الأسس الفكرية للأدب الحديث بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.
دخل الملك عبد العزيز - رحمه الله - الحجاز عام 1343هـ / 1924م، وأصبح يسمى (ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها)، وكانت منطقة مكة المكرمة قد تهيأت بأن تبنى فيها حركة فكرية وثقافية لما بدر فيها من حماسة أسهمت فيها التغيرات العالمية، ودخول الحجاز دائرة الاهتمام بالشؤون العربية، ثم حسم الأمر للملك عبدالعزيز. ويجعل منصور الحازمي أوائل العهد السعودي بداية حقيقية للأدب الحديث في بلادنا ، وإن كان هذا لا يقصي بناء الاستعداد، واستنهاض الهمم، واستنفار المتاح من الإمكانات عبر دخول المطابع، والصحافة، ودروس المسجد الحرام، والمدارس الحكومية والأهلية. وقد ظهرت الحركة الفكرية والثقافية في المنطقة عبر منافذها في المجالات الآتية:
التعليم
اهتم الملك عبدالعزيز وأبناؤه من بعده بالتعليم؛ لأنهم رأوا أن التأثير الحضاري الذي يريدونه لإنسان هذه البلاد، لا يتحقق إلا بمعايشة الحضارة، ثم توطينها، وإنتاجها، في منجزات ظاهرة لأبناء هذه الأرض وبناتها. وأرادت الدولة أن تضمن للجميع حق التعليم فحملت تلك المسؤولية تنفيذًا، وسجلتها في نظام المدارس، الصادر عام 1347هـ / 1928م إذ جاء في المادة السابعة والخمسين من هذا النظام ما يأتي:
"مدارس الحكومة السعودية مفتحة أبوابها لكل طالب، بصرف النظر عن جنسيته وقوامها في تعليم الدين الإسلامي الكامل لسعادتهم في الحياتين والتعليم فيها دون مقابل"
وحظيت مكة المكرمة ببواكير هذا التعليم، لمكانتها الدينية، وللبيئة الحضارية الملائمة، فأنشئ بها المعهد العلمي السعودي سنة 1345هـ / 1927م، لتأهيل من يقوم بالتدريس في المدارس ومن ضمن ما كان يُدَرَّسُ بالمعهد - إضافة إلى العلوم الدينية والعربية - الحساب، والخطابة، ومسك الدفاتر، وسنن الكائنات (الكيمياء والطبيعة)، واللغة الفرنسية . وتجدر الإشارة إلى أن الكليات المصرية لم توافق على معادلة المناهج التي تدرس في هذا المعهد بمناهج المرحلة الثانوية في مصر؛ مما أدى إلى إنشاء مدرسة تحضير البعثات سنة 1354هـ / 1935م، وجاء إنشاء هذه المدرسة مهيئًا لقبول الطلاب في الجامعات العربية التي زودت بمعمل لخواص المواد، وسنن الكائنات (الكيمياء والطبيعة) واشتمل برنامجها على اللغة الإنجليزية
ورغبة من الدولة في مواكبة العصر، فقد هيأت الابتعاث، وعملت على إدخال المجتمع في دائرة الحضارة الحديثة، استجابة للرغبة الاجتماعية في ذلك، إذ إن أول بعثة إلى الخارج في العهد السعودي - كما يذكر خير الدين الزركلي - كانت من مدرسة (الفلاح) بمكة المكرمة وجدة، فقد ذهبت هذه البعثة إلى الهند، للتوسع في علوم الشريعة والعربية في معاهدها العلمية، وعاد أعضاؤها ليتولى أكثرهم التعليم في المدارس الحجازية
وكان تعاقب إرسال البعثات من أنجع الأعمال لإرساء (حجر الأساس) في البناء العلمي الحديث للدولة
وبذلك نجد أن منطقة مكة المكرمة كانت العماد والأساس لانطلاقة الحركة التعليمية في المملكة، ولإعداد الكوادر التعليمية بها في فترة التأسيس في أول عهد الملك عبدالعزيز، نتيجة سهولة تواصلها الحضاري، وكونها مكان التقاء العلماء من الحجاج والقاطنين والمجاورين، ووجود البيئة العلمية من المكتبات، والمطابع, فنجد الملك عبدالعزيز يأمر باختيار خمسين شابًا من نجد ليلحقهم بالمعهد العلمي السعودي، وحين يأتون يتم اختيار اثني عشر منهم ويلحقون بالمعهد الذي هيئت لهم فيه وسائل المطعم والمسكن والملبس واحتياجاتهم ويكملون دراستهم فيه، فكان من بينهم القاضي ومدير المدرسة والمدرس، وبعضهم يكمل تعليمه بمصر
ويؤكد عبدالله عبدالجبار أهمية تأسيس مدرسة تحضير البعثات فيقول: "ومهما يكن من شيء فإن تأسيس مدرسة تحضير البعثات حدث خطير في تاريخ الحياة التعليمية بالبلاد، ولولاها ما كان لنا هذا العدد من الجامعيين العاملين على قلته... " , وقد أشار إلى الأدباء الذين تخرجوا في جامعات مصر مثل: أحمد العربي، حسين فطاني، إبراهيم علاف، عبدالعزيز الربيع، حامد دمنهوري، علي غسال، عبدالرحمن المنصور، مقبل عبدالعزيز . وفي الطائف قريبًا من مكة المكرمة، وبوابة نجد إليها، كان الاختيار لمدرسة دار التوحيد؛ وقد ألحق بهذه المدرسة في أول تأسيسها طلاب من نجد، بها يتعلمون، وبمهجعها يسكنون، يتعلمون وَفْقَ خطة منهجية لاءمت منظومة التعليم الديني ومنهجية الخبرة العربية وطرائقها في الشام وفي الأزهر، فكانت في مكانها قريبة اجتماعيًا من الريف والبيئة البدوية، وكانت تحقق لطلابها معارف عملية تقربهم من التحضر دون أن تنفرهم بالإكثار منها، فكانت أكثر قبولاً لدى الجماعات المحافظة من مكة المكرمة التي تعيش حياة التحضر بما فيها من عادات يتحفظون عليها، واختار الملك عبدالعزيز لإدارتها الشيخ محمد بهجت البيطار، وهو شيخ السلفية في ديار الشام، وأول من ولي إدارة المعهد السعودي ، "وتعد مدرسة دار التوحيد تجربة أخرى مختلفة للشيخ البيطار عن تجربة المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، وبدأ تأسيس المدرسة بناءً على طلب الملك عبدالعزيز في نهاية عام 1363هـ / 1944م، وافتتحــت نظاميـًا فـي عـام 1364هـ / 1945م، وتولى رئاسة دار التوحيد مدة سنتين" . وما أن أكملت أول دفعة تعليمها بدار التوحيد حتى أنشئت كلية الشريعة بمكة المكرمة سنة 1369هـ / 1950م
وأثار منهج الجغرافية في المعهد العلمي السعودي (تقويم البلدان) ثم في دار التوحيد تساؤلات بشأن ما يطرحه من حقائق كونية عن الأرض، ومجموعتها الشمسية، وعلاقة الرياح بالمطر. ولقد انتصرت الرغبة في إيقاف الطالب على المنجزات العلمية الإنسانية التي يزداد بها عمق معرفته بالخلق، وقدرة الخالق المبدع، جل وعلا
وأدى منهج الجغرافية في دار التوحيد "على هذا النحو دورًا كبيرًا في كونه خطوة جريئة، جاء وسط علوم مرغوب فيها، وجاءت ضمن إنجازات مؤسسة علمية تربوية تأخذ على عاتقها أمر خدمة الدين، وتقدم - في الوقت نفسه - النظريات والحقائق الجغرافية وفق نظم علمية وتربوية تمخضت عن إحداث رؤى متعددة للكون والعالم على المدى الطويل"
وهكذا نجد أن قصة بدء التعليم في عهد الملك عبدالعزيز كانت حكاية ملحمة واجهت بها الدولة ضعف الإمكانات، وقلة الخبرة، وعدم الوعي، لتنتصر إرادة التعليم والتحضر، ويتصل ماضي إنسان هذه البلاد بحاضره، وتتحقق إرادته في الإبداع والحماسة للإصلاح والنهوض، فيتجلى من ذلك تنمية للحوار الفكري، وتهيئة للإنتاج الأدبي
وحين نقف على بداية التعليم والمعاناة التي كانت تلقاها الدولة من المجتمع، وحرص الدولة على نقل مجتمعها إلى العلم والتحضر، مع تجنب إثارته، في هذا الباب المتعلق بالحياة الفكرية والثقافية، فإننا نجد ذلك فضلاً عن كونه تهيئة لعوالم الثقافة والفكر كما سبقت الإشارة نجده بحد ذاته عملاً فكريًا وثقافة إبداعية نقرأ في صفحاتها سياسة متزنة، ومواءمة بين الهدف والواقع، وتجديدًا للتراث وتواصلاً معه، وانفتاحًا على العصر والمنجزات الإنسانية
ولقد احتضنت هذه المنطقة بواكير التعليم العالي في المملكة، إذ تأسست كلية الشريعة عـام 1369هـ / 1949م، وبدأ منهجها الدراسي بالعلوم الدينية واللغة العربية، ثم أضيفت مادة التربية وعلم النفس عــام 1370هـ / 1951م، ثم التربية العملية، وفي عام 1379هـ / 1959م أدخل المزيد من المواد المسلكية في الخطة الدراسية مثل: طرق التدريس للمواد الدينية واللغة العربية، وأصبحت تعرف باسم كلية الشريعة والتربية، ثم قامت كلية التربية عام 1382هـ / 1962م
ويهمنا هنا أن نشير إلى أن الحرص على المستوى التعليمي والتربوي للكلية أدى إلى عقد حلقة دراسية حول مناهجها وتقويمها وتطويرها، وكان في هذه الحلقة رجال لهم مكانتهم العلمية والدينيـة أمثال: محمد المبارك، مصطفى الزرقا، أبوالحسن الندوي من خارج المملكة، وعدد من رجال التربية والتعليم من داخل المملكة، وأصبحت الكلية تعرف باسم (كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة) وفي عام 1388هـ / 1968م، تم افتتاح قسم للدراسات العليا، فكان يمنح درجة الماجستير في علوم الشريعة، وكان يشرف على هذا القسم عند إنشائه الدكتور محمد أمين المصري
وقد تأسست بجدة جامعة الملك عبدالعزيز عام 1387هـ / 1967م، وكانت أهلية في بادئ الأمر، ثم ضمت إلى رعاية الحكومة عام 1391هـ / 1971م، لتنضم إليها كليتا الشريعة والدراسات الإسلامية، والتربية بمكة المكرمة
وللتعليم العالي أثره في تنمية الحياة الفكرية والثقافية، بما هيأ من فتح آفاق الحوار، وتعدد الرؤى، والتبصير بأدوات البحث، والتفاعل مع الأساتذة بتخصصاتهم المختلفة سواء أولئك الذين عادوا بعد تأهيلهم خارج المملكة، أو أولئك القادمون من البلاد العربية، من خلال محاضرات قاعات الدرس أو الندوات والمحاضرات التي تقام في إطار الأنشطة، فلقد وقف الطلاب على اتجاهات أدبية وفكرية متباينة، وألموا بشيء من طرائق دراسة النص والتذوق الأدبي، وعايشوا حوار أساتذتهم، والمواقف من التشكيلات الأدبية الحديثة مثل: الشعر الحر، ووقفوا على حركة الصراع بين القديم والجديد في الأدب والنقد, وكان لعدد من هؤلاء الطلاب الذين احتضنتهم هذه المؤسسات في هذه الفترة أثرهم في الحركة الثقافية والأدبية على النحو الذي سنشير إليه حين نأتي إلى المرحلة الثانية
أما تعليم البنات في منطقة مكة المكرمة فقد بدأ أهليًا، وأقدم المدارس الأهلية للبنات بمكة المكرمة (مدرسة البنات الأهلية) التي تأسست في ربيع الأول سنة 1362هـ / 1943م، وكانت في بداية أمرها تسير وفق مناهج البنين الحكومية مع بعض الإضافات الطفيفة إلى تلك المناهج مثل: الخياطة والتطريز ورعاية الطفل ، وأنشأ عمر عبدالجبار مدرسة الزهراء، وهي أول مدرسة تضم صفوف المرحلة الثانوية للبنات بمكة المكرمة في العام الدراسي 1384 - 1385هـ / 1964 - 1965م، وقد بقيت حتى بداية العام الدراسي 1391 - 1392هـ / 1971 - 1972م المدرسة الثانوية الوحيدة للبنات بمكة المكرمة
وكانت أول مدرسة للبنات بجدة هي مدرسة البنات الفلاحية التي أسسها الشيخ محمد صلاح جمجوم سنة 1351هـ / 1932م. ثم تتالى إنشاء المدارس الأهلية، ومن ثم أصبح نصيب الفتاة من التعليم يعلو في جدة والطائف بعد إنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات سنة 1380هـ / 1960م
وقــد افتتحت الحكومــة عـــام 1380هـ / 1960م - بعد صدور مرسوم ملكي بتعليم البنات عام 1379هـ / 1959م - ثلاث مدارس ابتدائية بمكة المكرمة . ثم تنامى عدد المدارس ومراحل التعليم بعد ذلك، وافتتحت أول مدرسة ثانوية للبنات تابعة للرئاسة العامة لتعليم البنات عام 1392هـ / 1972م
وقد بدأ دخول الطالبات مجال التعليم العالي مع السماح لعدد منهن بالانتساب لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة في العام الدراسي 1388 - 1389هـ / 1968 - 1969م إذ التحقت منهن خمس طالبات فقط ، ثم فتح بعد ذلك باب القبول لهن في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة ومكة المكرمة
وتعليم الفتاة هو الذي يجعل المرأة تتواصل مع الفكر، وتراود عالم الكتابة، فحسب مستوى التعليم تكون مشاركة المرأة في الإبداع الثقافي والفكري، ولذلك نجد ندرة مشاركتها في المرحلة الأولى، وقلتها في الثانية، وظهورها في الثالثة