الآثار الفردية للعقوبات الحسية على الفرد والمجتمع

الكاتب: المدير -
الآثار الفردية للعقوبات الحسية على الفرد والمجتمع
"الآثار الفردية للعقوبات الحسية على الفرد والمجتمع

 

1- ردع المجرم وإصلاحه:

إن أول أثر من آثار العقوبات الحسية في الدنيا على الفرد الذي من أجلها شرع الله الحدود في الإسلام، هو الزجر أعني الردع والمنع وهذا قبل وقوع الجريمة، أما بعد وقوعها بالحكمة منها زجر الجاني من العود إلى الجريمة، كما تكون هذه العقوبة وسيلة لصلاح المجرم وإصلاحه، لأن العقوبة تدعو إلى الندم على ما فعل، وتقريع نفسه عما أقدمت عليه من معصية الشرع مما يحمله على التوبة النصوح، فينصلح حاله، بل وقد يكون حاله بعد الجريمة وإنزال العقوبة فيه توبته عما ارتكب خيراً مما كان عليه قبل ارتكاب الجريمة[1].

 

وقال الماوردي[2]: «الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما خطر، وترك ما أمر به، لما في الطمع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضحية، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً، وما أمر به من فروضة متبوعاً، فتكون المصلحة أعم، والتكليف أثم، قال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ?[3]، يعني في استنفاذهم من الجهالة وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة»[4].

 

إذاً ينتفع الجاني من العقوبة الشرعية مهما بدت قاسية شديدة، فيرتدع عن مقارفة الجريمة بعد أن غلبته الشهوة، وزين له الشيطان فعلها حين يتذكر ألم عقوبتها في الدنيا فيتزجر عنها ويسلم من خزيها.

 

ويقول ابن تيمية: «شرعت العقوبات رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض»[5].

 

2. التطهر من الذنب:

فرض الله سبحانه وتعالى الحدود في الإسلام (العقوبات الشرعية المنصوص عليها) مطهرات للذنوب التي ارتكبها أصحابها وعوقبوا عليها، وهي في الوقت نفسه مطهرة لصاحبها، مخلصة له من عقاب الله في الدار الآخرة، فمن عوقب على ذنبه في الدنيا وفقاً لأحكام شرع الله، لقي الله تعالى طاهراً نظيفاً ما عليه ذنب، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه[6] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه»[7].

 

فهي صفة تختص بها العقوبة في الإسلام تلك هي أنها مكفرة بمعنى أنها تكفر عن الذنب وتطهر صاحبها من أدرانه، ومن هنا كانت تلك الظاهرة الفريدة أن يسعى من يقترف ذنباً لتوقيع العقوبة صائحاً «طهرني» وفي هذه الحالة تنتفي كل أثارة من أثارات المهانة ويستحق المذنب ثواباً يشمل المئات، وهذه الحالة تختلف كل الاختلاف عما يحدث في المجتمعات الأوروبية عندما تستنفر السلطات كل وسائل الضبط لإيقاع المتهم متلبساً بالجريمة وما يحدث من إنكار المتهم ومحاولة المحكمة التوصل إلى الأدلة بمختلف الطرق.

 

والطهارة الشرعية منا لذنب حق من حقوق الله تعالى إذ لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يغفر الله الذنب إلا بالطرق التي شرعها لذلك. ومعنى هذا أن الذين تطبق عليهم عقوبات وضعية فإنما تفتنهم ونعذبهم فقط دون أن يعود عليهم مردود ديني وهذا في نفسه ظلم للعباد كما أنه جريمة في حق الله سبحانه وتعالى لأننا بذلك نعذب العباد بما لا يرضاه الله وما لم يشرعه. وهذا ظلم آخر. ويقول ابن القيم: «إن الله أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إن الله تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن لقيه تائبا توبة نصوحا له يعذبه مما تاب منه»[8].

 

3. حفظ كرامة الإنسان وسعادته:

تعد الكرامة من أخص حقوق الإنسان الطبيعية التي يستحقها لمجرد كونه إنساناً، فهي ضرورة من ضرورات حياته، لا يمكن بدونه أن يقوم بواجب على وجهه. لذلك أحاطها الإسلام بسياج قوي في تشريعاته التي تمنع النيل منها، والاعتداء عليها، ويتمثل ذلك في تحريم الزنا والقذف والغيبة والنميمة، وتوعد فاعلها بالعقوبة الأخروية والدنيوية ، تصديقاً لقوله تعالى: ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ?[9]، كما يقيم سياجاً من التشريع يصون به كرامة الإنسان ما دام خاضعاً له، بحيث يحفظ دمه أن يسفك، عرضه أن تنتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يعتدي عليه، ونسبه أن يطعن فيه، وقلبه أن يتحكم فيه قسراً، وحريته أن تقيد خداعاً، ولا يزال في حمى هذه الكرامة حتى ينتهك هو حرمتها، وينزع بيده هذه الحصانة بارتكاب جريمة ترفع عنه جانباً منها، ولا تعود على ما كانت عليه حتى يتوب ويعاقب بما يستحقه[10].

 

كما يتمتع الإنسان في الجزاء الإلهي ما يكفل له دوام السعادة التي يتمتع بها ما دام متصلاً بطاعة الله، حذراً من معصيته، فكم يكون لضعف الإيمان بهذا الجزاء أو الجهل به أو إنكاره جحوداً من أثر في تنغيص هذه السعادة، وتبديلها تعاسة وجحيماً لا يطاق، إن الجزاء يحمي حياة الناس، فهو يحول دون إرادة اغتصاب عرض أو انتهاك مال أو سفك دم، وغير ذلك.

 

هنا يبين أن تشريع الجزاء في الإسلام أكثر إسعاداً للإنسان، فهو يتصل بجميع جوانب حياة الإنسان، ويجزي على جميع الأعمال بالثواب والعقاب، دون استبعاد لأي نوع منها، قال تعالى: ? مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ? [11]، مما يعني أن سلطة الجزاء في الإسلام واسعة النطاق، تتعلق بظواهر الإنسان وبواطنه ومصالحه ومصالح مجتمعه.




[1] راجع المفصل في أحكام المرآة وبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، الدكتور عبد الكريم زيدان، 5/ 15، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1420هـ، 2000م.

[2] هو ألو الحسن علي بن محمد الماوري البصري الشافعي، ولد عام 364ه، بالبصرة، توفي سنة 450هـ فهو إمام في الفقه والأصول، مجتهد، إمام في التفسير، وله مؤلفات كثيرة منها: النكت والعيون في تفسير القرآن، كتاب الإقناع، الكافي، الأحكام السلطانية وغير ذلك. راجع رسالة الماجستير بالجامعة الإسلامية العالمية، بإسلام آباد سنة 1998م، للطالب عبد الشكور.

[3] سورة الأنبياء. آية 107.

[4] الأحكام السلطانية، للماوردي، الباب التاسع عشر، في أحكام الجرائم، فصل في ثبوت الجرائم، ص: 337، 338، ط: الأولى 1416هـ، 1997م، المكتب الإسلامي.

[5] الفتاوى الكبرى، لإبن تيمية، كتاب الجنايات، 5/ 521، ط: الأولى 1408هت، 1987م، دار الكتب العلمية.

[6] هو عبادة بن الصامت بن قيس بن حرام بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمر بن عوف بن الخزرج الأنصاري شهد بدرا وقال ابن سعد كان أحد النقباء بالعقبة وآخ الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي مرثد الغنوي توفي سنة 34هـ انظر: الإصابة في تميز الصحابة 3/ 505 – 507 وتهذيب التهذيب 5/ 111 – 112.

[7] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، رقم الحديث: 18، ص: 6.

[8] أعلام الموقعين، لابن القيم، 3/ 144، ط: دار الجيل للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.

[9] سورة الإسراء. آية 70.

[10] المسؤولية الخلقية والجزاء عليها، ص: 459.

[11] سورة الأنعام. آية 160.


"
شارك المقالة:
30 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook