يُطلق مصطلح الذمّة على العهد، أو الأمان، أو الكفالة، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأُ دماؤُهم ويسعى بذمَّتِهم أدناهم)، وتُطلق الذمة أيضاً على الحقّ والحُرمة، وتُميّز عند الفقهاء بأنها الحالة التي يصبح فيها الإنسان أهلاً لوجوب الحق له أو عليه كأن يُقال: "في ذمَّتي كذا"، أمّا أهل الذمة بالنظر إلى الديانات المختلفة فهم المعاهَدون من أهل الكتاب، أي من اليهود والنصارى إن كانت إقامتهم في دار الإسلام، وأطلق عليهم أهل الذمة لأنّهم عاهدوا المسلمين ودخلوا في أمانهم وعهدهم.
وقد ورَد لفظ الذمة في القرآن الكريم، حيث قال الله سبحانه تعالى: (كَيفَ وَإِن يَظهَروا عَلَيكُم لا يَرقُبوا فيكُم إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرضونَكُم بِأَفواهِهِم وَتَأبى قُلوبُهُم وَأَكثَرُهُم فاسِقونَ) وبناءً على الآية السابقة فقد بيّن القرطبي بأنّ الذمة هي كلّ حُرمة يترتب ذنب على تركها وعدم القيام بها، وبيّنها أيضاً ابن عاشور في كتاب التحرير والتنوير، فقال بأن الذمة هي: (ما يمتُّ به من الأواصر من صحبة وخلَّة وجوار، ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى، يقال: في ذمَّتي كذا؛ أي: ألتزم به وأحفظه)، إلا أن الإمام النسفي عرّف الذمة عندما شرح كتاب المنار بالنظر إلى الذات لا الصفة، فقال بأنّ الذمة نفس ورقبة لها ذمة وعهد، وبيّن الجبوري أن القصد من تعريف النسفي هو إرادة الحال أو الوصف وإن كان اللفظ للنفس أو الذات.
أمر الله تعالى بالإحسان إلى أهل الكتاب وإكرامهم، وبرّهم، وعدم الإساءة لهم أو ظلمهم، حيث قال الله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ)، والمقصود بالجار الجنب الوارد في الآية السابقة الجار النصراني أو اليهودي، ومن مبادئ التعامل مع أهل الكتاب حمايتهم وعدم التسبّب بالأذى لهم، وذلك بشرط ألّا يكونوا محاربين، كما دلّ على ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في الكثير من الأحاديث التي وردت عنه، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: (من قتل مُعاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ ، وإنَّ ريحَها توجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا).
كما يجوز زيارة أهل الكتاب، وعيادة المريض منهم، ومن ذلك ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث زار الغلام اليهودي الذي كان يخدمه عندما مرض، ونصحه الرسول وهداه إلى الإسلام، فتقبّل الغلام ذلك، وأسلم، ونطق بالشهادتين، وما سبق يدلّ على العديد من المعاني والدلالات، منها: جواز أخذ المشرك أو الكافر كخادم، وجواز زيارته وعيادته، مع الحرص على نيّة دعوته ونصحه إلى الإسلام، فالمريض يكون في حالة تسمح له بتقبّل الحق والانقياد والخضوع له، إلا أن العلماء اختلفوا في حكم رد السلام على أهل الكتاب، ويدل على ذلك ما رواه الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (لا تبدَؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلامِ . فإذا لقِيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطَرُّوه إلى أضيَقِهِ)، وأورد الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد اختلاف العلماء في ذلك، فبيّن أنّ أكثر العلماء قالوا بعدم جواز البدء بردّ السلام على أهل الكتاب، بينما ذهب علماء آخرون إلى القول بجواز البدء بالسلام على أهل الكتاب، منهم: عبد الله بن عباس، وأبو أمامة، وابن مُحَيريز، والشافعي في قولٍ له، وذهبت طائفة من العلماء إلى القول بجواز الابتداء بالسلام على أهل الكتاب لتحقيق مصلحة راجحة، كالخوف من أذاه وأفعاله السيئة، أو بسبب القرابة، كما يجوز التهادي بين المسلم واليهودي والنصراني دون أي بأس.
بيّن العلماء العديد من الأحكام المتعلّقة بأهل الذمة، وفيما يأتي بيان البعض منها بشكلٍ مفصلٍ:
موسوعة موضوع