إفادات علماء ورحالة القرنين الرابع والخامس الهجريين في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
إفادات علماء ورحالة القرنين الرابع والخامس الهجريين في المملكة العربية السعودية

إفادات علماء ورحالة القرنين الرابع والخامس الهجريين في المملكة العربية السعودية.

 
 
تعد دراسة أوضاع السكان حاضرة وبادية مجالاً مهمًا من مجالات الدراسات التاريخية. ومهما كان حجم قوة آل الأخيضر والدولة التي استتبعتها فيما بعد وهم القرامطة، فإن الإطلال على تاريخ هاتين القوتين لا يغني عن النظر في أحوال السكان ومعرفة عوائدهم، خصوصًا في زمن تمتعت فيه البوادي بقدر كبير من الاستقلال عن الإمارات الناشئة هنا وهناك. ولم يكن لبعض الدويلات سوى سلطة على حواضر محدودة، بل لم يكن بعضها مركز القوة والاستقطاب الوحيدين في تلك الحواضر، ولعل مما يقرب من التعرف إلى أحوال السكان عرض نماذج لما يذكره بعض العلماء والرحالة ممن ارتادوا المنطقة. فمن هؤلاء العلماء، العلامة محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي 282 - 370هـ / 895 - 980م صاحب معجم (تهذيب اللغة)  .  لقد أسر هذا العالم اللغوي على أيدي القرامطة بعد معركة الهبير (في منطقة حائل الآن شرقي الأجفر) سنة 312هـ / 924م   على أيدي فئة من العرب المؤيدين للقرامطة، ثم استقر به المقام في شرقي الجزيرة العربية بين منازل تميمية في وادي الستارين (وادي المياه الآن)، والدهناء والصمان، حيث تجول في بواديها  ،  ونـزل العرمة المتاخمة للدهناء والمقابلة لعارض اليمامة  ،  وعرّف بمواقع يمامية، مثل: السهباء وملهم وقران وحجر وعقيق العارض  .  ومع أن جل إقامته كانت في شرقي الجزيرة العربية ووادي الستارين، إلا أن هذا العالم كان يتنقل بين بدو متجولين، وكان شرقي اليمامة من مرابعهم، فرصد لنا قدرًا من عوائد بادية اليمامة التي تتشابه مع عوائد البادية في مناطق الجزيرة ككل لأن مسرح حركة البادية في الجزيرة أوسع من أن يحده إقليم أو منطقة. وأن ما عند الأزهري اللغوي من نتف وإشارات، جاءت نتيجة مشاهداته، لا تعطينا صورة كاملة عن أحوال البادية التي عاش فيها، وإنما نظفر ببعض الملامح والإشارات الجزئية. لقد خالط الأزهري مجتمع البادية في الدهناء والصمان، وتسنى له الوقوف على بعض عاداتهم، ومنها بعض العادات ذات الطابع الأسطوري، مثل: تعليق التمائم، وهي قلادة من سيور، اتقاء النفس والعين، وتعليق (العقرة) على حقو المرأة لئلا تحمل إذا وطئت، كما أشار إلى بعض النباتات التي يداوى بها من السحر أو الجنون كالهدال  .  ومما لفت نظر الأزهري واسترعى انتباهه، مجموعة من المأثورات التي كان يرددها ابن البادية آنذاك. فيذكر أن صبيان الأعراب يقولون في أحجية لهم: (ما حطائط بطائط يميس تحت الحائط)؛ يعنون الذرة  .  ويقول بعض الأعراب: (أبيض قرقوف بلا شعر ولا صوف في كل البلاد يطوف)؛ ويقصدون الدرهم الأبيض  .  ومما ورد على ألسنتهم من باب امتحان القدرة على ترديد كلمات ذات حروف متقاربة وبشكل متتابع: (ورل ورل يمرمر مروه ويلوكها)  .  ويذكر حمد الجاسر أن هذه الجملة ما يزال أهل البادية يعابون بها من حيث الإسراع في النطق مع إخراج الحروف واضحة، فإنهم يطلبون منك أن تقول بسرعة كما يقولون: (الورر يمرمر المروة والمروة تمرمر الورر)  .  وهكذا يقدم الأزهري لقرائه معلومات (متناثرة) عن أحوال البادية وتراثها في عصره، ذلك التراث الذي يمثل مع مصادر أخرى جذور تراث البادية المعاصر، وهذه المعلومات تعد مواد تاريخية لكونها تتناول أحوالاً ماضية وأنشطة إنسانية قديمة، وبما أنها تهم المؤرخين، فإنها تهم - أيضًا - المشتغلين بالدراسات الاجتماعية؛ وبخاصة أولئك الذين يعنون بالدراسة الوصفية لأساليب حياة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها ومأثوراتها الشعبية  
 
ونقرأ في ثنايا كتاب الأزهري إشارات إلى ما كان صبيان الأعراب يلتهون به، إذ يقول: "ولصبيان الأعراب لعبة يقال لها الجِعِري، وذلك أن يحمل الصبي بين اثنين على أيديهما، ولعبة أخرى يقال لها سفد اللقاح، وذلك بانتظام الصبيان بعضهم في أثر بعض وكلٌ آخذ بحجزة صاحبه من خلفه"  .  ويذكر من الألعاب كذلك، لعبة العسر، إذ ينصبون خشبة ثم ترمى بخشبة أخرى وتقلع  ،  كما أشار إلى لعبة أخرى تشبه الأرجوحة، حيث توضع خشبة على قوز من الرمل ثم يجلس على أحد طرفيها جماعة وعلى الآخر جماعة، فأي الجماعتين كانت أكثر وزنًا ارتفعت الأخرى، فينادون أصحاب الطرف الآخر: الاحلو، أي خففوا من عددكم حتى نساويكم في التعديل  .  ومع أنه لم يذكر ما إذا كان شاهد أبناء البادية الذين عاش بينهم يمارسون هذه اللعبة، إلا أن عفوية هذه اللعبة، واستخدام الرمال حاملاً للخشبة، وهو ما يتوافر في مرابع البادية، ما يجعلنا نميل إلى أنه يسجل لعبة شاهدها في تلك البيئة البدوية.
 
وهناك إفادات ونصوص من جانب الأزهري تحمل إشارات لكثير من تراث البادية المعنوي والمادي ومنها المقولات التي يرددها أبناء البادية، وبعض التقاليد والعادات والأدوات المستعملة، مثل: أدوات جمع الحشائش، أدوات الاستقاء من الآبار  ،  والعكوم (الأحمال والأعدال المحتوية للأوعية  ،  ووقفة الخوص   وغيرها).
 
ومما يورده الأزهري نفهم أن أولئك الأعراب الذين أقام بينهم كانوا يتداولون أشعار الجاهليين والإسلاميين أمثال: الأعشى، وذي الرمة، وهميان بن قحافة السعدي  ،  وهذا يدل على ارتباطهم بتراث العرب القديم. وقد وصفهم بأنهم يتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يقع في منطقهم لحن أو خطأ فاحش  .  ويعني ذلك أن العامية وشيوع اللحن ظواهر لم تنتشر بين عرب الدهناء والصمان وشرقي اليمامة في أوائل القرن الرابع الهجري.
 
كذلك أشار ابن حوقل النصيبي (ت 367هـ / 978م) إلى اليمامة، وذكر أن المدينة بها تسمى الخضرمة، وذكر أنها دون مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأنها أكثر نخيلاً وتمرًا من المدينة ومن سائر الحجاز، وأشار إلى نـزوح عرب بني ربيعة ومضر من اليمامة بعد نـزول بني الأخيضر. وذكر في موضع آخر أن دخول محمد بن يوسف الحسني الأخيضر اليمامة أدى إلى انقشاع أهلها من جوره إلى أرض مصر والمعدن. ويخالف ابن حوقل معظم المؤرخين عندما يذكر أن ذلك حدث سنة 238هـ / 852م  ،  وأن أكثر المؤرخين يرى أن قيام دولة بني الأخيضر كان في سنة 253هـ / 867م.
 
ويفهم من عبارات ابن حوقل حدوث نـزوح جماعي للقبائل الربيعية والمضرية، مثل: حنيفة والفصائل البكرية الأخرى والمضرية (ومنها الفصائل التميمية في اليمامة) عندما يقول: "وتكامل بالعلاقي قبائل ربيعة ومضر وهم جميع أهل اليمامة"، وهو ما لا تؤيده الخريطة القبلية التي يقدمها لنا الهمداني الذي عاصر مراحل من النفوذ الأخيضري. وأشار إلى عدد من قبائل حنيفة وأمكنة وجودها، ومن تلك الأمكنة الخضرمة 
أما البشاري المقدسي الرحالة الجغرافي (ت 380هـ / 990م) فذكر أن اليمامة، ناحية قصبة حجر، بلد كبير جيد التمور يحيط به حصون ومدن منها الفلج. وفي موضع آخر، أشار إلى أنه تقع عصبيات بين الجزارين والأعراب باليمامة، وقد بلغ من أمرهم أن اقتسموا الجامع، ويقولون للغريب: "كن من أينا شئت وإلا فاخرج"  .  وتلك العصبيات فعّلها الأخيضريون بين أهل الحرف والصنائع وبين الأعراب أهل البوادي، ممن أنـزلوا في الخضرمة وحجر. وغير معروف - على وجه اليقين - إذا كان المقدسي قد سجل لنا ما رآه وشاهده أم أن ما ذكره نقله إليه الرواة الآخرون
 
وهناك الرحالة ناصر خسرو الذي قدم اليمامة في جمادى الآخرة سنة 443هـ / 1051م مسجلاً بعض ما شاهده في كتاب رحلته سفرنامة. ولمشاهدته تلك قيمة تاريخية بالغة، إذ تناولت على إيجازها واختصارها منطقة لم يحظَ تاريخها في تلك الحقبة وما تلاها بتغطية تذكر من المصادر التاريخية والجغرافية، وأن المنطقة كانت تمر بأوضاع أمنية مضطربة، وأن بعض المدن التي ازدهرت في القرن الرابع، مثل: فلج التي أصابها الخراب، إذ يذكر أنها خربت بسبب العصبيات التي لا تنام في صحراء العرب. ولم يبقَ عامرًا من هذه الواحة الكبيرة سوى قدر نصف فرسخ ضربًا في ميل واحد، ويذكر أن سكان فلج في غاية الفقر والمسكنة ومع ذلك لا تنقطع الخصومات بينهم. أما عن غارات قوى البادية على مناطق إنتاج التمر، فيذكر أن جيشًا قدم المدينة (فلج) لأخذ خمسمئة منًّ (المنُّ معيار قديم كان يكال به أو يوزن به وقدره إذ ذاك رطلان بغداديان) من التمر، فقاتلوه وقتل عشرة أشخاص من سكان الحصن، وقطعت مئة نخلة من أشجار نخيلهم، ومع ذلك لم يعطوا ذلك الجيش ولا حتى عشرة أمنان  
 
أما اليمامة، ومراده هنا مقر الأخيضريين وهي الخضرمة  ،  فقد أشار إلى أنها مدينة مسورة فيها سوق خارجها للصناع، وأن حكامها من العلويين. ويذكر أن لهم شوكة عظيمة، فلديهم ما بين ثلاثمئة إلى أربعمئة فارس، يزعمون أنهم من الأشراف  .  كذلك قدم ناصر خسرو صورة عن الأوضاع الأمنية المضطربة في أطراف إقليم اليمامة الغربية وغربي نجد، إذ يسود التشرذم القبلي؛ فلا يوجد في هذا الموضع حاكم مسموع الكلمة مطاعٌ، بل الأمر فوضى، وكل أعرابي يرى نفسه حاكمًا وأميرًا ولا سلطان لأحد عليه. كما أن السرقة والحروب منتشرة بين أعراب هذه الأمكنة، فلا تكاد الحروب تنقطع بينهم. وكان ناصر خسرو يسير برفقة خفير، ويذكر أن عرب هذا الموضع (وهو يتحدث عن موضع سماه) قسموا المراعي والحدود بينهم، وقد علمت كل طائفة حدود أراضيها ومراعيها، ولا يستطيع الغرباء عبور الحدود دون خفير تعرفه القبائل وإلا تعرضوا للنهب 
 
أما مستوى اللغة عندهم، فهل ما زالت الفصاحة باقية فيهم كما كانت عند عرب الدهناء والصمان في أثناء إقامة الأزهري القادم من المشرق؟ مثله في ذلك مثل ناصر خسرو، مع فارق الاهتمامات والخلفية الثقافية والفكرية بين الرجلين. وقد أعجب القوم بما كتبه ناصر خسرو على جدار مسجد المدينة، وما زين به المكتوب من ألوان، فجاء سكان المدينة للمشاهدة مبدين الإعجاب بعمل ناصر خسرو الفني الرائع. ومن الإيجابيات وسط تلك الأوضاع المضطربة أن يظهر أولئك القوم الاحترام لمسجدهم، إذ حرصوا على أن يقوم ناصر خسرو بتزيين محرابه بالألوان التي يحملها معه مقابل مئة مَنٍّ من التمر، فنقش المحراب واجتهد في تجميله 
 
شارك المقالة:
57 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook