"استشعار صفات الكمال

 

في رحلة طويلة امتدَّت من مدينة (أورفا) جنوب شرق تركيا إلى مدينة (إسطنبول)، قطَعْنا بها 1300 كيلو تقريبًا، ثم منها إلى مدينة (سينوب) في أقصى شمال تركيا من جهة البحر الأسود، قطعنا بها 700 كيلو تقريبًا، ومنها إلى مدينة (سامسون) الواقعة في حوض البحر الأسود، ثم إلى مدينة أورفا، قطعنا بها أكثر من 900 كيلو؛ تُطوى الأرض أمام عينيكَ طيًّا، فتزداد اتِّساعًا وامتدادًا وأمدًا، تتوالى أمام ناظريْكَ ببُقَعِها؛ فتارةً تفرش لك صحراءها، تغوص ببصرك في موجاتها الرملية، وتشعر أنك ومَن معك الوحيدون مِن البشر على البسيطة، ثم تُفاجِئك غاباتُها الكثيفة المتتالية، والتي تغطِّي سهولها وجبالها وتلالها، حتى تشعر أنها ستَلْتَهِم أكبر مخلوقٍ خلقه الله، وبينما أنت كذلك راكبًا ظهرَ فهدٍ من حديد، تقلِّب بصرك يمنةً ويسرةً، وتُرجعه كرَّةً بعد كرَّة؛ تحجب سماءَك وفضاءَك سلسلةٌ من الجبال العملاقة، تذكِّرك بمسافات التنائي، وتَدُّلُكَ على ثبات الامتداد.

 

وتيك هي البحار، لها على وجه الأرض بصمتها الخاصة في كلِّ شيء؛ سعتها، أمواجها، رواسيها، ناهيك عمَّا في بطنها وظُلماتها.

 

تسير وتسير، يَنسَدِلُ عليك الليل؛ فيغشى كل شيء، ثم لا يظهر لك إلا ما يمكن أن يظهر، ولا ترى ما على وجه البسيطة، فقط تعتمد على فهدك الذي يطوي سوادًا بعد سواد، تساعده عيناه التي هُيِّئَتا للتعامل مع الليالي والصحاري...، تسير لا ترى، ولكنك تشعر، تحفِّزك تلك الصفائح الواسعة الجميلة المضيئة، تزيِّنها فسيفساء ملوَّنة متنوعة، تكبُرُ شيئًا فشيئًا حتى تلتهمك بداخلها حين تصغر، ثم تستأنس فيها، وتقضي أوطارك وتتزوَّد لتستأنف مرةً أخرى السير والسفر.

 

سبحان الخالق العظيم؛ ليلٌ ونهار، بحارٌ وأنهار، سهولٌ ووديان، صحارٍ وجبال، آياتٌ وأمثال، تتوالى عليك بأنواعها وألوانها، بطبيعتها وأحجامها، تضمُّها (قارَّة) تركيا، تُريكَ سعتُها حجمَ الكوكب الصغير، ويدُلُّكَ الجزء المُدهِشُ على النزر اليسير، فواعجبًا من اتساع الضيق، وكِبَرِ الصغير، وكِبْرِ الحقير، وتعالى مَن كانت هذه كلها مع أخواتها؛ ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الزمر: 67].


"