إضاءات دعوية من قصص نوح عليه السلام في القرآن

الكاتب: المدير -
إضاءات دعوية من قصص نوح عليه السلام في القرآن
"إضاءات دعوية
من قصص نوح عليه السلام في القرآن




1- لا أسألكم عليه مالًا:

قال تعالى عن نوح عليه السلام: ? وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ? [هود: 29].

 

نوح عليه السلام عندما دعا قومه لعبادة الله عز وجل، ذكر لهم أنه لا يرجو من دعوته هذه أجرًا ولا مالًا، بل هو يريد الأجر والثواب من الله عز وجل، ثم كأنهم طلبوا منه إبعاد الفقراء من المؤمنين عنه وطردهم حتى يجلسوا هم معه، فرد طلبهم ذلك، وبيَّن لهم أنَّ حساب هؤلاء الضعفاء على الله، ثم وجَّه خطابه لهم بأنهم قوم يجهلون؛ لأنهم لا يريدون الإيمان بالله، ويطلبون منه طرد المؤمنين الأتقياء.

 

من الإضاءات الدعوية:

1- وظيفة الداعية الدعوة إلى الله، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، فهو لا يطلب من الناس أجرًا على دعوته، ولا يتطلع بذلك إلى منصب أو جاه ومكانة، بل همُّه وهدفه من ذلك هو طلب الأجر من الله عز وجل، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الحق، ومن نور المعصية إلى نور الطاعة.

 

2- نوح عليه السلام نفى عن نفسه بعض الاتهامات التي قد يُتَّهم بها الداعية غالبًا من إرادته للمال وطلبه للدنيا، لذلك قال لهم: (لا أسألكم عليه مالًا)، وفي آية أخرى: (فما سألتكم عليه من أجر)؛ لأن المدعوين قد يظنون أنَّ قيام الداعية بنصح الناس وتذكيرهم ووعظهم من أجل الحصول على المال أو غرض دنيوي.

 

3- أكَّد الله عز وجل على هذا الموضوع وهو عدم طلب الأنبياء الأجر، وذكره عن أنبيائه مرات كثيرة، فذكر ذلك عن نوح عليه السلام كما ذكرنا وعن هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام كلهم قالوا لقومهم: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)، وذكر عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في آيات كثيرة، وما ذاك إلا لأهمية الموضوع[1].

 

4- إنَّ المدعوين عندما يعلمون أنَّ الداعية لا يأخذ على دعوته مقابلًا من الناس، فإنَّ ذلك يترك أثرًا أكبر عليهم من حيث قبولهم لدعوته، وذلك لعلمهم أنه لا يريد من ذلك إلا وجه الله تعالى، ومصلحتهم والخير لهم.

 

5- الأَولى للداعية والأحوط له عدم قبول أي مال يبذل له من قِبل الآخرين، إلا ما حُدِّد له من قِبل الدولة أو الأوقاف إذا كان إمامًا أو خطيبًا أو مُعلِّمًا أو داعية، فإنَّ مثل ذلك لا بأس به كما ذكر العلماء.

 

6- إنَّ طمع الداعية فيما عند الناس من مال وطلب جاه ومنصب يُشكِّكهم في صدقه ونيته، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: ما بَعث الله نبيًا إلا ورعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة[2]، وكل ذلك ليستغني عن الناس ولا يطلبهم شيئًا.

 

2- ولا أقول لكم عندي خزائن الله:

قال الله عز وجل عن نوح عليه السلام: ? وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ? [هود: 31].

 

يخبر نوح عليه السلام قومه بأنه لا يملِك خزائن الله من أموال وخيرات، فلا يملك إعطاءها لأحد ولا منعها عن أحد، ولا يدَّعي علم الغيب، وليس بملَك، بل هو نبي مرسل، (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) - أي تحتقرونهم يعني من الضعفاء والمساكين الذين آمنوا بالله -: إن الله لن يعطيهم أجرًا، فالله هو أعلم بهم إن كانوا كافرين أو مؤمنين، وأعلم بما في نفوسهم وقلوبهم، فلو قال عنهم ما ليس فيهم فإنه من الظالمين المعتدين.

 

من الإضاءات الدعوية:

1- نوح عليه السلام النبي الرسول الداعية إلى ربه أقرَّ بكل سهولة وشجاعة أمام قومه بأنه لا يملك الكنوز، ولا يعلم الغيب، ولا يدَّعي أنه ملَك، ولا يحكم على أحد بجنة ولا نار.

 

2- على الداعية أن لا يدَّعي ما ليس عنده، سواء كان علمًا أو جاهًا أو مالًا، من أجل أن يُبرز نفسه أمام الناس، ويرفع قدره ومنزلته لديهم، بل عليه أن يذكر ما عنده وينفي ما ليس عنده، وكل ذلك لا يقلل من شأنه، بل يزيده رفعةً ومنزلة عند ربه؛ لأنه من التواضع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( وما تواضَع أحد لله إلا رفعه الله)[3].

 

3- من صفات الداعية أنه لا يدَّعي معرفة كل شيء ولو كان ذا علم وفقه وفَهْم، فعليه أن يتحدث بما يعلم، ويترك الحديث فيما لا يعلم، ولا يستنكف أو يستكبر أن يقول: الله أعلم، خاصة في بعض العلوم التي ليست من اختصاصه كالعلوم الدنيوية، فبعض الدعاة يخوض في كل علم ويتحدث فيه ولو كان لا يُحسنه، ظنًّا منه أنَّ عدم الحديث في مثل ذلك يُعدُّ نقصًا لقدره ومكانته.

 

4- الداعية لا يحكم على أحد، ولا يدخل في نوايا الآخرين؛ لأنَّ مثل ذلك يُعدُّ ظلمًا وتعدِّيًا، (الله أعلم بما في أنفسهم إني إذًا لمن الظالمين)، والنية عمل قلبي لا يعلم به إلا الله عز وجل، فقد يرى الداعية غيره أفضل منه دعوة ونشرًا للخير، ويرى إقبال الناس حوله وتقبُّلهم له، فيأتيه الشيطان حسدًا له، فيجعله يطعن في نيَّته وصحة عمله، وكذلك قد يقوم بعمل الخير من عرف بالشر والفساد، فيأتي البعض فيتَّهمه بأنه لم يُرد وجه الله بذلك، وأنه عُرف عنه كذا وكذا، فمثل ذلك لا يجوز، فالعاصي ولو عصى ربه فهو مسلم، وقد يكون هذا العمل سببًا لدخوله الجنة.

 

3- إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم:

قال تعالى عن نوح عليه السلام: ? وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ? [هود: 38].

 

نوح عليه السلام أمره ربه ببناء السفينة في الصحراء حتى ينجو بها، فجعل قومه كلما مروا به استهزؤوا وسخروا منه لبنائه سفينة في صحراء ليس بها ماء، فأجابهم نوح عليه السلام بكل ثقة: إن تسخروا منا الآن فسوف نسخر منكم فيما بعد كما تسخرون منا.

 

من الإضاءات الدعوية:

الداعية معرَّض للسخرية من الآخرين، وقد يكون هذا هو الأصل في أهل الضلال والشر، وقد سخر كل قوم من أنبيائهم، وعلى رأسهم خير البرية والبشر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فقد يحزن الداعية على وقوع مثل ذلك، ولكن عليه ألا يتراجع ويتكاسل، ويعلم أن حزنه مُثاب عليه، وأن قدوته في ذلك أنبياء الله، فالوعد عند الله، فالداعية الصادق يعلم موعود الله له ولو استهزأ به كل البشر، فسيسخر منهم في يوم يتضح فيه الحق من الباطل، ويعلو فيه الحق على الباطل، ويتميز أهل الإيمان عن أهل النفاق والعصيان، قال تعالى في موضع آخر عن حال أهل الضلال مع أهل الإيمان: ? إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ? [المؤمنون: 109 - 111].

 

4- إنا لنراك في ضلال مبين:

قال الله عز وجل عن نوح عليه السلام: ? قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [الأعراف: 60، 61].

 

عندما قام نوح عليه السلام بدعوة قومه للإيمان، أجابوه بقولهم: إنا لنراك في ضلال مبين، لم يقولوا: ضلال فقط، بل مبين؛ أي واضح ظاهر لهم، وقد كذبوا في ذلك، فأجابهم عليه السلام بإجابة الرفيق الشفيق الحليم عليهم، فنفى عن نفسه الضلالة، وبيَّن ووضَّح لهم حقيقته وهدفه ورسالته بأنه رسول من رب العالمين، فلم يعتدِ عليهم ويرد عليهم بمثل قولهم.

 

من الإضاءات الدعوية:

1- قال الله عز وجل عن هود مثل هذه المقولة وردَّ عليهم بمثل ردِّ نوح عليه السلام: ? قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [الأعراف: 66، 67]، فهذا هو خلق الأنبياء، قال ابن عطية رحمه الله: وقوله لهم جوابًا عن هذا (ليس بي ضلالة) مبالغة في حسن الأدب، والإعراض عن الجفاء منهم، وتناول رفيق، وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة[4].

 

2- قد يواجه الداعية عبارات شديدة اللهجة، واتهامات باطلة زائفة، فيُقال له: دعوتك هذه ضلال مبين، وسفاهة وجهل، وتخلف ورجعية، فالواجب الرد على مثل ذلك بلطف ولين، وأدب ورفق، وعدم تعَدٍّ وتجَنٍّ، والاكتفاء بنفي الاتهام عنه، فهم جهلة سفهاء، وهو ذو علم ودين، وعلمه ودينه يمنعانه من الوقوع فيما وقعوا فيه من اتهامات وسباب، والداعية همُّه إيصال الحق للناس ولو تعرضوا لشخصه وذاته، فهو يريد ما عند الله من خير وثواب.

 

3- على الداعية أن يوضح للناس هدفه ورسالته التي من أجلها دعا وتحدث ونصَح ووجه، فهو لا يريد منهم مالًا ولا مصلحة ولا منفعة.

 

4- يحتاج الداعية في مثل هذه المواقف إلى الصبر والحلم على الجاهلين والسفهاء، وأن يحذر من الانتصار للنفس؛ لأن الانتصار للنفس يُخرج الدعوة من مسارها وإرادة وجه الله، فتصبح أمرًا شخصيًا للانتقام والرد والبحث عن حظوظ النفس.

 

5- قد يقوم السفهاء والجاهلون بتغيير مسار النقاش من نقاش علمي إلى نقاش شخصي هروبًا من الإجابة، لعدم قدرتهم على إقامة الحجة والرد العلمي، ولرفضهم قبول الحق، فيستهزؤون، وربما وجَّهوا الاتهامات الباطلة للداعية وتعرضوا لشخصه، فعلى الداعية ألا يلتفت لمثل ذلك بل يمضي في تبليغ دعوته.




[1] سيأتي الحديث مستقلًّا عن هذا الموضوع عند الحديث عن حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لكثرة الآيات التي ذكرها الله عنه.

[2] أخرجه البخاري برقم: (2262).

[3] أخرجه مسلم برقم: (2588).

[4] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي : 2/ 415 .


"
شارك المقالة:
35 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook