الإخلاص والقبول

الكاتب: المدير -
الإخلاص والقبول
"الإخلاص والقبول




الإخلاص: هو تخليص العمل من الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه. وهذا لا يتصور إلا من محب لله، مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق للدنيا في قلبه قرار[1]، وهو أساس لصحة العمل وسبيل المرء إلى التوفيق.

 

ولقد قال الفضيل (رحمة الله):

• العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه.

• قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟

• قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل. والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.

 

ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم الله المنافقين، وقد قال الله تعالى: ? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ?  [الفرقان: 23].

فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل. كما أن كل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله. ولا يستفيد صاحبه منه شيئًا في آخرته.

 

(فإذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها وإن لم يعاقب عليها. وإن تركها لوجه الله أثيب عليها. ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله أو خشية عذابه...

فتبين أن الورع لا يكون عملًا صالحًا إلا بفعل المأمور به من الرجاء والخشية. وإلا فمجرد الترك العدمي فلا ثواب فيه)[2].

 

ومن علامة الإخلاص في الدعوة: الانفعال بها والتحمس لها وبذل أقصى الجهد في تبليغها. وذلك لأن من أخلص لشيء أعطاه كل ما يملك. فماله ووقته وفكره وكل إمكاناته تصبح في خدمة دعوته.

 

ومن إخلاص العابد: خجله من عمله. وهو شدة حيائه من الله إذ لم ير ذلك العمل صالحًا له مع بذل مجهوده فيه.

قال تعالى: ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُو ? [المؤمنون: 60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه)).

فالمؤمن جمع إحسانًا في مخافة وسوء ظن بنفسه. والمغرور جمع حسن الظن بنفسه مع إساءة[3].

 

ولقد قال الله تعالى: ? فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? [الكهف: 110].

فيجب التحرز عن الأمور المهلكات والبعد عن الرياء والتصنع للخلق وإلا خابت وخسرت من لم تتورع عن ذلك وأبطلت عملها بمسايرة ركب الغافلات فلم تصحح نيتها وتخلص في عملها.

 

فبالإخلاص الذي يحبس القلب عن الالتفات إلى غير الله تحبس الجوارح عن المعاصي والشهوات. ويعقل اللسان فلا يتلفظ إلا بما فيه خير وصلاح. وكل مؤمن مخلص لله تعالى تهون عليه الدنيا بأسرها أمان مرضاة الله: ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [البقرة: 207] [4].

 

(وإذا ذاق القلب طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب. والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفًا من مكروه...

فإن ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج).[5]

 

بالتعود لأن يستعمل كل شيء لله، ويصرف هواه إلى ما ينفعه يحصل المقصود. لأن من عود نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره. ومن عود نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله. وهذا في جميع أبواب الأعمال. فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره، وكذا بالعكس)[6].

 

فالصدق في الإخلاص من أشق الأمور على النفوس. وهذه المشقة لا يعاني منها عوام الناس ودهماؤهم دون العلماء والأئمة والصالحين، فقد لاقوا هذه المعاناة.

يقول سفيان الثوري -رحمه الله- ما عالجت شيئًا عليّ أشد من نيتي أنها تتقلب عليّ.

 

ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) كثيرًا ما يدعو بهذا الدعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. وكان يكثر في قسمه أن يقول: لا ومقلب القلوب[7].

فالنية والقصد هي روح العمل وأساسه.

 

إنها عزم وتصميم وجمع للهمة وتركيز للإرادة وإعمال الفكر، بحيث يدخل العبد في العبادة مرهف الحس. محدد الإرادة والاتجاه، يقظًا واعيًا مخلصًا في اتجاهه إلى الله.

 

قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يرى موطني فلم يرد عليه حتى نزلت الآية: ? فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ? [الكهف: 110] [8].

فاعتبر إفساد النية إفسادًا للعمل وإشراكًا بالله.

وهذا يجعل العبد يقظًا دائمًا، يسائل نفسه كلما أقدم على العبادة: لم أعبد؟ لم أصلي؟ لم أصوم؟ لم أتصدق؟!

وقد قرر علماء التربية أن الفعل الواعي المبصر هو ميزة الإنسان الذي يسعون إلى تكوينه.

فالإنسان ليس آلة صماء تؤدي أعمالًا بغير وعي وفهم وحضور قلب[9].

فلا بد من استصحاب النية وحضور القلب مع العمل الصالح ليوفي العبادة حقها وتكون كاملة بقلبه وجوارحه.

وإلا فإن أول من تسجر بهم النار: فاقدو الإخلاص.

 

فقد جاء في الحديث الصحيح: ((إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار... ورجل تعلم العلم...)) الحديث[10].

 

فالعمل الواحد يقصد به أمر فيكون عبادة ويقصد به شيء آخر فلا يكون كذلك بل يقصد به شيء فيكون إيمانًا ويقصد به شيء آخر فيكون كفرًا كالسجود لله أو للصنم[11].

 

وقد قال الله تعالى: ? إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ? [المائدة: 27] فتلك سيما العمل المقبول. إنها مقيدة بالتقى. أما إذا اتجه المكلف في العبادات إلى المقاصد التابعة: فكان همه من أداء الصلاة مثلًا (حفظ المال والدم، أو احترام الناس...) فإن ذلك منه رياء وهو صنيع أهل الزندقة والنفاق. وتبطل صلاته. لأن المقاصد الأصلية للصلاة إنما تعني التوجه إلى الله بالشكر ونيل رضاه وثوابه في الآخرة[12].

والعمل بغير نية عناء. والنية بغير إخلاص رياء. والإخلاص من غير تحقيق هباء[13].

فمن صامت وهي تقصد الحمية والتنحيف، لم تكن مأجورة على ذلك الصيام.

 

وفي الصدقة والإصلاح بين الناس، لا يكون الباعث لهوى في الصدقة على فلان وعلان، ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه (والله) رجل طيب يحض على الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله بهذا الخير. فهذا هو مفترق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به، والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه ويكتبه له في سجل السيئات[14].

 

وقد قال الله تعالى: ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا))[15].

فليسأل أحدنا نفسه: هل حقيقة أني أريد وجه الله بعملي هذا؟ أو عند امتناعي عن عملي ذاك.

 

فما فعل بنية الامتثال يثاب المرء عليه. وإلا فإن حب الظهور داء خفي، ما أحوج المسلم بتعهد قلبه ونفسه وزيادة صلته بالله ليكافح ذلك الداء، ويذب عن قلبه شره. وأما من عدمت عندها النية الصالحة، وأصبحت عباداتها للدنيا فذلك محبط للعمل.

 

فمن حجت للفسحة -لا سيما وأن مناسك الحج أصبحت تؤدى بيسر وسهولة- أو جاءت للحج للاستراحة من مهام الأسرة، فوجدت في الحج فرصة لها لذلك وليقوم غيرها بمهام البيت. فهي بالنية تلك غير مأجورة إن لم تكن آثمة. وقد قال الله تعالى: ((من كان يريد الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار))[16].

 

أما بالنيات الصادقات فالمباحات تصير طاعات كما قال الإمام النووي رحمه الله. فالجماع يكون عبادة إذا نوي به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر به الله تعالى. أو طلب ولد صالح أو إعفاف الزوجة ومنعها جميعًا من النظر إلى الحرام أو التفكر فيه أو الهم به[17].

 

ولقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في بضع أحدكم صدقة). قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) [18].

 

وقال علي كرم الله وجهه: (لو أن رجلًا أخذ جميع ما على الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد، ولو أنه ترك الجميع ولم يرد وجه الله تعالى فليس بزاهد).

 

فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله، مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة. فإن كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك[19].

 

فالنية أساسية في الأعمال وقد جاء في الحديث الصحيح: ((من أتى إلى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه))[20].

 

وهذا من رحمة الله وكرمه رغم أن الإسلام يرفض أن تشغل الدنيا العبد عن طاعة الله وأن تصبح ميدانًا للصراع والتنافس بحيث تثور الأحقاد ويصبح همّ الناس التكالب على الدنيا والتصارع على متاعها.

 

أما ما يصيب العبد من نسيان للآخرة حال ملابسته للدنيا فذلك أمر لا يمكن أن يتخلص منه الإنسان. وقد عانى في هذه الحال حنظلة الأسدي أحد كتاب الوحي قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الجنة والنار حتى كأنا رأي العين. فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، فذكرت الذي كنا فيه. فخرجت فلقيت أبا بكر. فقلت: نافقت يا أبا بكر! فقال: وما ذاك؟

 

قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا الجنة والنار وكأنا رأي العين فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنا لنفعل ذلك.

 

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال:

((يا حنظلة لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق، يا حنظلة ساعة وساعة))[21].

فلا بد من استحضار النية فهي روح العبادة. وقد قال الله تعالى: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين))[22].

ولا مجال للرياء فيها، لأنها من الأعمال الباطنة.

 

فالتكليف بتوجيه العبد نيته إلى الإخلاص وقصد الله دون سواه يكون باكتساب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك. بأن يتعرف على الله ويتملى في بديع صنعه وعظيم نعمه. ويتعرف إلى صفاته، وينظر في عظيم ثواب الطائع وعظيم عقوبة العاصي، وينظر في الفوائد التي تعود عليه من الطاعات في الدنيا والآخرة.

فعند ذلك تنبعث النفس إلى العمل بطاعة الله صادقة مخلصة.

 

وإذا كان الغالب على العبد أمر الدين وامتلأ قلبه بحب الله وخوفه ورجائه، سهل عليه استحضار النية لأن القلب مائل إلى الخير باستمرار. أما الذي يميل قلبه إلى الدنيا دائمًا فإنه يصعب عليه الإخلاص)[23].

 

فلنعقد العزم على عمل الصالحات، ولنصمم على ذلك ابتغاء وجه الله وحده لا شريك له ولنتأسى بالصحابة رضوان الله عليهم فلقد كانوا يحتسبون أعمالهم لله سبحانه، ويتعهدون صحتها باستمرار:

فلقد قال أبو موسى الأشعري لمعاذ (رضي الله عنهما) وهما باليمن: إني أحتسب قومتي ونومتي لأنها تعين على العبادة)).

هذا جيل الصحابة الكرام، فماذا عنا نحن؟

لا بد من أن نسير على خطاهم وندعو كدعاء عمر: ""اللهم اجعل عملي صالحًا واجعله لوجهك خالصًا ولا تجعل لأحد فيه شيئًا""[24].




[1] الموافقات للإمام الشاطبي، 2/ 147.

[2] الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 20/ 145.

[3] تهذيب مدارج السالكين،32، كتبه ابن القيم وهبه عبد المنعم العربي، ط1/ 1413هـ، نشر مكتبة السوادي، جدة.

[4] سورة البقرة، الآية 207.

[5] الفتاوى،10/ 88، لابن تيمية.

[6] عدة الصابرين، 59.

[7] مقاصد المكلفين 360، د. عمر سليمان الأشقر، ط 2/ 1990م، مكتبة الفلاح، الكويت، دار النفائس، الأردن.

[8] سورة الكهف، الآية 110.

[9] مقاصد المكلفين، 103/ جـ، عمر سليمان الأشقر، ط 1990م، نشر دار النفائس، الأردن، نشر مكتبة الفلاح، الكويت.

[10] أخرجه مسلم وأحمد والنسائي عن أبي هريرة، ينظر صحيح الجامع الصغير، 1/ 404.

[11]الموافقات، 2/ 324.

[12] الموافقات2/ 308، للإمام الشاطبي، نشر دار الفكر للطباعة والنشر.

[13] مختصر منهاج القاصدين، 360.

[14] الظلال2/ 759، في ظلال القرآن: سيد قطب، نشر دار الشروق.

[15] سورة النساء، الآية 114.

[16] سورة هود، الآية 15-16.

[17] شرح صحيح مسلم 7/ 92.

[18] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة والبضع يطلق عن الجماع.

[19] إحياء علوم الدين، 3/ 409.

[20] صحيح سنن النسائي، 1685.

[21] الحديث أخرجه مسلم والترمذي، مقاصد المكلفين 395.

[22] الآية 5 من سورة البينة.

[23] مقاصد المكلفين،41، للأشقر،ط2، 1990، نشر دار النفائس ومكتبة الفلاح.

[24] الفتاوى 10/ 214 لابن تيمية، نشر مكتبة المعارف، الرباط.


"
شارك المقالة:
38 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook