ورد لفظ (اتّقوا) في القرآن الكريم في أكثر من موضعٍ، وقد وردت في مواضع قد تبدو مختلفةٍ ظاهريّاً، إلّا أنّها متوافقة، ومثال ذلك قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)، وقوله في موضعٍ آخرٍ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، ويُراد بلفظ (اتّقوا): أن يجعل العبد بينه وبين صفات جلال الله -سبحانه- وقايةً؛ فمن صفاته -جلّ وعلا-: القهّار، والجبّار، وشديد العقاب، والمنتقم، وغيرها؛ والنار جند من جنود صفات جلاله -سبحانه-، وبالتالي فهي لا تختلف في معناها ها هنا عن تقوى النار، إذ يُراد بتقوى النار؛ أن يجعل العبد بينه وبين النار وقايةً؛ بعدم ارتكاب أي فعلٍ يؤدي إلى دخولها، ممّا يعني الوقاية من صفات الجلال التي تُعَدّ النار من جنودها.
ورد التحذير من النار في العديد من الآيات القرآنية، والأحاديث المَرويّة عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وفيما يأتي ذِكر البعض منها:
روى الإمام البخاريّ في صحيحه، عن الصحابيّ عدي بن حاتم الطائي، عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أنّه قال: (اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أعْرَضَ وأَشَاح، ثُمَّ قالَ: اتَّقُوا النَّارَ ثُمَّ أعْرَضَ وأَشَاحَ ثَلَاثًا، حتَّى ظَنَنَّا أنَّه يَنْظُرُ إلَيْهَا، ثُمَّ قالَ: اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)، وقد ذكر الرسول -عليه الصلاة والسلام- الحديث بعد أن ذكر النار، واستعاذ بالله منها، ثمّ أعرض بوجهه ثلاث مرّاتٍ، علماً بأنّه كان دائم التحذير لأمّته من النار؛ شفقةً عليهم، ورحمةً بهم، وذلك من خلال حَثّهم على أداء العبادات والطاعات التي تَقيهم منها؛ حيث حَثّهم في الحديث السابق على البذل من المال، والأخلاق الحسنة التي تَقي من النار ولو كانت يسيرةً قليلةً، كما وصف الرسول -عليه الصلاة والسلام- القليلَ بنصف التمرة، ودلّ الحديث النبويّ على أنّ الكلام الطيّب النافع من أفعال الخير التي يُؤدّيها المسلم؛ إذ جعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- كالتصدُّق بالمال، ومشتركاً معه في تحقيق الأثر في النفس؛ فهما يُدخلان السرور إليها، وأمر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في بداية الحديث بالتقوى، والتي يُراد بها: أداء الأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال التي ورد النهي عنها، ولا بدّ من ذلك في الأعمال كلّها؛ سواءً كانت عظيمةً، أم لا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحديث السابق لا يختلف عمّا دلّ عليه قول الله -تعالى-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، في الحثّ والترغيب في أداء الأعمال الصالحة، وعدم التقليل من شأنها، وبذلك تحصل الوقاية للعبد من النار، وفي ذلك يقول ابن حجر العسقلانيّ -رحمه الله-: "وفي الحديث الحثّ على الصدقة بما قلّ وبما جّل، وأن لا يحتقر ما يتصدّق به، وأنّ اليسير من الصدقة يستر المتصدّق من النار"، وبذلك يعتاد العبد على الصدقة دون النظر إلى قيمتها.
شبّه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الكلمة الطيّبة بالصدقة بالمال، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، فمقابلة أفعال الآخرين بالإحسان يشمل الأفعال والأقوال على حَدٍّ سواءٍ، ويُراد بالكلمة الطيبة: الأقوال التي يتقرّب بها العبد من الله -عزّ وجلّ-؛ فإمّا أن تكون بذاتها طيّبةً، كذكر الله من التكبير، والتهليل، والحمد، وقراءة القرآن، وإمّا أن تكون الغاية منها طيّبةً، كالتحدّث مع الناس؛ لإدخال السرور إليهم، وإسعادهم، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
دلّ الحديث النبويّ على العديد من الدروس، والعِبر، والعِظات، وبيان البعض منها فيما يأتي:
تتعدّد صور المعروف، وتتنوّع، ومنها: عدم استصغاره، أو احتقار القليل منه، وقد بيّن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ ذلك مظهر من مظاهر ضعف الإيمان؛ إذ لا بُدّ من الحرص على أداء الأعمال الحَسنة، حتى وإن كان أجرها قليلاً، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذَرّ الغفاريّ -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ).
فعلى العبد أن يقدّم المعروف إلى غيره دون التقليل من شأنه؛ إذ قد يكون سبباً في تحقيق مرضاة الله -عزّ وجلّ-، ونَيلها، وقد ثبت ذلك في الصحيح عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ)، كما دلّ الحديث على نوعٍ من أنواع المعروف، والذي يتمثّل بمقابلة الناس بوجهٍ مُبتسمٍ؛ لِما في ذلك من إدخالٍ للسعادة والسرور إلى قلوبهم بما يُحقّق التآلُف بينهم.
حثّ الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أمّته على التعامل مع الآخرين بالمعروف، وعَدّ كلّ معروفٍ صدقةٌ، ومن ذلك: الإنفاق على الأهل، ومقابلة الناس بابتسامةٍ وفرحٍ، والعفو عنهم، ونحو ذلك، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: (كُلُّ مَعروفٍ صَدَقَةٌ)، ويُراد من الحديث أنّ المعروف يُعامَل معاملة الصدقة في الأجر والثواب.
دلّ حديث عدم احتقار المعروف على العديد من العِبر، والعِظات، والتي يُذكَر منها:
تُعَدّ طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- الأصل في الفوز بالجنّة، والنجاة من النار، ومن ذلك: أداء الأوامر، والواجبات، والانتهاء عن النواهي والمُحرَّمات، قال الله -عزّ وجلّ-: (وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، وقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أيضاً: (كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك العديد من الأعمال التي تُحرّم العبد عن النار، وتُنجّيه منها، ومنها:
موسوعة موضوع