إن شانئك هو الأبتر

الكاتب: المدير -
إن شانئك هو الأبتر
"إن شانئك هو الأبتر




طالت الألسنة تغتاظ وتشتط مُحاوِلَةً النَّيْلَ مِن مقام أشرف الخلق محمدٍ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، في حملات مُمَنْهَجة ومرتَّبة، في الصحف المقروءة تارة، وفي الإعلام المرئي تارة أخرى، وفي مجال الدراما والفن مراتٍ ومرات، ولا أجد مبررًا لذلك إلا الشنآن الذي امتلأت به قلوبُ هؤلاء على هذه الرسالة الكاملة، التي أُرسِل بها الرسول الكاملُ صلى الله عليه وسلم، والذي يتدبَّر القرآن الكريم يعلم أن الله تعالى أخبرَنا أن هذا الشنآن ملازمٌ لبعثِه صلى الله عليه وسلم، فقد أنزل الله تعالى قولَه: ? إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ? [الكوثر: 3]؛ لتكون إخبارًا عن حال هؤلاء في القديم والحديث، في الدنيا والآخرة.

 

وقد أنزل الله تعالى سورةَ الكوثر المكية - وهو رأي جمهور المفسِّرين - عَقِب التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أمثال عتاة المشركين ؛ من أمثال العاص بن وائل السهمي، فقد جرَّتهم أمانيهم إلى توهُّم انقطاع أثر هذه الدعوة بموتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقضاء أجلِه، بحجة أن ليس له عقبٌ يخلفه من ولده، ولكن هيهات هيهات، فقد رفع الله ذكرَه، وأبقى أثره، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها؛ قال الله تعالى: ? وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ? [الشرح: 4]، وقال الله تعالى ردًّا على هؤلاء المُبغِضين: ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ? [الكوثر: 1 - 3]، وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم الكوثرَ بأنه نهر في الجنة، يشرب منه المؤمنون الذين انتَسَبوا إلى الإسلام قولًا وعملًا، ويُبعَد عنه كلُّ مَن بدَّل وغيَّر وأحدَث في الإسلام ما ليس منه!

 

روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لَمَّا عُرِج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: ((أتيت على نهر حافَتاه قبابُ اللؤلؤ مجوفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر)).

 

وفي رواية أخرى للبخاري عن أنس أيضًا: ((بينما أنا أسير في الجنة، إذا أنا بنهر حافَتاه قباب الدرِّ المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّك، فإذا طينُه - أو طيبه - مسكٌ أذفر)).

 

وقد نقل المفسرون في الكوثر أقوالًا أخرى غير ذلك، تزيد على العشرة؛ منها: قول عكرمة: الكوثر النبوة، وقول الحسن: الكوثر القرآن، وقيل: تفسيره، وقيل: الإسلام، وقيل: إنه التوحيد، وقيل: كثرة الأتباع، وقيل: الإيثار، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: نور القلب، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات، وقيل: إجابة الدعاء، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس، فالكوثر هو الخير الكثير العميم، إلا أن هذا الخير ليس لكل الناس، بل لمَن أحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم فتخلَّق بأخلاقه، وتمسك بهَدْيه وسُنته.

 

والأبتر هو المقطوع مِن كل خير، المقطوع من كل ذِكر، المقطوع مِن كل أثر، المقطوع من كل عمل، المقطوع من كل هُدًى، المحروم من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دنيا وأخرى، المُبعَد عن حوضِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقال له: سحقًا سحقًا، ولا تجد كل هذه الأوصاف إلا فيمَن أبغض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتجرأ عليه بالقول أو بالفعل!

أين عُقبة بن أبي مُعَيط؟ أين أبو جهل؟ أين أبو لهب؟

أين القدامى والمحدَثون؟ أين الموتى والأحياء ممن تجرَّؤوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

إنهم جميعًا في عداد المبتورين، الذين انقطع ذكرهم، وإذا ذُكروا فاللعنات تُلازمهم، والذمُّ يطاردهم، فلا يبقى لهم أثر، إنها حقيقة قرآنية لا تتبدل أو تتغير ? إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ? [الكوثر: 3].

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: سورة الكوثر ما أجلَّها من سورة، وأغزر فوائدها على اختصارها! وحقيقة معناها تُعلَم من آخرها، فإنه سبحانه وتعالى بتر شانِئ رسولِه صلى الله عليه وسلم من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفتِه ومحبته والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا ولا عونًا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة، وإن باشرها بظاهره فقلبه شاردٌ عنها، وهذا جزاء مَن شنَأ بعض ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم وردَّه لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره، كمَن شنَأ آياتِ الصفات وأحاديث الصفات، وتأوَّلها على غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منها، أو حملها على ما يُوافق مذهبه ومذهب طائفته، أو تمنى ألا تكون آيات الصفات أُنزلت ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ )مجموع الفتاوى 16 /528).

 

لقد ملأ الغباءُ عقولَ هؤلاء، فظنوا أن مَن لم يُرزَق ولدًا يحملُ اسمَه، ينقطع ذكره بموته، وقصدوا بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أي عظيم يُذكَر مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأي بشر رفع الله منزلتَه مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

هلا فهِم المجترئون على رسول الله ذلك، فكَفوا عن غيهم، وأوقفوا سُيولَ اتهاماتهم وبذاءاتهم على شخصِ رسول الله صلى الله عليه وسلم!

 

إن مادحه اللهُ تعالى، فمَن يعيبه؟ ورافع ذكره الله تعالى، فمَن يخفضه؟

إن معاداة رسول الإنسانية بالإساءة إليه لا مبرر لها، وإن القراءة المتأنية لسيرته - بعيدًا عن الهوى - تجعل الإنسان يُوقِن حقَّ اليقين أنه رحمة للعالَمين، فهو الذي علَّم البشرية الرحمة في أنقى أثوابها، وفي أجلِّ صورها، وهو الذي دعا إلى مكارم الأخلاق وحسن العشرة مع الناس جميعًا.

 

فيا أيها الشانئ المُبغِض، قِفْ عند حد الأدب، وحكِّم عقلك بعيدًا عن الزيغ والشطط.

 

ويا أيها المسلم المتَّبِع لرسولك صلى الله عليه وسلم، أظهِرْ أخلاقه في شخصك، وارفع صوتك بالنداء، وقل للناس جميعًا: هلموا اقرؤوا سلوكي وأخلاقي؛ فهي مِن نبعِ أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تشبَّه بالرسول تَفُزْ بدنيا
وأخرى والشقيُّ مَن استهانَا
فأخلاقُ الرسولِ لنا كتابٌ
وَجَدْنَا فيه أقصى مُبتغَانَا
وعزَّتُنا بغيرِ الدينِ ذُلٌّ
وقدوتُنا شمائلُ مُصطفَانَا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


"
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook