أي سعادة كانت؟

الكاتب: المدير -
أي سعادة كانت؟
"أي سعادةٍ كانت؟




ما أن تسمع مذياعًا أو تقرأ صحيفة، حتى يصل إلى ذهنك أن فلانًا انتحر هنا، وآخر هناك؛ إما بإلقاء نفسِه من مكان شاهق، أو أنه لَفَّ حول عنقه حبلًا ليكتم أنفاسه، أو صوَّب مسدسه نحو رأسه وأطلق منه طلقة أَرْدَته قتيلًا.

يسأل البعض: ما السبب؟ ولِمَ العجلة في الردى؟

ولِمَ استعجال المنية؟

أحُبًّا في لقاء الله، أم كُرْهًا للحياة؟

أضاق بهم الرزق، فلم يتلذَّذ بطعم ما يملك، ألم يَذُقْ حلاوة الدنيا، رغم وجود كل متطلباتها لديه، فلا مال يعدمُه، ولا أولاد تنقصه، ولا ملك يفتقده؟!

 

فيجيبهم مَن أراد الموت بعد نجاته: لم أجد الراحة والمتعة والسعادة في هذه الحياة! يا له من اعتراف بضيق الحال، وضنك العيش، إنه اعتراف ممن ترك أسباب الحياة الحقيقية، فلطالَما هُرِع أصحاب الكنوز المدَّخرة، والثروات الطائلة، والقصور العالية، ليعيشوا سعداء، لا همَّ يشغلهم، ولا كدر يقلقهم، ولا ضيق يُنغِّصُهم، ولا نَصَب يُهلِكهم، لكنهم لم يجدوها، بحث عنها الملوك رغم وجود الخدم والحشم، وبحث عنها الساسة في الأماكن الشاغرة، والمراكب الفارهة، والملابس الفاخرة، وحُرِم منها القادة رغم أخذ الشهادة، ونيل الريادة، اشتاق إليها الأمراء والوزراء، والأدباء والمثقفون، ظنها الفقير في غناه، والمريض في شفائه، والعاشق في لقائه، والغائب في عودته، والتاجر في أرباحه، فتَّشوا عليها في كل حدبٍ وصوب، في السهول والجبال، في الصحاري والقفار، في القصور والجحور، لكنهم لم يَجِدوها، هَيْهات هَيْهات، وأنَّى لهم ذلك!

 

وتمتَّع بها أناسٌ البردُ دِفْئُهم، والشمس ظلُّهم، والحر متنفَّسهم، ناموا على الحصير نومة العروس فرَضُوا، وأكلوا القديد بشراهة فقنعوا، إنهم مَن كانت الحياة لهم طريقًا للسفر، والآخرة موطنًا للمستقر، والجنة دارًا للمقر، فها هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يضربون أروع الأمثلة في الأقوال والأفعال، قائلين: والله، لو علِم الملوك بما نحن فيه من سعادة، لجالدونا عليها بالسياط.

 

• وهذا هو عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لَما رأى أثرَ الحصير على جسمه: أنت تنام على الحصير، والملوك ينامون على الحرير والديباج؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها جنتهم، ألا ترضى أن تكون لهم في الدنيا ولنا الآخرة؟)).

 

• وجد السعادةَ بلالٌ الحبشي، وهو يُسحب في جبال مكة، مناديًا: أَحَدٌ أحَد، فلا يُحِسُّ للضرب ألَمًا، ولا للشمس لهيبًا، فأنبت قوله، ونما ذكره، وأثمر صبره، فيُنبأ بجائزته قبل موته، بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام لبلالٍ: ((إني أسمع قرع نَعْلَيك في الجنة)).

 

• وأضلَّها الوليد بن المغيرة، رغم كثرة أولاده، رغم جاهه وسلطانه، رغم شهرته التي ملأت أصقاع مكة وجبالها، حُكِّمَ في آيات ربه ففكر، ففسر آياته وتدبَّر، وأمعن في الكتاب وقرَّر، فجمَع قومه وأخبر: أن القرآن سحر يؤثر، وكلام البشر، فأُلقي في سقر، جزاءَ مَن أنكر، ? ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ? [المدثر: 11 - 13].

 

• تلذَّذ بها مصعبُ بن عُمَير، تاركًا نعيمه المقيم، وهواءه العليل، وزاده الوفير، استبدل بشرابه البارد الماءَ الساخن، وبثيابه العطرة جلودًا مُنتِنة، أقبل إلى الإسلام وقد تغيَّر منظرهُ، بعد ترك العطور والزهور والقصور؛ بل ترك ما لذَّ وطاب، مفضلًا حياة الآخرة، فما إن مات حتى نزل قولُه تعالى فيه وأمثاله: ? مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ? [الأحزاب: 23].

 

• نُزِعت من قارون، رغم ثرواته الوفيرة، وخيراته الكثيرة، ودَنانيره الغزيرة، وقصوره الكبيرة، إلا أن ماله غرَّه، وكِبْره أحقره، فأنكر نعمة ربه، قائلًا: ? إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي... ? [القصص: 78]، نسي رازقه وخالفه، فنَسِيَه، باع دينه بدنياه، وإيمانه بكفره، فلم تُغْنِه دنياه، ولم يُبْقِه ملكه، بغى فانكسر، وطغى فانحسر، نُصِحَ فلم ينتصح، وُعظ فلم يتعظ، اشرأبَّت لملكه الأعناق، وحلَّقت لمفاتيحه الأحداق، بالأمس يتمنَّى قومُه مُلكَه ? يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ ? [القصص: 79]، فما إن أصبح الصباح حتى رضوا بما قسَم الله لهم؛ ? وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ? [القصص: 82]، ظن أن بالمال سعادة، فعرَف أن به الشقاء، وحسب أنه يُعْليه، فأيقن أنه يُدْنِيه، وزعم أن الدنيا باقية، فوجدها فانية، حاوَل أن يرتقي بثروته، فخُسِفَ به وما يَمْلك، أنكر مُكرِمَه ومُعطيه، فأذلَّه وأخزاه، استجار فلم يُجَرْ، نادى فلم يُلَبَّ، بكى فلم يُرْحَمْ، صار ماله عبرة، وداره قبره؛ ? فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ? [القصص: 81].

 

• وأتتِ الدنيا صهيبًا الرومي راغبة، أحاطت به قريش إحاطة السوار بالمعصم، مَنَعته عن هجرته خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقسم عليهم إما يتركونه أو ليرمينهم بما معه من نبلٍ، فخيَّروه إن أراد الهجرة أن يترك لهم كلَّ ما يملك، فرمى إليهم ماله، وأنقذ حاله، مضى فارغ اليدين مالًا، مليء القلب إيمانًا، وظل سعيدًا فرحًا مبتسمًا، سار في الصحراء إلى أن قدِم المدينة، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ربِح البيعُ أبا يحيى))، باع دنياه ليشتري آخرته، أنفق ثروته ليرى بُغيته.

 

• وغفل عنها فرعون، أشغله ملكه العظيم، وجيشه الحميم، فعاش في قلق دائم، وكدر حائم، تكبَّر وتبختر، وأنذر وحذَّر، وهدَّد وكفر؛ علَّ ملكَه يبقى، ليستريح، وليظل هو الأعلى والأسمى، تخلص من الطفل الصغير؛ ليظل هو الملك الكبير، أمِنَ مكر الله في المدينة، فأسكن عدوه داره، ورعاه برعايته، وحماه بجنده، وقدَّم إليه مائدته، حتى بلغ أشده، فأنكر عليه كُفْرَه، وأكبر عليه فُجْرَه، ? وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ? [القصص: 6]، أراد طمس المعجزة بسحره، ومَحْو الحقيقة بمكرِه، جمع الحشود، وأظهر الجنود، وقرَّب الوفود، وجهَّز الورود، ووزع النقود؛ ليقوَى كيدُه، ويهزم ندَّه، ليُحكِم زندَه، مكَر فأصبح الحق أكثر مكرًا، ظهر فأمسى الحق أظهر، أوعد بالموت فصار هو الأسبق، حشَد قوة الأرض ونسي قوة السماء، قال: إنه الأعلى، فأمسى الأدنى، أراد العزة، فحصد الذلة، وصار العبرة، ? فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ? [يونس: 92].

 

• إنها السعادة أيها الأحباب، فلا هي بالمال، ولا بالأولاد، ولا بالملك، إنها بالاستسلام والخضوع والرجوع إلى الحق، فتسمع قوله، وتجيب دعاه؛ لتعيش عيشة مطمئنة، راضيًا بما قسم الله لك، قال تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ? [طه: 124 - 126].


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook