أن يأتيك وحي

الكاتب: المدير -
أن يأتيك وحي
"أن يأتيك وحي

 

من المؤكد أنَّك لست نبيًّا أو رسولًا، ولكن.. أيمكن أن يأتيك وَحي؟

لكي تجيب على هذا السؤال، وحتى تكون إجابتك دقيقة وصحيحة بقدر الإمكان - عليك أن تعرف معنى كلمة وَحْي؛ الأمر سهل بعون الله.

 

ليس عليك سوى التقاط إحدى تلك الكتب الضخمة - لا تفزع؛ فلن تقرأ منها إلَّا أسطرًا معدودة - والمعروفة بـ معاجم اللغة العربية، وأؤكِّد لك بعد تصفُّحك لأحدها، أنك ستقع في هواها! مثلي، وتهوى التجوال بين سطورها ومعارفها، عمومًا لن تندم؛ فالمتعة فائقة، والفوائد جمَّة.

 

حسنًا، بين يدينا أحد تلك المعاجم، سنشرع في البحث عن كلمة وحي أو و ح ي، حسب منهج المؤلِّف لترتيب كلمات معجمه، وهذا أمرٌ يمكنك اكتشافه بنفسك، بالنظر إلى فهرس الكتاب، أو يمكنك ببساطة قراءة مقدمته؛ ففيها الإجابة، في غالب الأحيان.

 

ها قد وصلنا إلى الكلمة وحي في كتاب الواو والحاء وما يثلثهما؛ كما في المعجم الرائع والممتع: مقاييس اللغة، ولننظر ماذا يقول في تعريف الكلمة:

(وَحَى) الْوَاوُ وَالْحَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ: أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى إِلْقَاءِ عِلْمٍ فِي إِخْفَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلَى غَيْرِكَ؛ فَالْوَحْيُ: الْإِشَارَةُ.

وَالْوَحْيُ: الْكِتَابُ وَالرِّسَالَةُ.

وَكُلُّ مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِكَ حَتَّى عَلِمَهُ فَهُوَ وَحْيٌ كَيْفَ كَانَ.

 

وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى وَوَحَى، قَالَ:

وَحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ

 

وَكُلُّ مَا فِي بَابِ الْوَحْيِ فَرَاجِعٌ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ اهـ.

 

بعدما قرأت التعريف، هل أثار في ذهنك تساؤلاتٍ ما؛ وبأي أجزاء التعريف كان اهتمامك؟

ربما كان قوله: وَكُلُّ مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِكَ حَتَّى عَلِمَهُ فَهُوَ وَحْيٌ كَيْفَ كَانَ، لماذا؟




لعله قد أدهشك أنَّ هناك معانيَ أخرى للوحي، غير المتعارف عليه، أو أنَّ الوحي قد يكون من قدرات البشر!

وليزداد عجبك، فهو أيضًا من قدرات الجِنِّ!

وكذلك، إن الوحي يمكن أن يكون شرًّا كما يكون خيرًا، فكيف ذلك؟

 

لتفتح مصحفك، واذهب إلى سورة الأنعام (الآية: 112)، ماذا تقول:

? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ? [الأنعام: 112].

هل انتبَهتَ لذلك المعنى من قبل؟

الإنس والجِن، من فئة الشياطين، يوحي بعضُهم إلى بعض.

ولكن، ما طبيعة هذا النَّوع من الوحي؟ إنَّه بين شياطين الإنس والجِنِّ، فحتمًا هو شر.

هل لاحظتَ معاني أخرى في التعريف؟

مثل: دلالة استعمال كلمة إلقاء، وكلمة عِلْم، وكذلك الكلمة ذات الدلالة الأهم في صفات الوحي: في إخفاء؟

عند هذه المرحلة، نحتاج إلى الرجوع إلى أحد كتب التفسير، وليكن بسيطًا، ولكن ذا فائدة، ولنختر مثلًا: صفوة التفاسير، كبداية شائقة، ربما تشجِّعك على ركوب قارب البحث والإبحار في محيط المعرفة والعلم، على صحائف غيره من الكتب.

 

وكتاب التفسير بمقدوره أن يقدِّم لنا ما يعيننا على فهم المراد من تلك الكلمات، فيقول في تفسير الآية:

? يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ?؛ أي: يوسوِس بعضُهم إِلى بعض بالضَّلال والشرِّ، ? زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ? [الأنعام: 112]؛ أي: يوسوسون بالكلام المزيَّن والأباطيل المموهة؛ ليغروا الناس ويخدعوهم، قال مقاتل: وكَلَ إِبليسُ بالإنس شياطينَ يُضلُّونهم، فإذا التقى شيطان الإِنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إِنِّي أضللتُ صاحبي بكذا وكذا، فأضلِلْ أنتَ صاحبك بكذا وكذا؛ فذلك وحيُ بعضهم إلى بعض؛ اهـ.

 

وفي التفسير الوسيط، يضيف إلى تعريف الوحي قائلًا: الوحي: الإعلام بالأشياء من طريق خَفي دقيق سريع، زُخرف القول: باطله الذي زُيِّن وموِّه بالكذب، وأصل الزخرف: الزينة المزوقة، ومنه قيل للذَّهب: زخرف، ولكل شيء حسن مموَّه: زخرف، والغرور: الخداع والأخذ على غِرَّةٍ وغفلة.

والمعنى: يُلقي بعضُهم إلى بعض، بطرق خفية دقيقة، القولَ المُزيَّن المموَّه، الذي حسُن ظاهرُه وقبُح باطنُه؛ لكي يخدعوا به الضعفاء، ويصرفوهم عن الحق إلى الباطل؛ اهـ.

والآن علمت كيف يوسوس لك الشيطان، فيلقي بدسائسه إلى نفسك، في خفاء، وسرعة.

 

لعلنا اقتربنا قليلًا من فهم هذا النوع من أنواع الوحي.

هل يعني ذلك أنَّ هناك أنواعًا أخرى؟

بالطبع، كما تعلم، ويعلم كلُّ مسلم، هناك الوحي بمعناه الأصلي، والسائد، وهو: الكتاب، أو الرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: القرآن.

وهو ممَّا لا حاجة لنا إلى بيانه؛ فهو من الأمور المعروفة بالضرورة لكلِّ مسلم، وجانب جوهري في عقيدته.

 

ويحتوي القرآن على عدد من الآيات الدالَّة على هذا المعنى، مثل قوله تعالى:

? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ? [يوسف: 3].

وغيرها، ممَّا يمكنك البحث عنها، أو رصدها، خلال قراءتك لمصحفك.

ولا تدَع للشيطان سبيلًا أن يوحي إليك بإهمال الأمر، أو أن يُنسيك إياه، ولنرَ أيكما أشد عزيمة.

بما ذكرناه آنفًا، هل يمكننا القول: إنَّ الوحي وحْيانِ؟

 

هذا ما قاله عكرمة حين سُئل عن الوحي؛ إذ قال: جاء رجلٌ فقال: ما تقُولُ في الوحي؟ قُلتُ: الوحيُ وَحيانِ؛ قال الله عزَّ وجلَّ: ? بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ? [يوسف: 3]، وقال الله: ? شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ? [الأنعام: 112].

 

عمومًا هما الشكلان الأظهران للوحي؛ الوحي الإلهي، من لَدن الله عز وجل، والوحي الشيطاني؛ المتبادل بين الشياطين والإنس، وبين الإنس وبعضهم بعضًا، وتحتهما تندرج أشكال أخرى.

 

فمن الأشكال الأخرى للوحي الإلهي:

• وحي الله تعالى إلى سائر الأنبياء، عليهم السلام.

قال تعالى: ? إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ? [النساء: 163].

 

• وحي الله تعالى إلى من اصطفاه بالوحي من البشر.

قال تعالى: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ? [القصص: 7].

 

• وحي الله تعالى إلى الملائكة.

قال تعالى: ? إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ? [الأنفال: 12].

 

• وحي الله تعالى إلى مخلوقاته من الكائنات.

قال تعالى: ? وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ? [النحل: 68].

 

• وحي الله تعالى إلى مخلوقاته من الجمادات.

قال تعالى: ? إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ? [الزلزلة: 1 - 5].

 

ولكلٍّ مما ذكرنا آيات أخرى، تجدها بإذن الله أثناء قراءتك المتأنية للقرآن، لعلَّك تجد غير ما ذكرنا من أشكال الوحي الحقيقية.

 

لم نقول: الحقيقية هنا؟

هل بمقدورك الإجابة قبل أن تنتقل إلى السطور التالية؟

حاول، أو واصل القراءة.

كل ما ذكرنا من أشكال الوحي، ورَد ذِكره في القرآن، ألا يكفي ذلك دليلًا على كونه حقيقيًّا؟!

 

إنما قلنا ذلك لنميِّزه عن شكل مجازي للوحي، بمعنى: أنَّه يأخذ اسم وحي، ولكنه حقيقة ليس كذلك، هل حزرت ما هو؟

نعم، إنَّه وحي الشعراء، أولئك الذين يهيمون في كل وادٍ خلف خيالاتهم.

فحين تغشى أحدَهم غفوة نظم الشعر، ويغيب في أودية تصوراته وأخيلته، يقول الناس: جاءه الوحي.

والعجيب، أنَّه حتى الشعراء أنفسهم يَرجِعون وحيَهم إلى الشيطان!

فيقولون: جاءه شيطان شعره! أو: أوحى له شيطانُه!

 

وبعد؛ فقد علمتَ ما كان من الوحي ومن غيره ممَّا هو وحي، فهل وصلتَ إلى إجابة لسؤالنا الأول؟

هل يأتيك وحي؟

ربما يوحي بعضُهم إليك خفية.

وحيث إنك لست نبيًّا ولا رسولًا، فانتبه لما يوحى إليك.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook