الإخلاص في الدعاء

الكاتب: المدير -
الإخلاص في الدعاء
"الإخلاص في الدعاء

 

قال تعالى: ? ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ? [الأعراف: 55].

 

ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره: 2 /221 عن ابن جرير: تضرعًا: تذللًا واستكانة لطاعته وخفية؛ يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاة؛ ا هـ.

 

? وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنت موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه؛ (الصحيحة: 564) (صحيح الجامع: 245).

 

قال المناوي - رحمه الله - في فيض القدير (6 /228-229)؛ أي لا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه مشغوف بما أهمه من دنياه؛ ا هـ.

 

عن محمد بن الوليد - رحمه الله - قال: مر عمر بن عبدالعزيز برجل في يده حصاة يلعب بها، وهو يقول: اللهم زوِّجني من الحور العين، فمال إليه عمر، فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة وأخلصت إلى الله الدعاء؛ (تهذيب الحلية: 2 /219).

 

الكل محتاج إلى الإخلاص في الدعاء حتى الكافر:

قال تعالى: ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ? [العنكبوت: 65].

 

وقال تعالى: ? وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ? [لقمان: 32].

 

وقال تعالى: ? وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ? [الإسراء: 67].

 

? وأخرج أبو داود والنسائي في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: (عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خطل، ومقْيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح)، فأما عبدالله بن خطل، فأُتي وهو متعلق بأستار الكعبة، فاستبق إليه سعد وعمار، فسبق سعدٌ عمارًا فقتَله، وأما مقْيس بن صبابة، فأدركه الناس في السوق فقتَلوه، وأما عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فأصابتهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة (لأهل السفينة)[1]: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ها هنا شيئًا، فقال عكرمة: (واللهِ لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، لا يُنجيني في البر غيره، اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه: لأتين محمدًا حتى أضع يدي في يده، قال: فنجا فأسلَم.

 

دعاء المظلوم والمضطر مستجاب؛ لأنهما فرَّغا قلبيهما لله:

? وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه؛ قال المناوي في فيض القدير: 3/527: وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه، ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه؛ لأنه مضطر، ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه، وللإخلاص عند الله موقع، وقد ضمن إجابة المضطر بقوله: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، ويحتمل أن يريد بالفاجر الكافر، ويحتمل أن يريد الفاسق، والشيطان رأس الكفر لما دعا ربه مضطر لم يبقَ له إلا هي بعد أن خسر كلَّ شيء أجابه الله؛ قال تعالى: ? قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ? [الحجر: 36]، قال: ? قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ? [الحجر: 37].

 

فالمظلوم لا يلهو قلبه عن دعوته لضرورة فاقته، وكذا المضطر فإن دعاءه مستجاب، فليس مع المضطر مجال ليشغل قلبه ويلهو بغير ما اضطُرَّ إليه، فهو مخلص لحظة اضطراره مهما كان طغيانه وكفره؛ لأنه فرَّغ قلبه لله عز وجل؛ كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن هو قام فصلى، فحمد الله وأثنى عليه، ومجَّده بالذي هو أهله، وفرَّغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمُّه، وتفرغ القلب لله هو صرف الاشتغال عما سواه، وهو من كمال الإخلاص.

 

وكذا دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب:

فقد أخرج البزار من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يُرَدُّ؛ (صحيح الجامع: 3379) (الصحيحة: 1339).

 

قال المناوي رحمه الله: لأنه إلى الإخلاص أقرب.

 

وأخرج الإمام مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل به، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك: آمين ولك بمثل ذلك.

 

قال المناوي - رحمه الله - في فيض القدير: 3|527: قال النووي: إن دعوة المسلم في غيبة المدعو له وفي السر مستجابة؛ لأنها أبلغ في الإخلاص.

 

وقال المناوي أيضًا: إن دعاء السر أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء؛ ا.هـ.

 

قال أبو عبدالله سعيد بن يزيد الساجي - رحمه الله -: ينبغي لنا أن نكون بدعاء إخواننا وأوثق منا بأعمالنا، نخاف أن نكون في أعمالنا مقصرين، ونرجو أن نكون في دعائهم لنا مخلصين، فإن من أصفى العمل فأنت منه على ربح؛ (تهذيب الحلية: 3 /216).

 

إجابة الدعاء موقوفه على الإخلاص:

قال عبدالواحد بن زيد رحمه الله: الإجابة مقرونة بالإخلاص لا فرقة بينهما؛ (المصدر السابق: 2 /304).

 

صور من الإخلاص في الدعاء:

قال ابن المنكدر رحمه الله: إِنِّي لَلَيْلَةً حِذَاءَ هَذَا الْمِنْبَرِ جَوْفَ اللَّيْلِ أَدْعُو، إِذَا إِنْسَانٌ عِنْدَ أُسْطُوَانَةٍ مُقَنِّعٌ رَأْسَهُ، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّ الْقَحْطَ قَدِ اشْتَدَّ عَلَى عِبَادِكَ، وَإِنِّي مُقْسِمٌ عَلَيْكَ يَا رَبِّ إِلا سَقَيْتَهُمْ، قَالَ: فَمَا كَانَ إِلا سَاعَةٌ إِذَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَقْبَلَتْ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَكَانَ عَزِيزًا عَلَى ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنْ يَخْفي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: هَذَا بِالْمَدِينَةِ وَلا أَعْرِفُهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإمام تَقَنَّعَ وَانْصَرَفَ، فَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَجْلِسْ لِلْقَاصِّ حَتَّى أَتَى دَارَ أَنَسٍ، فَدَخَلَ مَوْضِعًا، وَأخرج مِفْتَاحًا، فَفَتَحَ ثُمَّ دَخَلَ، قَالَ: وَرَجَعْتُ فَلَمَّا سَبَّحْتُ أَتَيْتُهُ، فَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ نَجْرًا فِي بَيْتِهِ فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَدْخُلُ؟ قَالَ: ادْخُلْ، فَإِذَا هُوَ يَنْجُرُ أَقْدَاحًا يَعْمَلُهَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ؟ قَالَ: فَاسْتَشْهَدَهَا وَأَعْظَمَهَا مِنِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ إِقْسَامَكَ الْبَارِحَةَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَخِي، هَلْ لَكَ فِي نَفَقَةٍ تُغْنِيكَ عَنْ هَذَا، وَتُفْرِغُكَ لِمَا تُرِيدُ مِنَ الآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ غَيْرَ ذَلِكَ لا تَذْكُرْنِي لأَحَدٍ، وَلا تَذْكُرْ هَذَا عِنْدَ أَحَدٍ حَتَّى أَمُوتَ، وَلا تَأْتِيَنِّي يَا بْنَ الْمُنْكَدِرِ، فَإِنَّكَ إِنْ تَأْتِنِي شَهَرْتَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَلْقَاكَ، قَالَ: الْقَنِي فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ فَارِسِيًّا، قَالَ: فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ لأَحَدٍ حَتَّى مَاتَ الرَّجُلُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ الدَّارِ، فَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، فَقَالَ أَهْلُ تِلْكَ الدَّارِ: اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، أخرج عَنَّا الرَّجُلَ الصَّالِحَ؛ (حلية الأولياء: 3 /152).

 

وأخيرًا: أيها الأحبة، أحسنوا ما بينكم وما بين الله، يُحسن الله ما بينكم وبين العباد، قال محمد بن واسع رحمه الله: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله، أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه؛ (تهذيب الحلية: 1 /11).

 

فاتقوا الله وأصلحوا باطنكم، فعليه يترتب الثواب والعقاب؛ يقول يحيي بن معاذ رحمه الله:

اتقوا الله الذي إليه معادكم، وانظروا ألا تكونوا ممن يعرفهم جيرانهم وإخوانهم بالخير والإرادة والزهادة والعبادة، وحالكم عند الله على خلاف ذلك، فإن الله إنما يجزيكم على ما يعرف منكم لا على ما يعرفه الناس، ولا تكونوا ممن يولع بصلاح الظاهر الذي هو للخلق ولا ثواب له بل عليه العقاب، ويدَع الباطن الذي هو لله وله الثواب وعليه العقاب.

 

ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من المخلصين، وأن يختمَ لنا بخاتمة السعادة أجمعين، وأن يرزُقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، وفي السر والعلن، وأن يجعل عملنا كله صالحًا، ولوجهه خالصًا.




[1] لعله يقصد بأهل السفينة في الأولى: أصحابها، وفي الثانية: ركابها، والزيادة بين المعكوفين من رواية النسائي، والبيهقي في (الدلائل).


"
شارك المقالة:
42 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook