الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوم أممي

الكاتب: المدير -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوم أممي
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوم أممي

 

يُعتبَرُ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر من أبجديَّات الفكر الإسلامي وأولوياته، ومسؤولية دينية أخلاقية، لا مجال للتقصير فيها أو التلكُّؤ، وصِمَام أمان لحفظ القيم والسلوك المجتمعي في الأمة الرشيدة، وسياجًا ضامنًا للهوية المسلمة.

 

والملاحظ في هذه العبادة أنها أخذت طابعَ الأمة في وجودها ودَيمومَتِها، ولم تأخذ طابع الفردية أو الفئوية المقتصرة على أفذاذ أو مجموعات محددة؛ لذا لما طرحت في القرآن الكريم طرحت مرتبطة بالأمة ككل؛ قال تعالى:

? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [آل عمران: 104]، وقال: ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ? [آل عمران: 110]، وغيرها من الآيات.

 

ففي الآية الأولى جاء الأمر الإلهي للأمة بأن يكونوا دعاةَ خير وحقٍّ، وربَطَ ذلك بالفلاح على سبيل الحصر، نعم قد يكون المراد بالأمة هنا جماعة - أي: مجموعة - من الأمة يقومون بهذا الواجب أو الفرض، بدليل (منكم) المراد بها (البعض) - من للتبعيض - فيكون المعنى: ليكن بعضُ الأمة وجزءٌ منها يدعون إلى الخير.

 

لكن على هذا الرأي كيف نفهم الخيريَّةَ في الآية الأخرى؛ حيث لم يأت بـ (مِن) المفيدة للتبعيض، فلم ترتبط الخيرية ببعض أو بجزء من الأمة، بل بها ككل ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ? [آل عمران: 110]؟!

 

لذا؛ فالميل مع كون (مِن) للبيان لا للتبعيض هو الأولى، والمعنى حينئذ: لتكونوا أمةً تدعون إلى الخير...، فهو كقول الله: ? فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ? [الحج: 30]، فـ (مِن) هنا لا للتبعيض، وإنما للبيان، والأوثان كلُّها رجسٌ، فحينئذ المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وهذا ما ينسجم مع بقية النصوص الأخرى المشيرة لذلك، منها على سبيل المثال: عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتَنهوُنَّ عن المنكر، أو ليُوشِكَنَّ الله عز وجل أن يبعثَ عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يُستجابُ لكم))؛ رواه الترمذي وحسنه، فهو خطاب على مستوى الأمة والمجتمع ككل.

 

فهذه العبادة إذًا لها مفهوم واسع، مؤثِّرٌ في الشخصية الفردية والمجتمعية والدولية على حدٍّ سواء، ولم تأتِ لِتُخاطِبَ أفرادًا أو مجموعات في داخل حدودها الجغرافية - أو حتى خارجها - فحسب، بل أعطاها القرآن بُعدًا أُمَمِيًّا فاعلاً في الساحة الإقليمية، وموقعًا حاضرًا مُؤثِّرًا بين الأمم والشعوب، يضمن لها هُويَّتَها وحضورَها وبقاءَها وقوَّتَها.

 

وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطَيْنِ بالأمة، فهما يمتازان بكل ما تمتاز به الأمة عن غيرها من الأمم؛ لذا يمكن الخلوص بالنقاط التالية:

• إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُرتَبِطٌ بخيرية الأمة ككل، ومتى قصرت الأمة في هذه العبادة، فقَدَتْ خَيريَّتَها في ميزان الله وميزان البشر، ومهابتَها ومكانتَها في الساحة الدولية، وأصبحت عَالةً على الأمم لا قيمةَ لها فكرًا وثقافةً وهُويَّةً.

 

والحقَّ أقول: إن هذه الأمة ما فَتِئتْ خيرَ أمة أُخرجَتْ للناس حتى تركتِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما تركتهما رغبةً عنهما، أو تهاونًا بأمر الله تعالى بإقامتهما، بل مُكرهةً باستبداد الملوك والأمراء؛ تفسير المنار 4 / 60.

 

• إن الأمم السابقة قد قصرت في هذه العبادة، واستحقَّتْ على ذلك العذابَ الشديد، بل اللَّعْنَ والخسفَ والمسخَ؛ قال تعالى: ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? [المائدة: 78، 79] فإن الناسَ إذا تركوا دعوةَ الخير وسكت بعضهم لبعض على ارتكاب المنكرات - خرجوا عن معنى الأمة، وكانوا أفذاذًا مُتفرِّقين لا جامعةَ لهم؛ تفسير المنار 4/ 35.

 

وهذا ما جعل القرآن في آية الخيرية السابقة يُقدِّمُ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، مع أن الترتيب الوجودي هو العكس؛ وذلك لأن الأمة الإسلامية امتازت به عن غيرها من الأمم؛ فكل الأمم السابقة تؤمن بالله، لكنها لم تَلْتزِمْ بهذا الأمر الإلهي.

 

• هذه العبادة المجتمعية مرتبطة بوسطيَّة الأمة، وبالتالي شهادتها على الناس جميعًا والجنس البشري بأكمله؛ لذا تتطلب من الأمة: إيمانًا عميقًا، وتشكلاً معرفيًّا دقيقًا، وموقعًا حاضرًا شاهدًا مرموقًا بين الأمم، وقوة اعتراضٍ فكريٍّ قِيميٍّ دوليٍّ مؤثِّرٍ؛ لتستأنف دورها في القيادة الأخلاقية للبشرية، وتحقق الصلاح المطلوب لعمارة الأرض.

 

• إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأٌ كبير مُؤسس لحقيقة رسالة الأمة الإسلامية وحقيقة وظيفتها الحضارية، المشروطة بالقسط والعدل والميزان التي هي أحد معاني القوامة لله ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [المائدة: 8]، ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ? [النساء: 135].

 

فتَدخُّلُها على صعيد الساحة الدولية إنما هو بالقسط والعدل، لا لهوًى سياسيٍّ أو مكسب مادي واقتصادي، أو تمددٍ عسكري، تدخل لنصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، ومن أجل حرية الشعوب وخياراتها الإنسانية، وانحيازًا للحق، ومقارعة الطغيان والبغي، طبعًا بعد أن تكون قد استوفتْ هذه الاستحقاقات في حدودها الجغرافية، وهذا يتطلب من الأمة معرفةً بالقوانين الدولية وبروتوكول السياسة والدبلوماسية؛ لتدعو إلى الحق على بصيرة ونور وهدى، لا على عمًى وخبط عشواء.

 

وإذا كان الأمر كذلك فمن الغبن قصرُ هذا المفهوم على أفراد الأمة وأفذاذها كما نرى ونشاهد في الكثير من البقاع الإسلامية؛ فقد تعلم عن فرد مسلم مُرابٍ، والنصيحة له واجبة، لكنها أوجبُ في حق البنك الذي سنَّ ذلك وسهَّله؛ لأن الإثم في حقه أكبر؛ فهو الأولى بالنصيحة والإنكار، وأولى منهما الدستور بدوائره - قانونًا، ووزارات، ومجالس شورى، وحكومات - الذي شرع وأباح مثل هذا الفحش الكبير؛ فهو الأشدُّ قبحًا وزورًا، والأولى بالنهي والأمر.

 

بل ويَطالُ الأمر - والحالة هذه - النظام الإقليمي والدولي الذي يرى في الربا جزءًا من تكوينه ووجوده الاقتصادي؛ فيجب مقارعتُه بالحجة والبرهان والدلائل القوية من شتى الجوانب الاقتصادية والفكرية والأخلاقية، وهو واجب العلماء وفقهاء القانون وخبراء الدساتير الدولية، وهكذا دواليك.

 

فليس من الفقه والحكمة والرشاد تشديدُ الإنكار على الفرد - مع عدم تبرئتي له من الذنب - وقصر النصيحة عليه، ونسيان الدوائر الأهم والأبلى والأولى والمؤثرة في المجتمع.


"
شارك المقالة:
33 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook