إمارة الأشراف الحسينيين بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
إمارة الأشراف الحسينيين بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

إمارة الأشراف الحسينيين بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 

 بنو طاهر بن مسلم

 
كانت المدينة المنورة تابعة للدولة الإخشيدية في مصر التي بدأ حكمها يضعف في الحجاز بعد وفاة كافور الإخشيدي، ما نتج منه قيام إمارة بني الحسن المستقلة في مكة المكرمة ســنة 358هـ / 969م، أما المدينة المنورة فقد استقل بها الحسينيون في الوقت نفسه وأعلنوا ولاءهم للفاطميين، وخلع طاعة العباسيين، ولم تذكر المصادر اسم القائم الحسيني في المدينة المنورة ولا تاريخ قيامه  ،  وأول من تذكر المصادر من أمراء المدينة المنورة طاهر بن مسلم بن محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى (المحدث) بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن علي بن حسين (الأعرج) بن علي (زين العابدين) بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه  .  وقد ذكر المؤرخون من أسلافه الحسن بن جعفر ذهب إلى مصر في عهد محمد بن طغج الإخشيدي، وأقام عنده، وأقطعه أرضًا تغل كل سنة مئة ألف دينار  .  وكان والده مسلم صديقًا لكافور الإخشيدي، وله مكانة عنده، وهو المدبر لأمره  ،  غير أنه بعد وفاة كافور أصبح من المتعاونين مع الفاطميين بعد استيلائهم على مصر بقيادة جوهر الصقلي سنة 358هـ / 969م، بل كان على رأس وجهاء مصر الذين خرجوا لاستقبال المعز لدين الله الفاطمي لدى قدومه إلى مصر ســنة 362هـ / 973م   فحظي بمكانة خاصة عنده، وظل على مكانته حتى وفــاته ســنة 366هـ / 977م في عــهد ابـنه العزيز بالله الفاطمي  .  ولا شك أن ذلك ما ساعد طاهر بن مسلم على تولي إمارة المدينة المنورة عند قدومه إليها، وتقديم الحسينيين الموجودين له لمكانة والده في مصر، ويبدو أن قدوم طاهر بن مسلم إلى المدينة المنورة كان بتولية من المعز الفاطمي، مدعومًا بقوة فاطمية فرض بها نفوذه على الحسينيين في المدينة؛ إذ لا يمكن أن يتنازل له الحسينيون في المدينة المنورة عن الإمارة، وهم الذين قاتلوا بني عمهم الحسنيين وأخرجوهم من المدينة المنورة، فكيف يسلمون الإمارة لمغترب قادم من مصر إن لم يكن مدعومًا بولاية وقوة تحميه؟
 
وأيًا كان الأمر فقد مكث طاهر بن مسلم في الإمارة إلى وفاته سنة 381هـ / 991م  ،  وكان مواليًا للفاطميين يقيم الخطبة لهم في البداية، غير أنه تحول عن ذلك وخطب للعباسيين سنة 365هـ / 976م، ولعله فعل ذلك بضغط من العباسيين أو بإغراء منهم، وقد فعل أمير مكة المكرمة عيسى بن جعفر الشيء نفسه، ما اقتضى إرسال حملة من قبل العزيز الفاطمي لإعادة الخطبة له في كل من مكة المكرمة والمـدينة وذلك سـنة 365 و 366هـ / 976 و 977م  .  وفي الإطار نفسه تندرج حملة زيري بن باديس الصنهاجي التي قدمت من مصر سنة 367هـ / 978م  
 
ومن أهم الإنجازات التي تمت في المدينة المنورة خلال فترة إمارة طاهر بن مسلم بناء سور للمدينة بأمر من عضد الدولة البويهي وزير الخلافة العباسية لحماية المدينة المنورة من هجمات الأعراب الذين دأبوا على مهاجمتها ونهب ما تصل إليه أيديهم، والفرار قبل أن يطاردهم رجال الإمارة وأهل المدينة  
 
بعد وفاة طاهر بن مسلم سنة 381هـ / 991م خلفه في الإمارة ابنه الحسن بن طاهر، واستمر بها إلى سنة 397هـ / 1007م في رواية  ،  وفي رواية أخرى أن داود بن قاسم، وهو حفيد ابن عم أبيه انتزع الإمارة منه سنة 383هـ / 993م  . 
 

إمارة آل مهنا

 
ينتسب بنو مهنا إلى مهنا بن هانئ بن داود بن القاسم بن عبيد الله بن طاهر انتقلت الإمارة إليه من الحسن بن طاهر، ويورد ابن خلدون هذه الرواية   لكنه ينقضها ويرجح رواية أخرى مفادها أن داود بن القاسم هذا هو من نسل الحسن بن طاهر وكان يلقب بمهنا، وعلى جميع الأحوال فأسرة مهنا هي فرع من الأسرة الحسينية ذاتها سواء المهنا بن طاهر بن مسلم أو حفيد ابن عمه، وقد حكمت هذه الأسرة المدينة المنورة عدة قرون  ،  ويحيط الغموض بتاريخ حكام الفترة الأولى من هذه الأسرة منذ أواخر القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري.
 
وأهم حدث شهدته المدينة المنورة خلال هذه الفترة هو استيلاء أبي الفتوح الحسن بن جعفر الحسني أمير مكة المكرمة عليها سنة 390هـ / 1000م.
 
وقد روى بعض المؤرخين طلب الحاكم الفاطمي من أبي الفتوح نقل جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليعود جمالها على مصر وساكنيها  ،  وقد استغل أبو الفتوح هذه الفرصة لضم المدينة المنورة إلى نفوذه، ولم يتعرض لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه بسوء  ،  لكنه لم يمكث في المدينة المنورة أكثر من شهر ثم رجع إلى مكة المكرمة فاستعاد بنو مهنا حكمهم مرة أخرى واستمروا في إمارتهم عدة قرون، أما بقية أمراء المدينة المنورة في هذه الفترة فلا تذكر المصادر إلا عددًا قليلاً منهم دون تفاصيل ومنهم عبيد الله بن مهنا، ثم أخوه الحسين بن مهنا، وقد انحصرت الإمارة في نسله لفترة من الزمن لم يحددها المؤرخون ولكنهم ذكروا له ولدين هما: مالك ومهنا الثاني الذي خلف والده على الإمارة لذلك أطلق على أمراء المدينة المنورة منذ ذلك الوقت بنو مهنا 
 
وكما تعرضت المدينة المنورة لغزوة أبي الفتوح أمير مكة المكرمة سنة 390هـ / 1000م، فقد تعرضت لغزوة جديدة في عهد خلفه وابنه شكر بن أبي الفتوح، الذي استطاع في هذه الغزوة بعد حروب وخطوب مع بني مهنا الاستيلاء على المدينة المنورة والتغلب على بني مهنا وطردهم منها، وضمها إلى إمارة مكة المكرمة، إذ جمع إمارة الحجاز مدة 23 سنة إلى وفاته سنة 453هـ / 1061م  .  لكن بني مهنا لم يلبثوا أن عادوا إلى إمارتهم في المدينة المنورة بعد وفاة شكر بن أبي الفتوح، وظلوا متمسكين بولائهم للفاطميين على الرغم من انقطاع المعونات التي كانت تصلهم من مصر، ولم يغيروا الخطبة للعباسيين كما فعل أمير مكة المكرمة أبوهاشم محمد بن جعفر ولم تنفع معهم الإغراءات المالية التي وعدهم بها السلطان السلجوقي ألب أرسلان  ،  لذلك ساند العباسيون أبا هاشم أمير مكة المكرمة بقوة من الأتراك توجه بها إلى المدينة المنورة بعد موسم الحج سنة 463هـ / 1071م، فــاســتولى عـليها، وأقام بها الخطبة للعباسيين  ،  ولكنه أقام أحد بني مهنا في الإمارة بالمدينة المنورة، وقد سار أمير المدينة المنورة على نفس سياسة أبي هاشم في فرض الضرائب والمكوس لتعويض النقص الحاصل من انقطاع الصلات الفاطمية، فأرهق كاهل الناس، لذلك أعانوا محيطًا العلوي الثائر الذي خرج في المدينة المنورة سنة 469هـ / 1077م، وطرد أميرها الحسين بن مهنا، وأقام الخطبة للفاطميين.
 
أما الحسين بن مهنا فإنه لجأ إلى السلطان السلجوقي ملكشاه، ومحيط العلوي المذكور ليس من أهل المدينة المنورة بل هو قادم من خارجها كما تشير إلى ذلك عبارات المؤرخين الذين ذكروا خبر ثورته   وقد يكون من قبل الفاطميين، ومكث محيط العلوي في الإمارة بالمدينة المنورة فترة من الزمن، ثم تسلمها منصور بن عمارة بن مهنا بعد وفاة محيط العلوي، أو تنازله عنها طواعية، وعادت الخطبة للعباسيين، وانقطع الولاء للفاطميين نهائيًا، وتولى الإمارة بعد منصور بن عمارة ابنه مهنا عام 507هـ / 1113م  .  ولم تذكر المصادر أحدًا من أمراء المدينة المنورة بعده لفترة ليست يسيرة؛ إذ إن أول من أشارت إليه المصادر من بني مهنا القاسم بن مهنا الذي حكم المدينة المنورة إلى سنة 583هـ / 1187م  
 
ومن أهم الأحداث التي شهدتها المدينة المنورة خلال هذه الفترة تجديد سورها القديم، وإصلاح ما تهدم منه بأموال أرسلها الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني صاحب الموصل وذلك سنة 545هـ / 1150م، لحماية المدينة المنورة من هجمات الأعراب المفسدين الذين نقبوا أجزاء منه ليهاجموا المدينة المنورة من خلالها  
 
أ) إمارة قاسم بن مهنا:
 
وهو أول من أشارت إليه المصادر من أمراء المدينة المنورة بعد فترة الاضطراب المذكورة آنفًا، وقد ولاه الخليفة العباسي المستضيء 566 - 575هـ / 1171 - 1179م، ويبدو أنه كان متوليًا الإمارة قبل هذا التاريخ بدليل ما ذكره المؤرخون من حادثة وقعت في الحجرة النبوية في عهده سنة 548هـ / 1153م   فتكون بذلك تولية المستضيء له تجديدًا لولايته وليست أول ولاية له.
 
اشتهر القاسم بن مهنا بأنه كان صديقًا مقربًا إلى صلاح الدين الأيوبي، شارك معه في حروبه ضد الصليبيين، وحضر معه حصار عكا سنة 584هـ / 1188م  ،  وهذا يدل على حرص صلاح الدين الأيوبي على كسب ود أمراء المدينة المنورة.
 
ومن الغريب أن بعض المصادر تذكر أن عيسى بن فليته أمير مكة المكرمة 556 - 571هـ / 1161 - 1175م كان يلقب بأمير الحرمين   في الوقت الذي لم تذكر له حملة إلى المدينة المنورة أو أنه استولى عليها بل على العكس من ذلك تمامًا نجد أمير المدينة المنورة القاسم بن مهنا قد شارك في حملة عباسية على مكة المكرمة سنة 571هـ / 1175م بقيادة طاشتكين، أمير الحج العراقي، نجحت في طرد أمير مكة المكرمة وتولية قاسم بن مهنا إمارتها مدة ثلاثة أيام ثم اعتذر عنها، فولاها طاشتكين لداود بن عيسى  . 
 
ومن الحوادث المهمة التي وقعت في المدينة المنورة في عهد قاسم بن مهنا:
 
1) محاولة سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم:
 
وهي قصة مشهورة متعلقة بمحاولة اثنين من النصارى سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم سـنة 557هـ / 1162م بوسـاطة نفــق حـفراه يؤدي إلى القبر من حجرة استأجراها في منطقة قريبة من الحجرة الشريفة،  وكانا متخفيين في زي ناسكين من المغرب، وقد ألهم الله السلطان نور الدين محمود زنكي   اكتشاف هذه المؤامرة بالرؤيا التي رآها في منامه، إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه حمايته من رجلين ويشير إليهما، فبادر بالقدوم إلى المدينة المنورة، فأجرى تحرياته حتى اكتشف الرجلين وأقرا بما خططا له من نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسرقة جسده الشريف بأمر من بعض ملوك النصارى نكاية بالمسلمين فأمر بقتلهما، وأمر بحفر خندق عميق حول الحجرة الشريفة  وملأه بالرصاص حتى لا تتكرر مثل هذه المحاولة مرة أخرى  .  وقد تصدق نور الدين محمود في زيارته تلك للمدينة المنورة بصدقات عظيمة، كما أمر ببناء سور ثانٍ للمدينة خارج السور القديم فتم ذلك سنة 558هـ / 1163م  . 
 
2) حملة أرناط:
 
وهي حملة صليبية قام بها أحد أمراء الصليبيين الحاقدين (صاحب قلعة الكرك) ويدعى في المصادر الإسلامية (أرناط) وذلك ســنة 578هـ / 1182م في البحر الأحمر، وقد توجه قسم من الغزاة الصليبيين إلى المدينة المنورة حتى أصبحوا على مقربة منها وهددوها، ولكن الله جلت قدرته كف شرهم وقضى عليهم بحملة أيوبية مضادة أفسدت مخططات أرناط الخبيثة، وسيق بعض الذين تم القبض عليهم قرب المدينة المنورة إلى منى لينحروا فيها يوم النحر، وقتل الباقون في مصر بعد أن طيف بهم في شوارع مدنها، أما أرناط فذاق عاقبة خبثه ومكره بالإسلام والمسلمين بالقتل على يد صلاح الدين الأيوبي في أعقاب معركة حطين المشهورة سنة 583هـ / 1187م  . 
 
ب) إمارة سالم بن قاسم 583 - 612هـ / 1187 - 1215م:
 
خلف والده في إمارة المدينة المنورة، وكان شجاعًا شاعرًا، وسار على سياسة والده نفسها في إقامة علاقات طيبة مع الأيوبيين ومع الخلافة العباسية، وقد تعرضت المدينة المنورة في غيبته في أحد أسفاره إلى غزوة من الأعراب القاطنين إلى جوارها، وقد حاول شقيقه هاشم بن قاسم الدفاع عنها ولكنهم غلبوه بكثرتهم، ودخلوا المدينة المنورة فأفسدوا فيها سنة 590هـ / 1194م ولما عاد سالم إلى المدينة المنورة عمل على إصلاح ما أفسده الأعراب بالأموال التي جلبها معه  . 
 
وإذا كانت المدينة المنورة قد عانت في غزوة الأعراب تلك امتحانًا عسيرًا فإنها قد واجهت امتحانًا آخر خلال إمارة سالم بن قاسم تمثل في غزوة قتادة بن إدريس الحسني أمير مكة المكرمة ومؤسس طبقة الأشراف الرابعة (بني قتادة) سنة 597هـ / 1201م  .  والحقيقة أن قتادة بن إدريس لم يكتف بحملة واحدة على المدينة المنورة بل قام بعدة حملات، منها اثنتان في إمارة سالم بن قاسم الأولى سنة 601هـ / 1205م، والثانية سنة 612هـ / 1215م، وكان يطمع في ضم إمارة المدينة المنورة ليفوز بلقب أمير الحرمين، ولكنه وجد في سالم بن قاسم خصمًا عنيدًا نجح بجميع الوسائل الحربية والسياسية في تحويل الانتصار الذي حققه قتادة في حملته الأولى إلى هزيمة، ورد له الصاع صاعين باللحاق به إلى مكة المكرمة وفرض الحصار عليها  . 
 
أما الحملة الثانية فكانت سنة 612هـ / 1215م، قام بها قتادة بن إدريس على المدينة المنورة مستغلاً فرصة غياب سالم بن قاسم عنها مع الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق الذي حج سنة 611هـ / 1214م وعاد بفكرة سيئة عن قتادة، وقد عزم على معاقبته  ،  فجهز مع سالم جيشًا من التركمان لمحاربة قتادة، ولكن سالمًا توفي في الطريق إلى المدينة المنورة، وقد تصدى لحملة قتادة أهل المدينة المنورة بقيادة قاسم بن جماز - ابن أخ سالم - ومنعوه من دخول المدينة المنورة، ثم وصل الجيش الذي بصحبة سالم فتولى قاسم بن جماز قيادته، وطارد به قتادة، وأنـزل به هزيمة كبيرة حتى كاد قتادة يقتل لولا أن أنقذه أحد فرسانه وأردفه على فرسه وفر به، وغنموا منهم غنائم كثيرة  . 
 
ج) إمارة قاسم بن جماز:
 
يبدو أن قاسم بن جماز كان قد تولى إمارة المدينة المنورة خلفًا لهاشم بن قاسم أمير المدينة المنورة الذي كان ينوب عن أخيه سالم بن قاسم في إحدى سفراته، وقد قتل هاشم في إحدى غارات الأعراب على المدينة المنورة سنة 590هـ / 1194م، فلما عاد سالم تولى الإمارة حتى وفاته في طريق عودته من الشام سنة 612هـ / 1215م فوقع الاختيار على قاسم ليتولى خلفًا له  ،  وعلى الفور كوّن قوة من أهل المدينة المنورة إضافة إلى التركمان الذين قدموا من الشام مع سالم للدفاع عن المدينة المنورة في وجه الحملات التي يرسلها قتادة بن إدريس من جهة ومن جهة أخرى للدفاع عنها ضد غارات الأعراب التي لم تنقطع، وقد نجح سالم في ذلك وحقق انتصارات مهمة على قتادة بن إدريس وعلى الأعراب، ما أتاح الفرصة لأن تعيش المدينة المنورة في سلام، وتنعم بالهدوء والاستقرار، فانعكس ذلك على الحياة العامة، فقد تحسنت الحياة الاقتصادية، وبخاصة التجارة، ونشطت الحركة العلمية في المسجد النبوي، وفي المدارس التي أنشئت حوله، وفي بعض الرباطات  . 
 
وإلى جانب النجاحات العسكرية التي حققها، فإنه أقام علاقات متوازنة مع الأيوبيين بفرعيهم في مصر والشام، واستطاع أن يجنب إمارته الانحياز إلى أحد الفرعين المتنافسين، ما أكسبه رضا الجميع، غير أنه لم يستطع المحافظة على ذلك التوازن ولم يلبث أن انحاز إلى جانب الأيوبيين في الشام، لقربهم من المدينة المنورة، ولعلاقة أسلافه بهم، خصوصًا أنه قد استجد في إمارته حدث مهم يتمثل في استيلاء الملك المسعود بن الكامل ملك اليمن على مكة المكرمة سنة 619هـ / 1222م وإسقاط إمارة بني قتادة فيها؛ إذ خرج منها الحسن بن قتادة وولاها للأمير عمر بن علي بن رسول بعد عودته إلى اليمن  .  وهذا العمل من قبل الملك المسعود بن الكامل يندرج في إطار التنافس بين الفرعين الأيوبيين على النفوذ في الحجاز  ،  وهذا ما جعل قاسمًا يخرج عن حياده ويقود حملة سنة 622هـ / 1225م إلى مكة المكرمة لانتزاعها من نائب الملك المسعود بن الكامل، غير أن نائب الملك المسعود لم يمكنه من دخول مكة المكرمة على الرغم من حصارها نحو شهر، بل خرج لمواجهته خارج مكة المكرمة ودارت بينهما معركة قتل فيها قاسم بن جماز وانهزمت الحملة لتعود إلى المدينة  . 
 
ويرى أحمد السباعي أن الذي دفع الأمير قاسم لغزو مكة المكرمة هم الأيوبيون في مصر؛ لأن مكة المكرمة في ذلك الحين كانت تابعة لهم، والأصح أن يقال إن الذي دفعه إلى ذلك هم الأيوبيون في الشام، وبخاصة الملك المعظم عيسى صاحب دمشق الذي كان على خلاف مع أخيه الملك الكامل صاحب مصر  .  وفي الوقت نفسه يصعب قبول السبب الذي ذكره بعض المؤرخين   أن راجح بن قتادة هو الذي استنصر الأمير قاسم لتخليص مكة المكرمة من حكم الملك المسعود وإعادتها إلى بني قتادة، لأن راجح بن قتادة هو الذي حرض الملك المسعود بن الكامل حاكم اليمن على غزو مكة المكرمة وإسقاط حكم أخيه الحسن الذي استأثر بالحكم على الرغم من أنه أصغر من راجح، وقد شارك راجح مع الملك المسعود بن الكامل في حملته وساعده على دخول مكة المكرمة أملاً في أن يؤول الحكم إليه، ولكن الملك المسعود لم يحقق أمله ذلك بل كافأه بإقطاعات صغيرة في بعض أودية تهامة جنوب مكة المكرمة  ،  وما كان الأمير قاسم ليقوم بهذه الحملة من أجل بني قتادة فهو لم ينس بعد موقف قتادة وأبنائه من المدينة المنورة وحملاتهم المتعددة عليها طيلة حكم قتادة في مكة المكرمة  .  ويذكر جميل حرب أن الذي دفع الأمير قاسم بن جماز للقيام بهذه الحملة خوفه من طمع الملك المسعود في المدينة المنورة بعد أن تم له الاستيلاء على مكة المكرمة  ؛  وهو تعليل مقبول لكن الغالب أن أيوبيي الشام قد صوروا له هذا التخوف من طمع المسعود في المدينة المنورة، لأنه لو كان ذلك واردًا في حسبان المسعود لما رجع إلى اليمن قبل أن يجهز على إمارة المدينة المنورة وينهي حكم بني مهنا فيها ويضمها إلى نفوذه كما فعل في إمارة مكة المكرمة.
 
وأيًا كان السبب الذي دفع الأمير قاسم بن جماز للقيام بهذه الحملة، فقد دفع حياته ثمنًا لها وقتل في المعركة التي وقعت بينه وبين نائب الملك المسعود على مكة المكرمة عمر بن علي بن رسول خارج أسوار مكة المكرمة سنة 622هـ / 1225م  . 
 
وردت الإشارة في بعض المصادر   إلى أن قاسمًا قتل على يد قبائل بني لام   وهو في طريقه إلى العراق بعد أن مكث في الحكم 25 سنة  ،  وهنا خطأ مزدوج، فإن الذي قتله بنو لام هو خلفه في حكم المدينة المنورة شيحة بن هاشم بن قاسم وهو في طريقه إلى العراق لزيارة الخليفة العباسي سنة 647هـ / 1249م  .  أما الخطأ الثاني فهو القول إنه مكث في الحكم 25 سنة مع أن الثابت أن قاسم بن جماز قد تولى حكم المدينة المنورة بعد وفاة سالم بن قاسم سنة 612هـ / 1215م، أما حكمه السابق في المدينة المنورة فلم يكن أميرًا بل نائبًا عن الأمير سالم في غيابه بعد مقتل أخيه هاشم على يد الأعراب سنة 590هـ / 1194م، ولم يدم حكم قاسم في المدينة المنورة إلا فترة وجيزة انتهت بعودة سالم كما سبق بيانه، ويبدو أنه حصل التباس بين مدة حكم قاسم بن جماز وبين مدة حكم جده مهنا الذي حكم المدينة المنورة 25 سنة متواصلة دون انقطاع  . 
 
د) إمارة شيحة بن هاشم 624 - 647هـ / 1227 - 1249م:
 
هو شيحة بن هاشم (سالم) بن قاسم بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يكنى أبا عيسى 
 
تولى الإمارة بالقوة بعد مقتل أمير المدينة المنورة قاسم بن جماز سنة 624هـ / 1227م، وكان شيحة مقيمًا بين أتباعه من الأعراب خارج المدينة المنورة، فلما بلغه مقتل قاسم بن جماز جمع أنصاره من الأعراب وتوجه بهم إلى المدينة المنورة، واستولى عليها، وانفرد بحكمها هو وبنوه مدة من الزمن.
 
كان يميل إلى المسالمة ونبذ الحرب، فغير السياسة العسكرية التي انتهجها سلفه قاسم بن جماز، وأوقف الصراع مع حكام مكة المكرمة من قبل أيوبيي اليمن، وكان مواليًا للملك الكامل الأيوبي صاحب مصر  ،  إلا أن ظروف الصراع بين الدولة الأيوبية في مصر والدولة الرسولية القائمة في اليمن على السيطرة على مكة المكرمة فرضت عليه التخلي عن السياسة السلمية التي عزم على انتهاجها، فانخرط في الصراع بين الجانبين، وكان يعمل إلى جانب الأيوبيين في مصر، وقد شارك في بعض الحملات الأيوبية القادمة من مصر لإخراج جيوش الرسوليين من مكة المكرمة خلال السنوات 629هـ و 637هـ و 638هـ / 1232م و 1240م و 1241م  . 
 
وقد ثار ضده أحد الجمامزة لاستعادة الإمارة التي كانت لهم في المدينة المنورة قبل أن يستولي عليها شيحة، وقد اختلفت المصادر في اسم هذا الثائر هل هو عمر أو عمير بن قاسم بن جماز الذي قام بثورته سنة 639هـ / 1242م، واستولى على الإمارة بالطريقة نفسها التي استولى عليها شيحة من قبل، أي بمساعدة الأعراب من البادية، لكن شيحة نجا من الموت وهرب من المدينة المنورة، واختبأ في بعض التلال، وقيل في مزارع النخيل خارج المدينة المنورة حتى نهار اليوم التالي، ثم توجه إلى اتباعه ومؤيديه من الأعراب الذين ساعدوه في الاستيلاء على الإمارة سنة 624هـ / 1227م، وكرّ بهم عـلى المــدينـة المنورة، واستولى عليها، وطرد الثائر عمر أو عمير  ،  وبعد ذلك استمر في الإمارة إلى مقتله سنة 647هـ / 1249م على يد قبيلة بني لام انتقامًا لقتله أحد زعمائهم أثناء غارة لهم على المدينة المنورة، وكان قتله وهو في طريقه إلى العراق لزيارة الخليفة العباسي المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين  
 
شارك المقالة:
579 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook