتعِشَ نفسه، ويتجدَّدَ نشاطه، ويتقوَّى بذلك الفرحِ على واجباته تجاه ربِّه ونفسه وأهله ومجتمعه.

 

وإن من أهم أشكال الأفراح المعروفة في مجتمعاتنا: النجاحَ، العافية، المال والبنين، الترقيَ في الوظيفة، النصر الحربي، الأمطار والخيرات، وتقدُّمَ الدعوة الإسلامية.

 

وإن واجب المسلم الحقِّ المعتدل تجاه هذه المناسبات السعيدة: عدمُ البطر أو الكِبْرِ أو الخُيلاء في أفراحه، وشكرُ الله وحمده على آلائه ونعمه، وضبْطُ فرحه بإطار الشَّرع الإسلامي وآدابه، ومُرتكَزات القِيَم والأخلاق، مع مراعاةٍ لأعراف المجتمع التي لا تتصادم مع أحكام الشرع أو تخدش الحياء، والاهتمام بتربية النفس والجيل على ذلك، وتحصينهم ضدَّ الشهوات والمحرَّمات.

 

ومن أبرز الأمثلة من السيرة النبوية على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمُ من حرصٍ على الفرح، وإظهاره بضوابط وحدود الشرع: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعلِنوا النكاح، واضربوا عليه بالدفِّ))، وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لعائشة لما أخبرتْه أنها زفّت يتيمة كانت عندها إلى أحد الأنصار، قال: ((ألا غنَّيتُم لها؛ فإن الأنصار قوم يُعجبهم اللهوُ))، قالت: يا رسول الله، وماذا نقول؟ قال: ((قولوا: أتيناكم أتيناكم، فحيُّونا نحييكم، ولولا الحبةُ السمراء ما سمنت عذاريكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلَّت بواديكم)).

 

ولكن ما الذي يدعو المسلمَ إلى الفرح في خضمِّ مصائبه الشخصية ومآسي الأمة الإسلامية الكثيرة من حوله؟

لو أن المسلم دقَّق النظر في حياته، لوجد أمورًا كثيرةً وأسبابًا عظيمةً تدعوه إلى الفرح وتحثُّه عليه، ومن أهمها:

• يفرحُ المسلم بهدايته إلى الإسلام، وإيمانه بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، واتِّباع أوامره واجتناب نواهيه.

• يفرحُ بتوفيق الله تعالى له لأداءِ العبادات والقرُبات، وتيسيرها عليه.

• يفرح بالتوبة من الذنب، والأَوْبة إلى الطريق الحق، واستشعار لذَّة الإيمان والبعد عن المحرَّمات.

• يفرح لما أنعم الله عليه من نعمٍ عظيمةٍ ظاهرة وباطنة لا تُعدُّ ولا تُحصَى، تُحيطُ به من كلِّ جانب وتملأ حياتَه.

• يفرحُ لأن نصرَ الإسلام قريبٌ كما وعد سبحانه: ? أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ? [البقرة: 214]، وبشائِرُه تلُوحُ بحمد الله في الأُفُق، مهما اشتدَّت المِحَن، وعظُمت الكُرَب، وادلهمَّت المصائب.

 

ولكن هل من أسباب تعِين المسلمَ على الفرح وتقوده إليه؟

ثمة أسبابٌ كثيرة تساعد على خلق الفرحة في القلوب، وتنعش السعادة في النفوس فتنمو وتزدهر، ومنها:

• ذكرُ الله تعالى فيزول الهمَّ، ويُجلَبُ السُّرور، وتطمئن النفس.

• الرضا بقضاء الله وقدره، فيطمئنُّ المسلم على حاضِره ومُستقبلِه.

• نسيان ما مضى من مصائب، وعدم القلق على مستقبل الأيام.

• ترك السُّخط والتشكِّي، فالساخطُ الشاكي لا يذوقُ طعم السُّرور، ولا يهنَأُ بالفرَح أبدًا.

• الإحسان إلى اليتيم والمسكين والمحروم، ومواساةُ المهموم، وكفُّ الأذَى، وصِلَة الرحم، والعفو، والتماسُ العذر، وتنقية القلب من الغلِّ والحقد والحسَد، وتجميل الوجه بالبسمة.

• ويسمو الفرحُ وتعلو غاياته بطلبِ العلم وتبليغِه؛ ففي الحديث الشريف: ((نضَّر اللهُ امرأً سمِع منا شيئًا، فبلَّغَه كما سمِعَه))، والنَّضرةُ هي: البهجةُ والحُسن.

 

ثانيًا: جَزْرُ الأتراح:

من أبرز أشكال الأتراح في حياة المسلم: الإخفاقُ في أمرٍ ما، المرض، الطلاق، التعثرُ في الأداء الوظيفي، الخسارة الحربية، القحطُ والجدب والأعاصير، تأخُّرُ الدعوة الإسلامية، فقدُ الأحبة، الهجرة الإلزامية من الوطن.

ومصداق سنَّة إصابة المسلم بالابتلاءات والمصائب والأتراح كتابُ الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: ? إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ? [النساء: 104]، وقال جل وعز: ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ? [البلد: 4]، وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ? [الانشقاق: 6]، قال تعالى: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ? [البقرة: 155]، وقال تعالى: ? الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ? [العنكبوت: 1، 2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)).




وأكمل الناس إيمانًا أشدُّهم ابتلاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلبًا، اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة، ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)).




ويتوجب على المسلم الحقِّ المعتدل المتوازن حيالها: عدمُ اليأس، الدعاء، التخطيط لمواجهة الأزمات، تربيةُ النفس وقت الرخاء، وإعدادها للملمَّات، وتحصينُها لتكون قويةً شامخة صامدة.

 

ويرشدنا سلفُنا الصالح إلى علاجات تساعدنا على مواجهة مصائبنا ومآسينا، فيقول أحد الصالحين: (إذا ضاقتْ في وجهي الدنيا قرأتُ صفحات من القرآن، وماهي إلا أيام ويفتح الله لي من حيث لا أحتسب رزقًا، وعلمًا، وفهمًا).

 

كما يقول أحد الدعاة: عندما نتأمل بدايةَ سورة طه في قوله تعالى: ? طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ? [طه: 1، 2]، نعرف أن القرآن سببٌ للسعادة والبعد عن الشقاء، ولو تأملنا نهاية نفس السورة عند قوله تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ? [طه: 124]، نعرف أن من أهم أسباب الضنك والضيق والكآبةِ البعدَ عن كتاب الله وذكرِه.

 

ثالثًا: التوازن بين الأفراح والأتراح:

كيف نوازنُ بين أحزاننا وأفراحنا، بحيث نكون وسَطًا؛ فلا نغرق مع جَزْرِ الأحزان، ولا نركن لمَدِّ الأفراح؟ وكيف نصل إلى قناعة تامة بأن سنة الابتلاء بالخير والشرِّ سنةٌ ثابتة لكل فردٍ ودولة وأمة، فماذا أعدَدْنا لكل جانب من جانبي الابتلاء؟ وكيف نربِّي أجيالنا على ثقافة التصرف المناسب أمام كل خيرٍ وكل شر؟

 

ثمة أمورٌ ينبغي أن نربيَ أنفسنا عليها، ونوقن بها يقينًا راسخًا يُعيننا - بعد عون الله وتوفيقه - على تلك الموازنة، ومن أبرز تلك الأمور:

• أن نوقن حقَّ اليقين أن الحزن لا ينقطع إلا عندما يستقر المؤمنُ في الجنة؛ يقول تعالى: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ? [فاطر: 34، 35].

• أن نؤمِن أن ما يصيب المسلمَ في هذه الحياة إنما هو بقدَر الله عز وجل، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالله كتب ما قدَّره في هذا الكون، قال تعالى: ? مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ? [الحديد: 22].

• أن يتسلَّح المؤمنُ في حزنه بالصبر، والرضا، والقناعةِ، والإيمان، والعمل الصالح، واليقين والثقة في الله، واحتساب الأجر منه وحده، وبالدعاء والتذلُّلِ والخضوع إليه، وعدم التضجر والسخط، والشكوى لغير الله تعالى.

• أن يقرن فرحَه بحمد الله وشكره، ورد النعمة إليه سبحانه ويستخدمها في ضوابط الشريعة، ويتمتع بالحلال، ولكن بشرط ألَّا تلهَيه عن الطاعات فيغفل، ولا تطغيَه فيُفسد ويُضلَّ في الأرض.

 

وإنَّ مَن ادَّعى الفرحَ الدائم، والسعادة المقيمة، هو لا شك لاهٍ غافلٌ، وليحذر هذا أن يكون من الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: ((إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه))، وكذا مَن ادَّعى الحزن الدائم، والهمَّ المقيم، فهو جاحدٌ ناكرٌ لأنعُم الله تعالى عليه، وليحذر من زوالها عنه؛ لأنه لم يؤدِّ حقَّ شكرها: ? لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ? [إبراهيم: 7].

 

والمسلم الحقُّ المعتدل المتوازن يَعِي تمامًا حقيقةَ الفرح والحزن، وأنهما انعكاس لما يُصِيبُه به سبحانه تعالى من نعمٍ وابتلاءات، قال جل وعز: ? مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ? [الحديد: 22، 23]؛ لذا فهو يتسم بالاعتدال والاتزان والوسطية في مشاعره نحوهما، فيكون بذلك متصفًا بصفات عباد الرحمن الذين قال الله عنهم أنهم: ? لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ? [الفرقان: 67]، فمفهوم القَوَام بين السَّرَفِ والقتر يتسع معناه ليَشمَل تقديرَ الحالة التي هو عليها من فرح أو حزن؛ فالوسطية في الأمور كلها خيرٌ.

 

وبناءً على هذا يضبط المسلم السويُّ مشاعره ومواقفَه تجاه الحزن والفرح، فيلتزم رضا الله تبارك وتعالى، ويبتعد عما يُسخطه، ويحاول جاهدًا أن يزن عواطفَه بالميزان السليم، فلا يغالي في فرحه أو حزنه، ولا ينحرف بهما عن طريق الله المستقيم، ودليلنا البيِّنُ ومرشدنا في ذلك هو كتابُ ربنا جل وعز وسنةُ رسولنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

 

ولقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلم المتوازن في فرحه وحزنه، ووصَف أمرَه بالخير كله: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابتْه سرَّاءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صبَر، فكان خيرًا له))، فالمسلم الوسطيُّ المتوازن دائمُ البِشرِ والتبسم في الشدة والرخاء، متفائلٌ مسرورٌ راضٍ بعطاء الله وقضائه، واثقٌ بعدله ورحمته وفضله.

 

يقول ابن عباس رضي الله عنه: (ليس أحد منا إلا هو يحزن ويفرح، ولكنْ من أصابته مصيبةٌ جعلها صبرًا، ومن أصابه خير جعله شكرًا).


"
شارك المقالة:
34 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook