الأجناس الأدبية بمنطقة حائل في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الأجناس الأدبية بمنطقة حائل في المملكة العربية السعودية

الأجناس الأدبية بمنطقة حائل في المملكة العربية السعودية.

 
أ - الشعر:
 
حائل مدينة شاعرة بجبالها، ووديانها، ورباها، ومساحتها الخضراء، وكان من الطبيعي أن تستنطق أبناءها ممن يشدون بالقصيد، وهي بلد حاتم الطائي والمدينة التي حط فيها زيد الخيل ركابه، كذلك امرؤ القيس، وإذا كان بعض من أرخ للشعر في هذه المنطقة قد ذكر عددًا ممن قالوا الشعر، ولكنهم ليسوا شعراء بالمفهوم الفني، فإن الموقف يقتضي ألا نغفل ذكرهم، فقد حملت حائل كغيرها من مناطق المملكة شرف الدعوة وأصّلت مفاهيمها ومبادئها، فبرز فيها عدد من الشعراء الفقهاء الذين ساروا على نهج أصحاب المنظومات الفقهية والنحوية في تيسير حفظ الأحكام وغيرها، وسعوا بجانب ذلك إلى التعبير عن وجدانهم، وبثوا أفكارهم ورؤاهم في منحى تعليمي تهذيبي فهناك ثلاثة نماذج من الشعراء:
 
1 - العلماء الشعراء:
 
الذين كان لهم دور في التمهيد كغيره في المناطق الأخرى للحركة الإحيائية، وانخرطوا في شعر الدعوة، وشعر الوعظ والإرشاد، والإخوانيات، والمناسبات.
 
2 - الشعراء المقلون:
 
نموذج آخر من الذين ساروا في الاتجاه ذاته، لكنهم لم يعرفوا بوصفهم شعراء محترفين في هذا المجال، وهؤلاء يمثلون الرعيل الأول؛ أما الرعيل الثاني فهم أصحاب الدواوين ممن أصبح يشار إليهم بوصفهم شعراء يتميزون بقول الشعر.
 
3 - الشعراء الشباب:
 
ينقسمون إلى قسمين: قسم ينظم على الطريقة التقليدية، وآخر مُجدد ينسج على منوال شعراء التفعيلة، وثمة فريق ثالث يجمع بين النهجين من الشعراء الذين بدا من النماذج المنشورة أنهم يمتازون بملكة شعرية تنبئ عن تمكن في هذا الفن، مثل: إبراهيم بن رشيد الليلا الذي عاش في الفترة ما بين عامي 1333 و 1403هـ / 1914 و 1983م وقد عمل قنصلاً للمملكة في دمشق، ثم عمل في التجارة في كل من حائل والرياض، ويتضح من قصيدته (يا ليل) أنه ذو نـزعة وجدانية واضحة تقترب به من مشارف الرؤية الرومانسية من حيث عنايته بخلع مشاعره على ظواهر الكون، وتعلقه بالوطن وحنينه إليه، ولكن هذه النـزعة تأتي متدثرة بديباجة تراثية إحيائية نستروح فيها ظلال تلك الروح التراثية، ومعجمها موزع بين مفردات رومانسية: كالليل والفجر والضنى والقلب والخفقان والشغف والروح والغربة من ناحية، وبين مفردات إحيائية: كالربع والهمم والشمال والبطحاء وما إلى ذلك، وكذلك النـزوع إلى الفخر بالقوم والخاتمة التقليدية التي تعود الشعراء في تلك الحقبة أن يختتموا بها قصائدهم حيث التوجه إلى الله سبحانه وتعالى واللوذ برحمته وحمده على نعمائه.
 
لـم  يبـق إلا رحـاب اللـه مرتفقا     ومـن  يلـذ بحـمى الباري فقد وثقا
فهـو المغيـث لمـن نابتـه نائبـة     وهـو  اللطيـف إذا ما طارق طرقا
وهـو  المهيمـن لا تعـدوه غائبـة     مـن خلقـه ولـه الحـكم الذي سبقا
أما معجم الرومانسية المتجسد في النور والفجر، وما إلى ذلك من ألفاظ تنتمي إلى حقول دلالية كالظواهر الطبيعية والكونية والعاطفة، حيث الشكوى والتحسر والحنين فتتضح في قوله:
 
يـا ليـل هل لك من صبح يرى خلقا     يجـلو عـن القلـب همًا يبعث الأرقا
يا ليل هل غارت من الخضراء أنجمها     والـربع أقفـر مـن سـماره غسـقا
وهكذا يبدو هذا الشاعر ممتلكًا ناصية اللغة، مستحوذًا على ملكة الشعر على الرغم من أنه لم يتوافر إلا هذه القصيدة التي أوردها المؤرخ عبدالرحمن بن زيد السويداء.
ومن الشعراء من عثر له على أكثر من قصيدة كالشاعر الشيخ حمود بن حسين بن محسن الشغدلي 1295 - 1391هـ / 1878 - 1971م الذي عاش ما يقرب من مئة عام، وقد تتلمذ على كبار علماء عصره، وحفظ القرآن الكريم، وانتقل إلى الرياض، وواصل طلب العلوم اللغوية والشرعية على أيدي عدد من المشايخ والعلماء المعروفين، ومنهم: الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، والشيخ حمد بن فارس الذي تتلمذ عليه عدد من العلماء الذين اشتهروا فيما بعد، فقد نظم الشعر على طريقة شعراء عصره في الإخوانيات والمراثي، وعمل في القضاء والإفتاء وهو من المشاهير في مجال العلم الشرعي، وقد درس في الأزهر الشريف بمصر أيضًا.
 
ومن الواضح مما روي عنه من أشعاره أنه كان نظاما عروضيًا، ولم يكن محترفًا في قول الشعر، فشعره شعر العلماء الذين يقولون الشعر توضيحًا لأمر، أو دفعًا لريبة، أو موافقةً لمناسبة ومن شعره:
 
ألا  يــا  ســائلاً عمّــا لدينــا     وبـاغي  الكشـف عمـا قـد رأينـا
فــإني قــائل صدقًــا وعــدلاً     ولســت بقــائل جــورا ومينـا
ومن أشعاره ما كان في التقريع واللوم والنصح أيضًا وقد يقترب من الهجاء:
 
إذا  كـنت لا تـدري ولـم تك بالذي     يسـائل مـن يـدري فكيف إذا تدري
جــهلت ولـم تعلـم بـأنك جـاهل     فمـن لـي بـأن تدري بأنك لا تدري
ومن شعره الوجداني:
 
لفـرط  الشـوق  أنشـأ مـن يقـول     أســير صبابــة مكــف غليـل
إلــى  لقيـا  الأحبـة مـن أقـاموا     بــدار يحــلو بينهــم المقيــل
ومن الواضح أنه لم يغادر مربع النظم على النحو الذي أشرنا إليه، وكأني به أحد العروضيين الذين أشار إليهم العقاد في مرحلة مبكرة من مراحل الإحياء.
ومن هؤلاء الشعراء الشاعر الشيخ سالم بن صالح البنيان 1301 - 1365هـ / 1884 - 1946م، الذي حفظ القرآن الكريم وكان إمامًا عرف بالورع، وقد تتلمذ على علماء عصره المشاهير من حائل والرياض، وهو شاعر مقل، فضلاً عن أنه شاعر نظام من الدرجة الأولى، ومن شعره في ضم حائل:
 
لـك  الحـمد ما هب النسيم من الصبا     ومـا  انهـل در المعصرات الهواطل
علـى  الفتح والنصر الذي كان فاعتلا     فقــرت  بـه واللـه عيـن الآمـل
ولم يدون من شعره إلا قصيدة وحيدة تحت عنوان (نفحة المسك) وهي من الإخوانيات، وجاء فيها:
 
ســلام  أتانــا معلــن بالمحبـة     بنفحـة  مسـك مـع فنـون التحيـة
ويبدو من هذه الأبيات أنه لم يكن شاعرًا محترفًا بل يقول الشعر عرضًا في بعض المناسبات في نظم موزون.
ومن الشعراء النظامين أو العروضيين الشاعر الشيخ سلمان بن عطية بن سليمان المزيني 1317 - 1363هـ / 1899 - 1943م وكان فقيهًا عالمًا له منظومات في الفقه والعبادات، حيث نظم متن (زاد الميعاد) في ثلاثة آلاف بيت، وله منظومات في البروج والنجوم، وأرجوزة طويلة في الفقه والألغاز، والفروض، والبيوع، ومن منظوماته في أركان الصلاة وواجباتها:
 
واعلــم  بــأن أركانهـا مشـتهرة     بأنهــا  أربعــة مــع عشــرة
قيامــه  مــع قــدرة لفــرض     تحريمــه جــاء بنـص مـرضي
وله عدد من الأراجيز على غرار ألفية ابن مالك في الأحكام والعبادات، ولم تخلُ أشعاره من قصائد في وصف حائل والحنين إليها كما في قوله:
 
ديـار  المعـالي بيـن سـمراء حائل     وبيــن  أجـا معمـورة بالفضـائل
رسـا  فـي معانيهـا سـمو ورفعـة     ومجـد  أثيـل شـائع فـي القبـائل
وأغلب أشعاره نظم في العبادات كقصيدته في أركان الصلاة وواجباتها، وأراجيز في الفقه على النمط النظمي الذي عرف عند ابن مالك الطائي، ومحمد بن علي الرجبي، وله أراجيز في الزكاة، وقلما نجد له قصيدة ذاتية المنـزع أو الموضوع كالقصيدة السابقة التي أشرنا إليها وهي (ديار المعالي).
ومعظم شعراء هذا الجيل ممن عرفوا بإجادتهم للعلوم الشرعية على هذه الشاكلة، فشعرهم شعر علماء يهدفون إلى تبسيط العلوم الشرعية، والمساعدة على حفظها، مثل: الشيخ صالح بن سالم البنيان الذي عاش منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين الميلادي، فقد عمل في القضاء زمنًا، وله عدد من القصائد الإخوانية بالإضافة إلى منظوماته الفقهية، ومنها قوله في الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ:
 
شـوقي  إلى الشيخ شوق الواجد الداء     إلــى الشـفاء أو العطشـان للمـاء
وقد جارى في المعارضات قصيدة الشاعر الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني التي مطلعها:
 
شـكت بلسـان الحـال طـول جناها     ونـادت ولكـن مـن يجـيب نداهـا
فعارضه في قصيدة مطلعها:
 
عــروس عرفنـا أصلهـا وبهاهـا     فـأهلا  بهـا يـا صـاح عند خطاها
وثمة ما يميز الشاعر الشيخ صالح بن سالم عن شعراء المنظومات، فبعض قصائده قريبة من الروح الشاعرية، وهناك شعراء مقلون آخرون، لم يعثر لهم إلا على أبيات قليلة، مثل: الشاعر حسن بن صالح الشامي الذي كان عالمًا فقيهًا توفي عام 1363هـ / 1943م، وكذلك الشاعر حسن محمد بن عوض الحجي الذي ولد عام 1278هـ / 1861م، وجل شعره في الزهد، اعتمد على ما يعرف بالتخميس، إذ تتكون كل قصيدة من خمسة أسطر، وقد خمس قصيدة الشاعر الشيخ إسماعيل المقري، ومطلعها:
 
النفس  داعيــة الــهلاك وكلمــا     رأت  الهــوى مـالت إليـه وقلمـا
يرجــو  النجــاة وطبعهـا لكنمـا     نفس  ابـن  آدم لـو تسـامى للسـما
فــالنقص مســتولٍ علـى أخلاقهـا
ومن المقلين الذين ورد ذكرهم بلا نماذج من أشعارهم الشاعر الشيخ سالم بن محمد بن عوض الحجي، وتوفي صغيرًا عام 1324هـ / 1906م في موقعة روضة مهنا، وقد ورد شعره في كتاب (زهر الخمائل في تراجم علماء حائل)، ومن هؤلاء الشعراء أيضا الشيخ محمد بن إبراهيم الإبراهيم؛ وهو أخو الأمير عبدالعزيز بن إبراهيم، حفظ القرآن الكريم، وتولى قضاء الجوف، وتوفي في حائل عام 1358هـ / 1939م وتوافرت أبيات قليلة من شعره يتضح منها أنه شاعر تقليدي موهوب، فقد أرسل يخاطب الشيخ صالح بن سالم البنيان عندما كان في تيماء عام 1319هـ / 1901م
 
سـارت إليـك فتـاة الفكـر زائـرة     تقـول وجــدًا بكـم تيمـاء تيمـاء
أحسـن  قراهـا وأصلـح من معائبها     وللكـريم  عـن العـورات إغضـاء
واجـعل هـديت سويدا القلب مسكنها     إن  الــملا قلهــم للـدين أعـداء
وقد رد عليه الشيخ بأبيات أخرى على القافية والوزن ذاته.
وشهدت حائل ظاهرة الأسر الشاعرة التي برز فيها أكثر من شاعر، مثل: أسرة البنيان التي ظهر منها سالم بن صالح البنيان، وصالح بن سالم البنيان، وعبدالعزيز بن سليمان البنيان؛ وأسرة الملق التي ظهر منها الشعراء: عبدالرحمن بن سليمان الملق، وعبدالرحمن بن عبدالله الملق، وعبدالمحسن بن عبدالرحمن الملق؛ وأسرة السويداء التي ظهر منها: مانع بن زيد السويداء، ومحمد بن علي جار الله السويداء، وعبدالرحمن بن زيد السويداء؛ وأسرة الشغدلي ومن شعرائها: حمود بن حسين الشغدلي، وحمود بن سالم الشغدلي، وغيرها من الأسر التي لا يتسع مجال الإشارة إليها، غير أنه ينبغي أن نلاحظ أن شعراء هذه الأسر يتفاوتون فيما بينهم في مستوى أدائهم الفني، وبعضهم مقل في قول الشعر، ولعل من الضروري أن نشير إلى أن معظم شعراء هذا الجيل يسيرون على وتيرة متقاربة، فهم متماثلون إلى حد ما في المشارب، والميول، والموضوعات التي يطرقونها، فهم إخوانيون نظامون في الجوانب العلمية والفقهية، عروضيون كما كان يطلق العقاد على بعض شعراء مصر في حقبة زمنية مقاربة للمرحلة التي عاش فيها شعراؤنا، ومنهم على سبيل المثال: علي بن عبدالعزيز بن أحمد آل عباس، والشيخ عوض الحجي، والشيخ عيسى الملاحي، والشيخ محمد الإبراهيم.
 
تجاوز بعض الشعراء بشعرهم حدود المنطقة، ودخلوا في علاقات أدبية مع شعراء المملكة بشكل عام، منهم الشاعر عبدالرحمن بن عبدالله الملق الذي يحتفظ بملف يتضمن بعض أشعاره المنتقاة، وجلها في مناسبات، ومطارحات إخوانية، أو الرثاء، وهو من مواليد عام 1343هـ / 1924م وبحكم معاصرته عددًا من ملوك المملكة العربية السعودية شهد منعطفات مهمة في تاريخ المملكة دونها شعرًا، وهي في مجملها وثائق تاريخية ذات قيمة توثيقية وفنية - إلى حد ما: وقصائده بعضها يتناول مناسبات دينية مثل أبياته التي قالها في إطلالة شهر رمضان المبارك ومنها:
 
أرى  طـالع الخيرات في اليمن قد بدا     ولاح  بآفــاق الهدايــة مرشــدًا
و لم يكن في إخوانياته تقليديًا، بل شعَّت في أبياتها روح شاعرة كما في قصيدته التي قالها متجاوبًا مع قصيدة للشاعر الدكتور محمد بن سعد الدبل بمناسبة افتتاح النادي الأدبي بحائل عام 1416هـ / 1995م ومطلعها:
 
لـك اللـه مـن حـبر عليـه وقـار     تجـلى  لـه صـدق البيـان شـعار
وقد كشف فيها عن ثقافة تراثية واضحة إذ يقول:
 
فحـائل  للـرواد  مـن عهـد حـاتم     يطيــب  بهــا للزائـرين مـزار
وعمـرو  بن درما وامرؤ القيس جاره     ببلطـة نــوق المســتجير تجـار
(يســرحها  غبًـا بأكنـاف حـائل)     قريتهــا  فيهــا  لهــن قــرار
ومن قصائده المهمة؛ قصيدته في حب حائل التي يقول فيها:
 
حـب  الديـار وفـاء مـن محبيهـا     بيــن  الجـوانح أشـواق تناجيهـا
ومن قصائده التي تكشف عن علاقته الواسعة بأدباء المملكة قصيدة رد بها على الشاعر إبراهيم الدافع، يتجلى فيها نفس وجداني حميم إذ يقول:
 
لـك اللـه مـن قلـب تذرع بالصبر     ينـوء  بأعبـاء تجـل عـن الحصر
كذلك قصيدته الأخرى التي ذكر فيها إبراهيم الدافع، وهي من القصائد التي تنم عن شاعرية متوهجة، وإن بدا نهجها تقليديًا، ومعجمها تراثيًا، فقد استهلها بقوله:
 
ملـك الحجـا منـي جمـاح فـؤادي     وأعـاد  لـي بعـد السـهاد رقـادي
ومن المناسبات التي نظم فيها شعرًا مناسبة زيارة رائد الفضاء العربي الأول سمو الأمير سلطان بن سلمان إلى حائل، وضمنها لمحات ذكية طريفة وهو يقول:
 
بنـد العروبـة والإسـلام قـد خفقـا     نحــو  الكـواكب والأفلاك منطلقـا
وقد أهمته قضايا أمته فعبر عنها في عدد من القصائد كقصيدة (ما للعروبة داؤها بردائها) ولعل من أكثر قصائده حميمية وإثارة للشجن تلك التي رثى بها ابنه عبدالله بن عبدالرحمن الملق الذي توفي في 21 / 7 / 1424هـ الموافق 2003م يقول في مستهلها:
 
بـدر  تـألق فـي أعمـاق وجـداني     وفـي  ضمـيري نما والمهد أحضاني
ومن الشعراء الذين صدر لهم عدد من الدواوين: عبدالرحمن بن زيد السويداء، ويعد من شعراء الجيل الثاني، وألف كتاب (شعراء الجبل) الذي يعد من المراجع الرئيسة في مقاربة الشعر في منطقة حائل  ، بل أشبه بموسوعة لشعرائها، وللشاعر خمسة دواوين هي: (رؤى مسافر، ولوا عج، وهواجس، وأشجان، والوجيب). وهو من الذين أرخوا لمنطقة حائل ونجد بشكل عام، وعني عناية فائقة بالأمثال، وله أعمال سردية، وفكرية، واجتماعية، ومشاركات منبرية عدة، وهو من الشعراء الذين تبلورت لهم شخصية شعرية خاصة، وكتب الشعر بمفهومه الإحيائي والإبداعي، وهو ذو نفس شعري طويل، من ذلك قصيدة الدوحة الشماء التي نشرها ضمن مختاراته ومطلعها:
اللــه  أكـبر مـا عشـنا بكوكبنـا     ومــا  تفــاعل بـالذرات أجـزاء
وهي ذات منـزع إنساني فكري ورؤية دينية رحبة، ويبدو على ديوانه (هواجس) الطابع الذاتي الذي لا يغادر الدائرة الإحيائية، فالطابع التقريري الزاهد في المجاز الجديد الذي تبعد به دائرة الإيحاء الواسعة ما زال هو الطابع الغالب على شعره.
وبرز جيل من المهتمين بالشعر ينظمونه في المناسبات الوطنية والإنسانية والدينية، ولكنهم ليسوا محترفين لقول الشعر، وهؤلاء كثر لا يمكن الإلمام بأسمائهم، ثم امتد حضور هذا التيار في الحركة الشعرية بمنطقة حائل لدى عدد من الشعراء الشباب الذين تعاملوا مباشرة مع المناسبات الاجتماعية والوطنية ربما عدوا جيلاً ثالثًا من الشعراء المحترفين الذين أصدروا دواوين شعرية كاملة، مثل الشاعر كريم النويمس؛ وهو شاعر صدر له ديوان تحت عنوان (أدمع من القلب) وقد شارك في عدد من الأمسيات الشعرية في الأندية الأدبية في المملكة، وفي بعض دول الخليج، وله مشاركات أدبية في الصحف، وهو ذو نـزعة رومانسية ذاتية تنـزع أحيانًا نحو التبرم من بعض الأحوال ناجم عن ضيق نفسي كقوله:
زمنــي مــذ عشــت بـه نكـد     وســـكونك  قلبـــي أنكـــده
لا  النـــوم ألــذ لــه طعمــا     والعـــزم  تـــدانى تجـــلده
والصـبر وعهــدي بــه جــبل     يــأبى أن يضعـــف جـــلمده
مــــاذا  أوهـــاه وزلزلـــه     وبــــدا  لا كـــان تبـــدده
وقد برز بين الشعراء الشباب الذين تطوروا بشعرهم، وخرجوا من إطار التقليد إلى التجديد الشاعر محمد الحمد الذي أصدر ديوانًا بعنوان (أضواء محترقة) عام 1423هـ / 2002م، وضم هذا الديوان قصائد عمودية قيلت في مناسبات اجتماعية مختلفة، وقصائد أخرى من شعر التفعيلة، ولدى الشاعر نـزعة وطنية إنسانية، وأغلب قصائده من الشعر الحر، وشارك في عدد من الأمسيات الشعرية على مستوى المملكة والبحرين، ويتسم شعره بالخروج من إطار المناسبات المحدودة إلى آفاق ورؤى واعدة، ويستخدم لغة استعارة متميزة، تتكئ أحيانًا على السرد، وينـزع إلى استثمار الثنائيات الضدية، والتشكيل المستمر للمشاهد؛ وهو ذو نـزعة تجديدية واضحة "لا تسألي فأنا أهيم بكل ما هو مختلف".
ولشتيوي عزام الغيثي حضور في المناسبات الوطنية والاجتماعية وإن لم يصدر ديوانًا بعد، ويكشف شعره عن موهبة بدأت تحقق كينونتها على نحو شديد الوضوح، وقصائده موزعة على أغراض مختلفة بعضها يرتبط بالمناسبة العابرة، وبعضها الآخر ذو رؤية وموقف من الحياة فهو كاتب صحفي من الدرجة الأولى ومن قصائده: (مسافرون في الزمن المسافر)، (أهلاً حبيبتي السمراء)، (الحب في وجه الخناجر)، (يا ملاكي الصغير)، (صديقتي بيروت)، (عيناك مي)، وله ديوان مخطوط يحمل عنوان القصيدة الأولى (مسافرون في الزمن المسافر) والشاعر ذو نـزعة وجدانية رومانسية الطابع، ومن أشعاره قوله في قصيدة من بداياته بعنوان (في قاطرة الذكرى):
 
شـردت فـوق رصيف الدمع أجفاني     فيـا سـنين أعيـدي بعـض أزماني
إنــي  ألملـم أوجـاعي وذاكـرتي     فهـل  سـأدفن  أسـفاري وأحـزاني
أنـا  هنـاك..وحبي مـن هنـاك بدا     فليـت  لـي  بعـض أيـام وأوطاني
قد كـنت أزرع عمـري أنجمًا وهوى     حـتى  تنـاديني فـي الحب غزلاني
وبرز في نمطه الشعري نـزوع نحو التجديد وتوظيف التراث وعناصر البيئة كما في قوله في قصيدة (حب في وجه الخناجر):
 
إننــي  شــهريار حـتى تكـوني     يــا حيــاتي كشـهرزاد جـفوني
نخلـة أنـت فـي رمـال ضمـيري     فاســتقري  يــا غابـة الزيتـون
بيـن  عينيـك راحـة مـن ضيـاء     وشــفاك مــن عطــر الليمـون
ولم يقتصر على الشعر العمودي، فكتب شعر التفعيلة حيث يبدو نفس نـزار واضحًا لديه، إذ يقول:
سأعلن أنك أول أنثى
وآخر أنثى
وأنك كل النساء
سأعلن أنك كل البدايات وكل النهايات
 

ب - الكتابة القصصية:

 
عرفت حائل عددًا من كُتّاب القصة القصيرة والرواية، يأتي في مقدمتهم عاشق الهذال الذي أصدر له نادي جدة الثقافي أول مجموعة قصصية تلتها مجموعات أخرى، أسست لظهور جيل من كتاب القصة القصيرة في حائل.
 
برز بعض كتاب القصة القصيرة في حائل على المستويين المحلي والعربي، مثل جار الله الحميد الذي اشتهر بعد إصدار مجموعته الأولى (أحزان عشبة برية)  ، حيث وظف فيها تقنيات القصة القصيرة، كالحلم، والمنولوج الداخلي، والمزج التبادلي بين الأشياء والأحياء، وكما هي في العشبة البرية الرمز، حيث يقول: "وأحسست أني عشبة برية يدوسها جمل فتنتفخ بنياشين التاريخ" وكان هاجسه الرئيس في هذه المجموعة (الاغتراب) ممثلاً في الرحيل الدائم، والعزلة الموحشة، والتوحد في الكائنات الأخرى، وقد اتكأ على أسطرة الواقع، وتميزت مجموعته هذه بمنهج تشكيلي يقوم على الإيقاع المفعم بالتداعيات، وعلى اللقطات الخاطفة المركزة، وعمد إلى أسلوب مراكمة الرمز، والارتداد نحو الداخل، ثم التركيز على المكان (الشعيب)، وقد عمد إلى استخدام لغة استقصائية قائمة على الأسلوب التراكمي، تلتقط التفاصيل وتنقلها في سياق ينبش في أعماق الذات، وفي سراديب النفس الإنسانية مع تداعيات تفتقد الترابط المنطقي، لتبدو كلوحة تتقاطع فيها الخطوط والألوان.
 
وقد صدر للكاتب عدد من المجموعات القصصية منها: (وجوه كثيرة أولها مريم)، و (ظلال رجال هاربين)، و (رائحة المدن) وغيرها، وقد بدا في مجموعة (رائحة المدن) الصادرة عن نادي جدة الثقافي أكثر نـزوعًا إلى الواقع، وأكثر اهتمامًا بالتجربة الذاتية، وإن لم يتخل عن منهجه الاستقصائي في مجموعاته المختلفة، مجسدًا الاغتراب وتجلياته على المستوى الجمالي من خلال التشكيل، ونمط البناء، ومنهج التداعي الحر، والتمحور حول الحدث المركزي في القصة كما في قصتيه (صائد العصافير)، و (المصعد) في حين لجأ إلى الخطاب الشعري في مجموعته (ظلال رجال هاربين) التي أصدرها له نادي حائل الأدبي في لغة مجازية مترعة.
 
ومن رواد الكتابة القصصية الحديثة أيضًا جبير مفضي حمود المليحان: ولد في حائل عام 1371هـ / 1951م، وهو حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعمل مدرسًا، ثم موجهًا للغة العربية بالبحرين، ومديرًا لتحرير جريدة (اليوم). وقد أسس موقع القصة العربية على الإنترنت، أصدر مجموعة قصصية بعنوان (الوجه الذي من ماء). ويعد من رواد القصة القصيرة جدًا (القصة اللقطة)، وتتميز لغته بكثافة رمزية عالية تقرب النص السردي من قصيدة النثر، بل إنه يعد أبرز رواد هذه الكتابة الحديثة في المملكة ومنطقة الخليج. كتب القاص أيضًا قصصًا للأطفال والفتيان تجمع بين سهولة المظهر، وعمق المحتوى الدلالي بفضل تلك اللغة الشعرية الرمزية ذاتها.
 
ولعل كاتب القصة القصيرة الذي اتجه اتجاهًا نفسيًا واضحًا ربما بحكم دراسته التخصصية هو ناصر العديلي منذ مجموعته الأولى (الزمن والشمس اللذيذة) التي أصدرها عام 1405هـ / 1985م وتبنى فيها اتجاهًا سيكولوجيًا حافظ عليه حتى نشر قصته القصيرة الطويلة (أسطورة الشعيب) في ثلاثة أجزاء، عكف في الجزء الأول منها على تقديم لوحات ومقاطع تمثل أجواء مكانية وإنسانية شعبية عريقة، ألقى من خلالها الضوء على ما انتاب المنطقة من تحولات حضارية في رؤية تاريخية اجتماعية، مستثمرًا أشكالاً مختلفة من القص؛ وبخاصة أسلوب السيناريو حيث تتسلسل المشاهد ويتعدد الرواة، وقد بلغ عدد مقاطع الجزأين الثاني والثالث نحو ثلاثين مقطعًا، احتشدت بشخصيات شعبية السمات النفسية والاجتماعية والسلوكية، متقصيًا مختلف السمات والملامح، وتبدو الحركة في هذه القصة جماعية على نحو تنتفي معه الذاتية المحضة، حيث تتصل كل الوقائع بحياة الشعيب مجتمعة بأناسه وأمكنته وعاداته، وتنقل أنماط العيش المختلفة في الشدائد والرخاء والأزمات، وقد كان مسرح الحركة الاجتماعية فيها شاملاً في المزرعة والمدرسة والبيوت، مما يجعل هذا النص السردي أقرب إلى العمل الروائي، ولعله مشروع رواية لم تكتمل بعد.
 
ويبرز عبدالحفيظ الشمري كأحد أبرز الأسماء الثقافية في منطقة حائل بوصفه ساردًا، ألف في القصة القصيرة والرواية، وأصدر عددًا من المجموعات القصصية، ولعل أبرز هذه المجموعات مجموعة (وتهرأت حبالها) التي بدت فيها كثافة القص عالية، وتفاوتت قصصها طولاً، وبدا واضحًا استبداد الفكرة بالكاتب في قصصه على قاعدة التمركز داخل اللحظة، وشطب الأبعاد الزمنية المحددة، فالزمن هلامي، ويبرز التراسل بين صفات الأشخاص والأمكنة والحالات، كما يبدو الإسراف اللغوي شديد الوضوح في قصص المجموعة كما في أغلب أعمال عبدالحفيظ الشمري، حيث يلوذ الكاتب بالأبنية الصرفية، ويركز على استخدام المصادر، ويحرص على التجريد وترميز الظواهر الطبيعية (كالظل، والشمس، والضباب، والدخان) ونهاية قصصه في مجملها مقفلة لغويًا ومفتوحة حدثيًا، وثمة منحنى واضح في التحليل توضحه الصياغات اللغوية، فهو يقرر في البدايات بمنهج افتراضي تحليلي، ويصدق هذا على معظم أعماله السردية.
 
أما سعود الجراد فقد بدأ كتابة القصة في وقت مبكر، لكنه لم ينشر مجموعته القصصية الأولى إلا في وقت متأخر نسبيًا؛ لذا بدا النضج فيها شديد الوضوح، إذ نشر هذه المجموعة تحت عنوان (بورتريه للسيد مطيع) عام 1420هـ / 1999م  وتضمنت ما يقرب من إحدى عشرة قصة كتبت في تواريخ مختلفة، تمثل معظم مراحل إنتاج الكاتب، وهي تنـزع إلى بناء النموذج الاجتماعي في بعديه الإنساني والنفسي، وهذا ينسجم مع عنوان المجموعة (بورتريه) وقد استثمر الكاتب أسماء الشخصيات ليطلق دلالتها في فضاء المجموعة: "قال متعب بألم عميق: أنت مطيع وأنا متعب، وقال مطيع متوعدًا: هذا الكلام سوف يؤثر على تقريرك السري بشكل عام في العام القادم"  
 
وإذا كان متعب ومطيع يعبران عن دلالتين متناقضتين، وإيحاء ينم عن نموذجين إنسانيين، فهناك صابر العواد، وسعد، وفياض وما تعنيه تلك الأسماء، يضاف إلى ذلك أسماء أخرى في المجموعة، مثل: عذال بن برجس، وهي قصة تتحدث عن نموذج إنساني آخر، لكنها تقرن هذا النموذج بمسألة الإبداع ومعاناته، وكأنها تقارب هذه القضية من زاوية مختلفة، وحتى في تلك القصص التي توهم بأنها تقارب حالة اجتماعية أو إنسانية كما في قصة (بكاء) يعمد الكاتب إلى تشكيل النموذج ممثلاً في الأم، وكما في قصة (أرق) وفي غيرها من القصص.
 
ويتعامل الجراد مع زمن السرد باعتباره مادة متناسجة لحمتها الحدث والمكان وسداها السرد في زمنه التاريخي حيث يتماهى زمن السرد مع الزمن التاريخي على شكل فقرات، وليس بشكل الامتداد الكرونولوجي لمفهوم الزمن، ففي قصة (هروب) يمتد الحدث عددًا من الأيام:
 
" (موضي) مكثت ثلاثة أيام في بيت الوالد"
"غادرت بيت زوجها ليلاً؛ بعد أن قام بضربها"
"في ليلة البارحة وكالعادة عاد (شجاع) من (الشبه) بعد منتصف الليل"
"قلت لنفسي: غدًا سوف أذهب إليه"
"ثم نمت، وصحوت من نومي عند الظهر، وأخبرتني أمي بأن (موضي) بين أطفالها الآن؛ في بيت زوجها منذ الصباح الباكر"
 
نجد في هذا المقطع أن زمن السرد الخاص يتعامل مع أحداث واقعية يقع بعضها في الماضي، والآخر متوقع حدوثه في المستقبل، وأخرى تدور في الزمن الواقعي. ونجد الأسلوب نفسه في قصة (حكاية الغراب الأبيض) مع ملاحظة أن الكاتب في قصة (هروب) حافظ على التسلسل المنطقي الكرونولوجي للزمن، ولم يهتم بذلك في قصة (حكاية الغراب الأبيض) فالجراد يعنيه بالدرجة الأولى زمن السرد الذي قد يتقاطع مع الزمن التاريخي للوقائع، كما يفتت زمن السرد في علاقات يخضع ترتيبها لمنطقه الخاص دون الاهتمام بالترتيب الكرونولوجي.
 
ويشبه تعامل الجراد مع المكان تعامله مع الزمن، ففي قصة (حكاية الغراب الأبيض) يحدد مكان وجوده المبهم بمدينة يغادرها إلى "أرض خلاء وأثل ومطر من أجل البكاء" ثم يعود مرة أخرى إلى داره بالمدينة ليستدعي من خلال الحكاية الأسطورية - التي تشكل الجزء الثاني من القصة، والتي تصلح أن تكون قصة مستقلة بذاتها: مكانًا يوازي مكان الوجود الحقيقي، حيث يوثق وصفه المكان بدقة، وهو يحكي لنا حكاية (المختلف) الذي لا يستطيع القطيع قبول كونه مختلفًا، فيقررون التخلص منه، والجراد حين يصنع التوازي بين المكانين يسقط رؤاه الواعية عن رفض الآخر داخل المكان الأسطوري على المكان الواقعي، طارحًا تساؤلاً منطقيًا حول أحقية المجموع في رفض الأقلية.
 
وبتقنية تشظي المكان نفسها يبدأ الجراد قصة (بكاء عذال بن برجس) من ممر المستشفى بما يحمله من خصائص تتناقض مع المكان البدوي الذي هو البيئة الطبيعية لبطل قصته، لينتقل بعد ذلك دون مقدمات إلى مكتب التأمينات الاجتماعية في تداخل سردي لا يفصل بين الزمان أو المكان عبر تقنية تشبه التلاشي الفوتوغرافي، ثم يعيد ممارسة التقنية نفسها التي تذيب الفواصل لينتقل إلى لا مكان من خلال تقرير طب نفسي، ويؤكد خلال ذلك على تأصيل الأحداث بذكر أسماء شخصيات ومواقع حقيقية.
 
وليس من شك في أن الجراد ينـزع منـزعًا واقعيًا اجتماعيًا في قصصه بشكل عام، وهو ذو أسلوب مميز ينأى عن الخطاب الشعري المألوف في قصص معاصرين.
 
وينتمي القاص خالد البليهد إلى الجيل نفسه؛ حيث يتميز أسلوبه في التعامل مع زمن السرد باعتباره لحظة هاربة متفلتة يجهد في اقتناصها وحبسها بين دفتي أوراقه، ويلهث ليمنحها من أنفاسه الملتهبة الراكضة صوتًا داخليًا حميمًا حتى يصبح الزمن الداخلي الخاص ببطل السرد جزءًا لا يتجزأ من الموضوع، ويتوحد زمن السرد مع الزمن التاريخي للأحداث - وإن لم يتزامنا: حيث يتضافران في إطار القص الذي لا يتجاوز زمنه عند البليهد لحظة السرد ذاتها غالبًا، فهو إن أراد أن يستزيد من أحداث الماضي لا يعود إليه بشكل كامل، ولكنه يمارس التذكر الحميم الذي يغمسه في ذات اللحظة السردية ليدعمها ويزيد في تكثفها.. يقول البليهد في قصة (نافذة القبو):
 
"ذاك العطش الذي يوقظك إلى حيث الماء فزعًا، وعندما تعب الماء بنهم حتى تبتل أطرافك.. تعود فتنام بعمق تام (يا الله) هكذا في غمضة عين أو كأنك في حلم! أذكر أن جدي كان لا ينام حتى يضع (طاسة) ماء كبيرة بجواره، وعندما كنا ندلقها أو نعبث بها؛ يتمتم بوجل؛ إن وضع الماء بجوار النائم (وعند الطعام أيضًا) من السنة المطهرة، ثم يرتفع حاجباه هلعًا! كانت النافذة نصف مضاءة عندما ارتويت"
 
في هذا المقطع نجد أن زمن السرد الخاص بلحظة شرب الماء - بين النوم واليقظة - يستدعي ذكريات متكاملة توازي وتدعم الحالة الشعورية التي يتناولها القاص دون الخروج من الزمن الواقعي، ويستخدم البليهد بهذا الأسلوب ذكرياته بما تحويه من تاريخ، للتضافر منطقيًا مع زمن السرد، لتكثيف لحظة القص التي يوصل عبرها رسالته بما تحويه من مضامين وشحنات شعورية لا تخلو من توتر، ويحبس البليهد أحداثه السردية لكل قصة في مكان حميم متصل اتصالاً وطيدًا بالسرد وموضوعه، ففي قصة (زيارة) على سبيل المثال تنحصر الأحداث ما بين باب البيت والردهة الموصلة إلى غرفة الاستقبال ثم الغرفة؛ وفي قصة (مساء شمالي) يحدث السرد كله في غرفة واحدة لا يخرج منها، وحين تنتقل الذاكرة لتستدعي أحداثًا من أمكنة أخرى تربطها بذات مكان السرد الأصيل لتتحول الأحداث المتشظية في المطار والطائرة والورشة والباص إلى ذكريات يستبطنها الوجود في مكان السرد؛ أيضًا يبدأ البليهد أحداث قصة (نافذة القبو) في غرفة يصفها بأنها "شاحبة" ويستدعي الوجود في هذه الغرفة الشاحبة ذكرياتٍ وأحداثًا من الماضي وقعت في أمكنة أخرى، ثم يستدير السرد عائدًا في النهاية إلى الزمن ذاته والغرفة نفسها (المكان) في تقنية دائرية.
 
ومن كُتَّاب القصة القصيرة الذين ينتمون إلى الجيل نفسه، والذين لم يعنوا بنشر إنتاجهم في مجموعات قصصية، فهد السلمان، وقد عمد إلى الانـزواء بعيدًا عن الأضواء والمشاركات المنبرية مكتفيًا بما ينشره من مقالات في الصحف اليومية.
 
ومن كُتَّاب القصة القصيرة من جيل الشباب فارس الهمزاني الذي أصدر مجموعته الأولى عام 1424هـ / 2003م تحت عنوان (شارع الثلاثين) وفي هذه المجموعة يبدو الكاتب وجدانيًا رومانسيًا، يغلب الشعر على خطابه السردي، ولغته مجازية مفعمة، وبطله يتجاذبه الشجن ويسكنه الحنين، وقصصه أشبه بالدفقات، يهتم بالعبارة الأنيقة، ففي إحدى قصصه وهي جونيه يقول: "تحلق أسراب حنان فوق قافلة الزمن.. الجمال سيد الموقف.. تذهل الأناقة النظر.. ينثر العطر الأمل.. تتمخطر الناس بتلقائية على شارع يتأجج برطوبة العاطفة...إلخ".
 
وتضم مجموعته سبع عشرة قصة قصيرة أغلبها لا يتجاوز الصفحات الأربع، وعناوينها تتكون من كلمة أو كلمتين، ويعكس الهمزاني وجهة نظر سعودية شابة لجيل جديد، يتناول ماضيه وواقعه ومستقبله بالتساؤلات، ويبحث بقوة عن دوره في صنع المستقبل، ويسعى إلى تجاوز القيود التي يعتقد ويشعر أنها تعوقه عن ممارسة الحياة التي يُعبر بصدق ووضوح عن حبه وانحيازه إليها؛ كما يعلن بقوة تمرده على العوامل السكونية في المجتمع، ويسعى إلى المشاركة في علاقة حيوية تربطه بعناصر المجتمع المختلفة بثقة، ويرفض كل المؤثرات التي تعوقه عن المشاركة وإبداء الرأي، وتحقيق تغييرات جوهرية في المجتمع الذي يحبه وينتقده في الوقت ذاته.
 
ويأتي عبدالسلام الحميد سكرتير نادي القصة في حائل كقاص واعد من هذا الجيل الجديد معني بالتعبير عن الملامح الإنسانية بأسلوب يقترب كثيرًا من تمرد الرومانسيين، وتقنيات سرد مكثفة تُحدث الصدمة عند المتلقي مع حرص كبير على بنية الحكاية في قصصه القصيرة، والقصيرة جدًا التي ينشرها على فترات متباعدة في الصحف المحلية.
 
ج - الرواية:
 
أما الرواية فثمة مَنْ يكتبها من كُتَّاب القصة القصيرة الذين أشرنا إليهم، وبعض الشعراء والباحثين مثل عبدالرحمن زيد السويداء الذي عمد إلى كتابة روايتين أو أكثر هما (رائد) و (العزوف) وله مفهومه الخاص للرواية الذي ينـزع إلى الجانب الأخلاقي التاريخي وحواراته في رواياته (إذا صح اعتبارها كذلك) باللهجة العامية، وهو يشير إلى الهدف من كتابته للرواية في مقدمة (رائد) قائلاً: "رأيت لزامًا علي بعد أن كتبت قصتي الأولى بعنوان (فالح) ذلك الشاب الذي نشأ نشأة بسيطة واستطاع بفضل الله وتوفيقه، ثم بقوة عصاميته أن يصارع تيارات الحياة مكونًا نفسه من لا شيء في معظم المجالات حتى أصبح ممن يشار إليهم بالبنان، ويرمز هذا الشاب إلى جيل من أجيال هذه الأمة".
 
ويبدو من الصعب اعتبار هذا العمل رواية، لكنه يندرج في إطار المحاولات التي لا يمكن إغفالها، وثمة من اقترب كثيرًا من كتابة الرواية مثل محمد علي الحبردي في (مزنة) و (حمى قفار) التي حاول فيهما عرض ذكرياته عن حائل، وما أَلمَّ بها من أحداث رصد منها الحمى التي انتشرت في المنطقة، وفي الفصل الأول يشير إلى ذلك مباشرة حيث يقول: "في عام 1955 - 1956 كنت صبيًا يعبث الخيال والذهول بذهني وتتجاذبني خواطر الدهشة والحيرة بين السعادة والحزن، كان صديقي عبدالكريم الذي كنت ألعب معه وبقية أصحابي أمام بيوت القرية قد تغيب عنا ولم يعد يلعب معنا، سمعتهم يقولون إن جدته النحيفة التي تقوم برعايته قد ماتت، لقد أصيبت بحمى قفار...إلخ".
 
وتأتي في الاتجاه ذاته محاولات سعد العفنان الذي ألَّف كتبًا في عدد من المجالات، ولكن محاولاته السردية تبقى محدودة القيمة وفي إطار لا يتجاوز اهتماماته الخاصة.
 
ومن الأعمال شبه الروائية (أسطورة الشعيب) لناصر العديلي التي نشر منها ثلاثة أجزاء، وقد استخدم الكاتب في الجزء الأول من قصته أسلوب اللوحات التي تأتي في مقاطع تمثل أجواء زمنية ومكانية وإنسانية ذات طابع شعبي محلي له صلة وطيدة بالمنطقة، ليلقي الضوء على ما انتاب المنطقة من تحولات حضارية وفق رؤية تاريخية اجتماعية، وقد نهج العديلي نهجًا متنوع السياقات في إطار تقنية السيناريو، حيث يتعدد الرواة، ويختفي الراوية أحيانًا فيبنى الفعل للمجهول مما يتيح الفرصة أمام تشكيل فني تعبيري متقدم، كما تتعدد أسماء الشخصيات، وتكتسي بسمات شعبية مثل (مطلق) و (مزنة) و (حمدان) و (محيسن) وتبدو بعض عناصره أشبه بالتضاريس التي تلتحم بالمكان والزمان التحامًا أصيلاً؛ أما الجزء الثاني والثالث فهما يتممان الجزء الأول، ويتصلان به، فيرد ذكر عدد من الشخصيات التي كان لها دور في الجزء الأول، ويبلغ عدد مقاطع هذين الجزأين أكثر من ثلاثين مقطعًا، ينحو فيهما الكاتب المنحى نفسه، حيث يحتشدان بالشخصيات ذات الطابع الشعبي، ويسلك الكاتب فيهما الأسلوب نفسه من حيث تقصي الملامح الاجتماعية والنفسية، ويرصد الجزئيات الحدثية في مشاهد متوالية تتناول جوانب مختلفة من الحياة في الشعيب وتتقصاها، ويلاحظ الدارس لهذه القصة أن الحركة فيها جماعية، فليس ثم حدث ذاتي محض، بل تتصل كل الوقائع بحياة الشعيب، والقصة هي بانوراما تستحضر تاريخ الشعيب كاملاً بأناسه وأمكنته وعاداته، وتنقل أنماط العيش المختلفة في الأزمات والشدة والرخاء حينما يهاجمهم الجراد، وحينما ينقطع الماء أو ينتشر المرض، ويتسع المدى المكاني والإنساني في محاولة للإمساك بعالم يوشك على الاندثار والغياب مما يذكر بوسمية عبدالعزيز مشرى.
 
وتأتي في الإطار نفسه رواية صالح عبدالعزيز العديلي (الأديرع) التي تدور في البيئة نفسها التي كانت مسرحًا لأحداث المشروع الروائي السابق الذي يبدو غير مكتمل، فالمكان يتمثل في وادي الأديرع حيث يحرص الكاتب على تقديم المشهد الطبيعي الذي يعد إحدى السمات المميزة لهذه المنطقة، ويرسم أجواءً رومانسية للمكان، ويغوص في عمق العلاقات الإنسانية، ويلتقطها عبر معجم وجداني حميم، وينـزع منـزعًا توثيقيًا إلى حد كبير، موغلاً في ذكر التفاصيل، وتقصي الملامح تقصيًا تصويريًا يرصد الثوابت الاجتماعية والإنسانية وحتى الطبيعية، ويعرج على ذكر الوقائع المعتادة، ولكنه يساير التطور الذي يلم بالوادي ويرصده، ويبدو ولعه واضحًا بالشعر النبطي والشعبي الذي يضمنه روايته: "وأهل الهوى طريين ما يسمعونه ناح الحمام بعاليات المقاصر".
 
واللافت إقامة الكاتب حوارًا بين المكان والإنسان؛ بين الوادي وأهله، وكأنه يريد أن يستنطق المكان ومن ذلك قوله: "أحس أبو علي أن الوادي يتحدث إليه، يعاتبه ويحاكمه، وأنه يستخدم بكل جرأة لغة ومفردات قاسية لم يعتد على سماعها من قبل" حتى الأسماء التي اختارها المؤلف كانت ذات نكهة شعبية مثل " أبو غونيم وأبو عتاري...إلخ". وقد عرج على ذكر التراث الأدبي الشعبي للمنطقة مشيرًا إلى الحكايات والقصص والألغاز.
 
أما عبدالحفيظ الشمري فأصدر روايتين هما: (فيضة الرعد) و (حاسة الغناء)، وقد صدرت في بيروت عن دار (كنوز) الأدبية كجزء من ثنائية أطلق عليها (ثنائية أظاليل طلح المنتهى)، وإذا كانت الأعمال الروائية السابقة قد ركزت على البيئة بالدرجة الأولى وعلى خصوصيتها، فهذه الرواية تُركز على النموذج الإنساني دون أن تغفل المكان، وتهتم بالمرأة ووضعها؛ إنها رواية (غزالة) المرأة الأربعينية المشلولة الملقاة على فراش المرض، والنموذج الإنساني الاجتماعي الذي يرمز إلى ما هو أبعد من كونها امرأة، فهي أول مَنْ يلقانا في مستهل الرواية، وإلى جانب غزالة هناك ضحى، وجعدة وغيرهن من النساء، وهناك فتال الجبال، وأمين وغيرهم، ولكن يظل التركيز على غزالة، وتميزت هذه الرواية بعناوين الفصول الطويلة من مثل "استمع إلى كلام المجنون المفوه، ففي حديثه ما ينبئ عن قول حق يتجاهله العقلاء"وهكذا تبدو عناوين معظم الفصول التي تبلغ فصولها المرقمة ثمانية عشر فصلاً، بالإضافة إلى فصول غفل من الترقيم.
 
أما روايته الثانية (جرف الخفايا) التي أطلق عليها اسم (الفيء الثاني من ثنائية أظاليل طلح المنتهى) فيستخدم الكاتب فيها حيلة ذكية وبسيطة، ليصنع شبكته السردية المنطقية التي يصيد بها القضايا التي تؤرقه كمثقف عضوي في ثقافة متحولة، فيستخدم حادثة اختفاء أحد شخصياته بعد شجار عادي مع رفيق له، لتكون هي المحور الذي يدفع بالأحداث إلى الأمام في حركة دائرية، تُشكل كل حلقة فيها أداة لتعرية واقع مسكوت عنه؛ إذ يتخذ الكاتب موقفًا نقديًا من الثقافتين العربية والإسلامية، يمكن نسبته إلى موجة ما بعد الحداثة، يفكك من خلاله هاتين الثقافتين منطلقًا من حنين ورغبة في العودة إلى الريفي الفطري (تلعة الحمض) في مواجهة الحضري المدني (جرف الخفايا) بعدما هرب من بساطة وتخلف الأول ليكتوي بالثاني معانيًا النوستالجيا المؤرقة:"لم يكن ثمة اتفاق مسبق بين المدينة والفلاة على توزيع أدوارها، فكلما جاد الريف بالبهاء والجمال والدعة، انعكس لا محالة على المدينة التي تتاخمه".
 
ويرى الكاتب في الفطري نوعًا من الفضل حتى وإن انتقده، ويعد الريف هو الأصل، لذلك يبدو رغم انتقاده له راسخًا في الضمير لا يتحدث عنه إلا قليلاً باعتباره من البديهيات والأصول؛ حتى وإن اختلف مع تفاصيل الحياة فيه.
 
وقد أومأ الكاتب في إهدائه الخاص إلى أنه يرمي إلى الكشف عن الخفاء الذي يحاول إطفاء فانوس الذات كما يقول، ويشير إلى ذلك بقوله: " هذا بعض الخفاء الذي حاول إطفاء فانوس الذات، جهدت كثيرًا لعلي أخرجه على الملأ " والرو
شارك المقالة:
101 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم