الأسواق بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الأسواق بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الأسواق بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
كان التنقل والترحال قوام حياة معظم القبائل العربية قبل الإسلام، وكانت تدفعهم إلى ذلك عوامل البحث عن الرزق وتسيير أمور الحياة في مختلف فترات العام، نظرًا لما تشهده بيئتهم من ظروف مناخية متباينة، وشح في الماء والكلأ لا يستقر على حال، يحكم أوقات حلهم وترحالهم وأمكنتها، فضلاً عن عوامل أخرى يمكن وصفها حسب المفاهيم الحديثة بأنها ذات طبيعة أمنية أو إستراتيجية
وتوافقًا مع هذه المعطيات وغيرها مثل المواءمة مع أعياد ومناسبات دينية أو محلية معينة  ،  أو ترويج بضائع موسمية بعينها قد تتلف بالتخزين الطويل، كانت تعقد الأسواق في جزيرة العرب في أمكنة محددة وبشكل موسمي، ويختلف امتداد كل منها بحسب عوامل مختلفة، منها أهمية مكانها وكثرة قصَّادها ووفرة البضائع التي ترد إليها. وكانت هذه الأسواق تنعقد غالبًا على مفارق طرق القوافل الرئيسة المتعارف عليها لدى القبائل، وبالقرب من بئر أو نبع ماء شهير في منطقتها، رغبة في تأمين الماء الضروري لحياة التجار ودوابهم على حد سواء
لقد حصر بعض الباحثين ما يقرب من ثلاثين سوقًا من أسواق العرب في عصور ما قبل الإسلام  ،  منها ما قد يقتصر دورها على النطاق الجغرافي الضيق لبعض القبائل والعشائر، كسوق الثعلبية والأحساء وغيرها التي تكون غالبًا أسواقًا للمقايضات والتبادلات المحلية لمنتجات البيئة المحدودة أو ما يصل إلى تلك المناطق من قوافل صغيرة يتولاها سكان المنطقة أنفسهم، وبما ينعكس على قلة المعروض بمثل هذه الأسواق وقصر فترات انعقادها وندرة من يؤمها من غير أهل مناطقها. غير أن هناك من الأسواق العربية القديمة الأخرى ما ذاع صيتها واتسعت شهرتها، ما جعلها تعد أسواقًا عامة ينتظر انعقادها ويعرف دورها وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي، بل السياسي أيضًا، حتى أنه يفد إليها القاصي والداني من سائر أنحاء جزيرة العرب وخارجها
وبحكم الموقع المميز لمنطقة مكة المكرمة بين اليمن والشام، ومرور الطريق التجاري القديم عبر أراضيها، فقد تبوأت مكة المكرمة مكانة تجارية بارزة، وانتشر في أرجائها عدد من الأسواق من أهمها عكاظ ومجنّة ومكة المكرمة ومنى وذو المجاز وحباشة وغيرها  .  وقد كانت هذه الأسواق تنعقد جميعها في أوقات لها ارتباط بموسم الحج ومواقيته، خلال شهري ذي القعدة وذي الحجة، وهي الفترة التي تشهد قدوم جموع الناس إلى مكة المكرمة من كل الفجاج، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، وبعضها في أيام الحج ذاتها مثل سوقي مكة المكرمة ومنى  .  وتعد أسواق منطقة مكة المكرمة من أشهر وأوسع أسواق العرب قاطبة، كما كانت هذه الأسواق، نظرًا لانعقادها في الأشهر الحرم، ملاذًا آمنًا للمطلوبين في الثأر يأوون إليها طالبين الجوار من أشراف مكة المكرمة ووجهائها الذين كانوا - آنذاك - يتدخلون غالبًا بين القبائل المختلفة للصلح وفداء الأسرى وتسوية أمور الديات المعلقة  .  ليس ذلك فحسب بل إن بعض أسواق منطقة مكة المكرمة أصبحت مع مرور الوقت منارات فكرية وثقافية يقصدها فحول الشعراء والبلغاء والخطباء من كل حدب وصوب في جزيرة العرب نفسها ومن خارجها. ومن أشهر أسواق منطقة مكة المكرمة
 

سوق عكاظ 

يقع المكان القديم لهذه السوق التاريخية الشهيرة إلى الجنوب الشرقي من مكة المكرمة، والشمال الشرقي من الطائف  .  وقد قامت سوق عكاظ بدور مهم في الحياة الاقتصادية للطائف خاصة ولمنطقة مكة المكرمة عامة منذ عصور ما قبل الإسلام، فضلاً عن أدوارها المختلفة في كل جوانب الأدب والثقافة والتاريخ والدعاية والإعلام وغيرها من الجوانب المؤثرة في حياة العرب والمثرية لوجدانهم والمشبعة لاحتياجاتهم الروحية والفكرية، وذلك منذ نشأتها الأولى في نهايات القرن الخامس الميلادي
وقد استمرت سوق عكاظ تؤدي دوريها الفكري والاقتصادي طوال ما يقرب من ثلاثة قرون، حتى نهبت من قبل بعض طوائف الخوارج الحرورية بزعامة المختار بن عوف عام 129هـ / 747م  ،  فلم تقم لهذه السوق بعد ذلك قائمة
وتعد سوق عكاظ من أهم أسواق العرب المنتظمة، فقد كانت القوافل تتجهز لها وتشرع في قصدها بعد انفضاض سوق صنعاء التي كانت تنعقد خلال النصف الثاني من شهر رمضان  ،  وكان يؤم عكاظ عدد من أكبر قبائل العرب، مثل: قريش وخزاعة وغطفان وهوازن والمصطلق وغيرها، وتجلب إليها البضائع الثمينة من أنحاء جزيرة العرب كافة، فضلاً عن واردات مختلف بلدان الإيلاف 
كان موعد انعقاد سوق عكاظ في شهر ذي القعدة من كل عام، وقيل في تحديد ذلك إن موعدها المعلوم كان إما في النصف الثاني منه حتى أول ذي الحجة، أو في الفترة من أول ذي القعدة وحتى العشرين منه  .  ويبدو أن التحديد الثاني أقرب إلى الصواب، نظرًا لأن موعد بدء سوق مجنّة المجاورة كان بعد انتهاء سوق عكاظ مباشرة بين العشرين والثلاثين من ذي القعدة  .  وتجدر الإشارة إلى أن سوق عكاظ علاوة على انعقادها في أيام معلومة وفي موسم محدد، إلا أن السوق كانت تنعقد في أيام الآحاد من كل أسبوع وعلى مدار العام بأكمله، ولكن بشكل مصغر من أجل تلبية احتياجات أهل الطائف وما حولها من المواد الضرورية ومستلزمات الحياة المعيشية
تميزت سوق عكاظ عن غيرها من الأسواق العربية المهمة الأخرى في ذلك الوقت بميزتين رئيستين ونادرتين في الوقت نفسه: أولاًهما أنها لم تكن تفرض فيها العشور أو رسوم الخفارة (أي مقابل الحراسة) على البضائع التجارية المعروضة فيها. فقد كانت العشور من كامل البضائع وعروض التجارة عرفًا في غيرها من الأسواق العربية القديمة، دون أسواق الحجاز ووسط جزيرة العرب  ،  يجبيها ملوك المناطق وحكامها لأنفسهم  ،  نظير حماية التجار وبضائعهم وتأمين مرورهم وتوفير مستلزمات إقامتهم من طعام وشراب وغير ذلك. وفي هذا دليل آخر على مكانة أهل مكة المكرمة في العرب، حتى لا يتعرض لبضائعهم أو لبضائع من يقصد أسواقهم، كما أن ذلك شاهد على الحالة السياسية في منطقة مكة المكرمة في تلك الفترة، وإقرار لواقع السيادة (الشمولية) لرؤساء عشائرها من غير انفراد أحدهم بالسلطة المطلقة دون الآخر، ليصبح ملكًا متوجًا أو حاكمًا منفردًا، يطالب بحقه وحده في العشور
أما الميزة الثانية التي تنفرد بها سوق عكاظ، فهي اعتبارها مجمعًا أدبيًا شعريًا لغويًا متفردًا، كانت تتخذ طابعًا عامًا رسميًا، ويحكّم فيها محكمون محترفون لمن يقصدونها لإظهار مهاراتهم اللغوية والتباري بقصائدهم ومقدرتهم الشعرية، منتهزين فرصة قدوم الألوف الكثيرة من الناس إليها من كل حدب وصوب قبيل توجههم إلى مكة المكرمة في موسم الحج، فيعتلي من يريد منهم أحد المنابر المعدة للخطباء والشعراء في ساحة السوق ليتحدث ويخبر عن مآثر أهله وقومه شعرًا أو نثرًا  ،  ويضمِّن قصيدته أو كلمته آخر ما حدث في قومه من مواطن الفخر   والعزة أو النصر والغلبة على الآخرين، ومن ثم تتناقله الألسنة في البوادي والحواضر في أرجاء جزيرة العرب كلها، ويصير فخرًا لصاحبه ولقومه. وكان من المعتاد في سوق عكاظ أن تُضْرَب القباب والخيام في ساحة السوق، سواء لإقامة وجهاء القوم وكبار التجار، أو للمحكمين الذين يعرض أمامهم المتبارون من الوفود شعرهم وخطبهم  ،  وفي ذلك قال أحد شعرائهم:  
 
إذا ضربوا القباب على عكاظ     وقـام  البيع واجتمع الألوف
وهكذا لم تكن سوق عكاظ مناسبة أدبية، لها الأثر الكبير في اللغة العربية بألفاظها وتراكيبها وأساليبها فحسب  ،  بل مناسبة كبرى إعلامية وسياسية ودعائية كذلك، كانت العرب تتناقل فيها أخبارها وترد إليها كذلك أخبار غيرهم من الأمم التي قد تهمهم أو ترتبط بمصالحهم وصلاتهم مع الأمم والشعوب المجاورة في جزيرة العرب وخارجها
 

 سوق مجنّة

تقع سوق مجنة بالقرب من مكة المكرمة، وقد اختلفت رواية المصادر في تحديد موقعها، فبعضها يرجح أنها تقع في مر الظهران بالقرب من جبل الأسفل  ،  وثمة من يرى أنها موضع الأثيداء جنوب شرقي مكة المكرمة
لقد كان التجار وكثير ممن يقصدون البيت للحج يفيضون على إثر انتهاء موسم سوق عكاظ في النصف الثاني من شهر ذي القعدة إلى سوق مجنة، حيث تنعقد هناك سوق أخرى خلال العشر الأخيرة من ذي القعدة  ،  وتمارس فيها ضروب التجارة وفي مقدمتها تجارة الخمر التي كانت ترد إليها من بلاد الشام وفلسطين
 

سوق ذي المجاز

 
عندما تنتهي فترة سوق عكاظ نهائيًا ومن بعدها سوق مجنّة بحلول شهر ذي الحجة، كان كثيرون من التجار المشاركين ينتقلون مباشرة بصحبة ما تبقى من بضائعهم إلى سوق أخرى من أسواق منطقة مكة المكرمة المرتبطة بموسم الحج، هي سوق ذي المجاز. وقيل في معنى اسمها الربط مع (إجازة) النسك للحجاج، فهي تقع من حول جبل كبكب قرب عرفة، وكانت هذه الناحية قديمًا من ديار هذيل  ،  وكانت سوق ذي المجاز تنعقد ابتداءً من أول أيام شهر ذي الحجة  ،  وتمتد فترة في حدود الأسبوع الواحد، حتى يوم التروية 8 ذي الحجة. وكثيرًا ما كان يفد إليها التجار والحجاج ممن لم يكونوا قد شهدوا سوق عكاظ قبلها  ،  وقد اشتهرت هذه السوق في عصر الجاهلية ببعض ضروب اللهو والمجون  ،  كما كان بها سوق رائجة للسبي والرقيق، فمنها اشترى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب غلامه أسلم الحبشي  .  كما كانت سوق ذي المجاز موضعًا لفداء الأسرى وأداء الديات وطلب الجوار، فضلاً عن المفاخرة والنسيب وغيرها من المجريات التي اشتهرت بها سوق عكاظ، وإن كانت أقل منها في هذا الشأن
 
 
شارك المقالة:
87 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook