الإصلاحات المدنية في عهد الملك عبدالعزيز بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الإصلاحات المدنية في عهد الملك عبدالعزيز بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية

الإصلاحات المدنية في عهد الملك عبدالعزيز بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.

 
 
سعى الملك عبدالعزيز من أول يوم قَدِم فيه إلى مكة المكرمة إلى تنظيم شؤون دولته الجديدة وفق أحدث الأنظمة؛ ولذلك جنَّد نفسه ورجاله لتطوير مرافق الدولة وجعلها في مصاف الدول المتقدمة في جميع المجالات، جاعلاً من مكة المكرمة مقرًا رئيسًا لإدارات الدولة المختلفة، فأسس فيها الإدارات والمديريات لخدمة قطاعات الدولة وأجهزتها المختلفة، وبهذا أصبحت مكة المكرمة منطلقًا للبناء والتطور الحضاري في الدولة السعودية الحديثة، كما أنه قرر أن يكون عهده حربًا على الجهل والفقر والمرض، وعملاً على تحقيق الأمن والاستقرار للمواطنين والمقيمين وحجاج بيت الله الحرام، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في جميع المعاملات والإجراءات
ومن أجل تنظيم الدولة السعودية على أسس حديثة أصدر الملك عبدالعزيز في مكة المكرمة في 21 صفر عام 1354هـ / 29 أغسطس 1926م (التعليمات الأساسية للمملكة)، وجاء في المادة الأولى منها: إن المملكة السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها هي اللغة العربية  .  وتَحَدَّدَ شعار الدولة وهو سيفان متقاطعان تتوسطهما النخلة رمزًا للعدالة والرخاء، كما أصبح علم المملكة يتكون من قماش أخضر اللون يدل على الخضرة والنماء، وفي وسطه كُتبت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الل هـ)، وفي أسفلها سيف أبيض يرمز إلى العدل والقوة  
كما صدر في أوائل عام 1345هـ / 1926م الأمر الملكي بتأسيس مجلس الشورى ومقره مكة المكرمة، وتم تعيين عدد من العلماء وأعيان البلاد وأصحاب الرأي أعضاءً في هذا المجلس، وأُنيطت به مهمة وضع الأنظمة الداخلية، والنظر في المشروعات الكبرى، وتوجيه السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في حدود الصلاحيات الممنوحة للمجلس، وقد شهد مجلس الشورى تطورًا كبيرًا سنةً بعد أخرى 
وبتاريخ 17 جمادى الأولى عام 1351هـ / 17 سبتمبر 1932م صدر المرسوم الملكي رقم 2716 الذي يقضي بأن يكون اسم الدولة (المملكة العربية السعودية)، ويكون لقب الملك (ملك المملكة العربية السعودية)، وأن يكون اليوم الأول من برج الميزان من كل عام يومًا وطنيًا للمملكة؛ وذلك لأهمية هذا التاريخ الذي يمثل إعلان توحيد مناطق الدولة في وحدة سياسية واحدة 
اهتم الملك عبدالعزيز بالتعليم وأولاه قصارى جهده، ووفر له كل ما يلزم من الإمكانات المالية والبشرية. وفي غرة رمضان 1344هـ / مارس 1926م صدر الأمر الملكي بتأسيس مديرية المعارف العامة في مكة المكرمة، من أجل نشر التعليم، وتأسيس المدارس والمعاهد بمختلف المراحل الدراسية، وتحقيق أهداف الملك في القضاء على الجهل، والعمل على تربية النشء تربية إسلامية 
وفي ربيع الأول سنة 1345هـ / 22 أكتوبر 1926م صدر الأمر الملكي بتشكيل لجنة علمية برئاسة سماحة رئيس القضاة، وعضوية عدد من العلماء الأفاضل، للإشراف على التدريس في المسجد الحرام بمكة المكرمة، على أن تُدَرَّس فيه العلوم الدينية من تفسير، وحديث، وتوحيد، وفقه، وعلوم اللغة العربية، وأن تُخَصَّص لكل مدرس حلقة علمية خاصة، وتُصرَف للمدرسين مرتبات مجزية، كما تُصْرَف لكل طالب خمسة ريالات عربية في كل شهر. وقد أصبح المسجد الحرام بمثابة جامعة إسلامية تُدرَّس فيها جميع العلوم الإسلامية والعربية على يد نخبة من العلماء الأفذاذ
ولم يقتصر اهتمام الملك عبدالعزيز على التعليم العام أو التعليم الشرعي في المسجد الحرام، بل امتد اهتمامه إلى التعليم العالي؛ ففي عام 1369هـ / 1949م افتُتحت في مكة المكرمة أول كلية للتعليم العالي وهي كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، كما افتُتحت بمكة المكرمة أيضًا كلية التربية عام 1372هـ / 1953م، وتتابع بعد ذلك إنشاء الكليات في مختلف التخصصات للبنين والبنات التي منها تأسست جامعة أم القرى  فيما بعد في عام 1401هـ / 1981م 
لقد حظيت مكة المكرمة باهتمام خاص من الملك عبدالعزيز نظرًا إلى مكانتها الدينية بوصفها قبلة لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وشمل التطور في مكة المكرمة جميع المرافق التي تيسر على الحجاج حجهم، كما اهتم بصفة خاصة بإصلاحات كبيرة في المسجد الحرام
أصدر الملك عبدالعزيز أمره بأن يُنْفَق الجزء الأكبر من إيرادات الدولة في تعمير مرافق الدولة وتطويرها على أن تُعطى الأولوية لعمارة الحرمين الشريفين، وشرع في توسعة المسجد النبوي الشريف وعمارته بالمدينة المنورة على أحدث طراز معماري إسلامي، وفي الوقت نفسه أصدر أمره في عام 1368هـ / 1948م لمؤسسة بن لادن بعمل التصميمات اللازمة لمشروع توسعة المسجد الحرام وعمارته بمكة المكرمة بعد أن ازداد عدد الحجاج إلى نحو 200 ألف حاج من داخل المملكة وخارجها بعد أن كان عددهم 90662 حاجًا فقط في عام 1346هـ / 1928م
وكان الملك عبدالعزيز يشرف بنفسه على سير الأعمال خطوةً بخطوة كلما قَدِم إلى مكة المكرمة، ويقدم ملاحظاته واقتراحاته، واستمر في متابعة ذلك طوال حياته رحمه الله
وقد انعكس ذلك في ازدياد أعداد الحجاج والمعتمرين عامًا بعد آخر؛ ما تَطَلَّبَ القيام بتطوير مرافق الحج في المشاعر المقدسة وأمكنة استقبال الحجاج وتوديعهم، وتنظيم خدمات المطوفين والإشراف على سير أعمالهم، مع تحديث مساكن الحجاج ووسائل نقلهم، وذلك تحت إشراف (لجنة إدارة الحج) برئاسة النائب العام في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وقد تحولت هذه اللجنة في سنة 1365هـ / 1946م إلى (المديرية العامة للحج). كما أُنشئ معهد خاص لتعليم المشتغلين بالحج أحكام الحج وخدماته، وأُنشئت شركات خاصة لنقل الحجاج منذ قدومهم وحتى عودتهم إلى بلادهم تحت إشراف النقابة العامة للسيارات، وشركات أخرى للإشراف على النقل البحري. وجرى تعبيد الطريق بين جدة ومكة المكرمة، ورُصفت بالأسفلت بطول 73كم، وكذلك تعبيد طرق المشاعر المقدسة تحت إشراف مصلحة الطرق، واستُخدمت السيارات بأنواعها في نقل الحجاج لأول مرة في حج عام 1350هـ / 1931م، وبلغ عددها في ذلك العام أكثر من ألف سيارة
اتُّخذت مدينة جدة مركزًا لاستقبال ضيوف الرحمن، وشُيِّد فيها ميناء ومطار حديثان، مع إقامة مناطق سكنية لسكن الحجاج وراحتهم قبل توجههم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. كما اهتم الملك عبدالعزيز بصحة المواطن والمقيم والحجاج، فأُقيمت المراكز الصحية، واستُقدم لها الأطباء، وقد أُطلق اسمه على أول مستشفى أُقيم في مكة المكرمة بالزاهر، وتلا ذلك إقامة عدد من المستوصفات والمستشفيات، وأمر بصرف الدواء للمواطنين والمقيمين والحجاج مجانًا، كما أنه سمح باستيراد السيارات لتسهيل انتقال السكان والحجاج خلال مواسم الحج لأجل مزيد من راحتهم وسلامتهم
وكان الملك عبدالعزيز يقود مواكب الحجاج إلى المشاعر المقدسة، ويشرف بنفسه على راحة الحجاج وأمنهم وسلامتهم منذ قدومهم مكة المكرمة وحتى عودتهم إلى بلادهم. وخلال موسم الحج كان يلتقي بوفود بعثات الحج، ويلقي فيها خطابًا يشرح فيه سياسة الدولة وتمسكها بالشريعة الإسلامية، ومما قاله في الخطاب الذي ألقاه في جموع وفود الحج في اليوم الأول من شهر ذي الحجة عام 1348هـ / 29 إبريل 1930م: نحن نفتخر بالدين الإسلامي، ونفتخر بأننا مبشرون لتوحيد الله ونشر دينه، وأَحَبُّ الأعمال إلينا هو العمل في هذا السبيل. نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالي من كل بدعة، نحن دعاة إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها   وهذا تأكيد على أن المملكة العربية السعودية دولة إسلامية، وأن سياستها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدين الإسلامي، فالقرآن الكريم والسنة النبوية دستورها وسمة من سمات حكمها
كما كان الملك عبدالعزيز يحث الأمة الإسلامية دائمًا على التضامن الإسلامي، والتعاضد والتكاتف فيما بينها لصد خطر المخططات المعادية للإسلام والمسلمين؛ ولذلك دعا إلى عقد أول مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة عام 1345هـ / 1926م، وتتابع بعد ذلك عقد المؤتمرات الإسلامية في مكة المكرمة في عهود أبنائه الملوك من بعده
وقد وفرت الدولة المياه في عهدهـ - رحمه اللهـ - في مساكن الحجاج وفي المشاعر المقدسة، وتم استبدال مجرى من الأنابيب بمجرى عين زبيدة، وإنشاء عدد من الخزانات داخل مكة المكرمة وفي المشاعر، كما سمح باستيراد أنواع جديدة من الخيام من باكستان ودول أخرى
وفي عام 1368هـ / 1948م أُسِّست الإذاعة السعودية التي خصصت معظم برامجها في مواسم الحج لإرشاد الحجاج إلى أحكام الحج وتعليماته 
أما المسجد الحرام فقد اهتم به الملك عبدالعزيز اهتمامًا كبيرًا؛ ونظرًا إلى أهميته الدينية فقد أصدر أمره الكريم في أواخر عام 1344هـ / 1926م لمدير الأوقاف بعمل جميع الترميمات والإصلاحات اللازمة لجدار المسجد الحرام والأعمدة التي أصابها التلف، وإصلاح حجر المماشي وصحن الطواف واستبدال أحجار جديدة من الصوان بالتالفة، واستبدال المقابض والأقفال الجديدة والقوية لأبواب المسجد بالقديمة، مع إصلاح التالف من أخشاب النوافذ والأبواب، وترميم شامل للمنائر من الداخل والخارج، وتجديد طلاء مقام إبراهيم عليه السلام، وتنظيم الأعمدة النحاسية حول المطاف، مع طلاء شامل للقباب والأعمدة والجدران من داخل المسجد الحرام وخارجه، وفرش كامل لأرضية المسعى بالبلاط الحجري المربع؛ ما سهل على الساعين سعيهم دون تعرضهم للأتربة والغبار 
وفي عام 1346هـ / 1927م أمر الملك عبدالعزيز بإجراء الترميمات اللازمة للمسجد الحرام من الداخل والخارج، وقد شمل ذلك ترميم أرضيات الأروقة، إذ استُبدلت الأحجار المسطحة والجديدة بالتالفة، وتم ترميم الأعمدة الرخامية والحجرية، وإصلاح التالف من العقود والقباب في جميع الأروقة وإصلاح قبة بيت زمزم وطلاؤها من جديد، واستبدال حصباء جديدة للساحات الداخلية للمسجد بالحصباء القديمة، مع عمل سبيل جديد لماء زمزم  بجانب السبيل السابق، ولما اشتد الزحام على السبيلين تم عمل سبيل ثالث، كما تم عمل مظلات من أقمشة متينة عند نهاية الأروقة وبداية الساحات المطلة على صحن الطواف من الجهات الأربع لكي يحتمي تحتها المصلون في أوقات صلاتَي الظهر والعصر، وسحبها ليلاً، مع تركيب مصابيح كهربائية جديدة بلغ عددها ألف مصباح، موزَّعة حول صحن الطواف والأروقة والساحات الداخلية والأبواب والشوارع المحيطة بالمسجد. وقد انتهت أعمال الترميم في المسجد الحرام مع نهاية شهر رجب عام 1347هـ / 1928م، وأُنفق عليها بسخاء من ميزانية الدولة على الرغم من قلة الموارد وما كانت تواجهه الدولة من فتن داخلية استطاع الملك عبدالعزيز القضاء عليها بحكمة وحزم 
ونظرًا إلى زيادة الطاقة الكهربائية المطلوبة لإنارة المسجد الحرام وعدم قدرة الماكينة الكهربائية على تأمين الطاقة اللازمة؛ فقد تم تأمين ماكينة كهربائية جديدة واستبدالها بالسابقة في منتصف عام 1349هـ / 1930م، وهي ماكينة ذات طاقة كهربائية عالية، مع زيادة عدد المصابيح إلى 1300 مصباح 
وفي شعبان عام 1354هـ / نوفمبر 1935م عَهِدَ الملك عبدالعزيز إلى لجنة برئاسة الشيخ عبدالله الشيبي نائب رئيس مجلس الشورى باتخاذ الإجراءات اللازمة للكشف على المناطق التي أصابها التلف في جدران المسجد الحرام وأرضيته، والعمل على عمارتها وإصلاحها تحت إشراف لجنة فنية من مهندسي أمانة العاصمة المقدسة ورؤساء المهن المعمارية من بنَّائين ومبيِّضين ونجارين. وفي ضوء قرار اللجنة الفنية تمت إزالة جميع الأحجار التالفة في أرضية صحن الطواف والممرات والأروقة، واستُبدلت أحجار جديدة من الصوان بالقديمة منها، باستخدام الأسمنت والنورة بطريقة حديثة، وإزالة جس الجدران المسبخة وإصلاحها بالأسمنت والنورة بعد إزالة مسببات الرطوبة، مع طلاء عموم جدران المسجد وأعمدته وأسقفه وأبوابه بطلاء أبيض، واستبدال حصباء جديدة للساحات الداخلية بالقديمة 
وفي عام 1363هـ / 1942م تم تغيير باب الكعبة المشرفة بباب مغطى بالكامل بصفائح من الذهب الخالص.
وفي مطلع عام 1366هـ / 1946م  أمر بعمل مظلة جديدة من الحديد مسقوفة بصفائح حديدية على طول المسعى من الصفا إلى المروة، ما عدا الجزء الذي يمر به الشارع العام الممتد من الحميدية إلى سوق الليل، وبلغ عرض المظلة نحو 20م، وطولها 350م 
وفي مكة المكرمة أسست الدولة صحيفتها الرسمية صحيفة أم القرى، كما أسست في مكة المكرمة صحف محلية أخرى مثل: حراء، وقريش، والندوة التي لاتزال مستمرة في الصدور وتوفي الملك عبدالعزيز - رحمه اللهـ - في الثاني من شهر ربيع الأول عام 1373هـ / 8 نوفمبر 1953م وكان يرغب في عمل توسعة للمسجد الحرام، وكان يأمل أن يرى البدء في هذا المشروع كما رأى توسعة المسجد النبوي.
شارك المقالة:
88 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook