الإطار الجغرافي لمملكة لحيان بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الإطار الجغرافي لمملكة لحيان بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الإطار الجغرافي لمملكة لحيان بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
 
تشير بقايا الآثار الظاهرة والمنتشرة في الخريبة (دادان قديمًا) الواقعة اليوم في سفح جبل الخريبة  على مسافة ثلاثة كيلومترات شمال شرقي بلدة العلا القديمة إلى أن اللحيانيين اتخذوا من ذلك المكان مركزًا رئيسًا لحكومتهم المركزية وأداروا منه أرجاء البلاد فترة زمنية تربو على خمسة قرون متتالية، وامتد نفوذهم ليشمل دادان بمفهومها الواسع (واحة العلا حاليًا)، والحجر (مدائن صالح حاليًا) الواقعة على مسافة 22كم شمال مدينة العلا الحالية. وعلى الرغم من اتفاق الدارسين على حقيقة المقر الرئيس لمملكة لحيان في واحة العلا (دادان) إلا أن آراءهم متعددة فيما يخص الامتداد الجغرافي لحدود مملكة لحيان إبان فترة ازدهارها، فمنهم من يرى   في تلك الإشارة التي ذكرها الجغرافي اليوناني أجاثر خريدس (عاش في النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد) أن خليج العقبة كان يطلق عليه - آنذاك - اسم (خليج لحيان) دليلاً على سعة حدود دولة لحيان. بيد أن ذلك يجب أن يؤخذ بحذر شديد، إذ قد لا تعني تلك الإشارة بالضرورة امتداد رقعة الأراضي اللحيانية إلى تلك النواحي البعيدة، ولعل الأقرب إلى الواقع أن تكون الإشارة هنا دليلاً على قوة النفوذ اللحياني خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، تلك الفترة التي شهدت تزايد نفوذ اللحيانيين على مجريات نقل البضائع التجارية في الأجزاء الشمالية الغربية من البحر الأحمر، ما جعل خليج العقبة يطلق عليه - آنذاك - اسم خليج لحيان.
 
أما وجهة نظر فرنر كاسل   من أن نفوذ مملكة لحيان امتد إلى واحة الخرج في الأجزاء الجنوبية من منطقة نجد، اعتمادًا على تشابه اسم مدينة الخرج مع اسم المعبود اللحياني (خرج)، فلا يعد حجة على امتداد دولة بني لحيان إلى تلك المناطق، خصوصًا إذا ما أخذ المرء في الحسبان البعد المكاني.
 
والحقيقة إن تشابه كثير من أسماء الأمكنة والأسماء الخاصة في الموروث العربي القديم لا يدل بالضرورة على أي رابط فيما بينها. وثمة من يرى في ذكر بعض أسماء الأمكنة التاريخية في النقوش اللحيانية، مثل اسم المكان (ذعمن) الذي تكرر ذكره في بعض النقوش اللحيانية   إشارة إلى امتداد مملكة لحيان شمالاً إلى عمان عاصمة الأردن الحالية  ،  ولكن ذلك يجب ألا يجزم بحقيقة صوابه، فمن المرجح أن اسم المكان (ذعمن) في متون تلك النصوص يدل على أنه من أسماء الأمكنة القريبة من محيط حدود مملكة لحيان في واحة العلا، وفضلاً عن ذلك فإن المرء حين يعيد النظر في تلك النقوش اللحيانية التي جاء في متونها موقع (ذعمن) يتضح أنها من نوع النقوش الإهدائية التي تتحدث عن قيام أشخاص بتقديم قرابين لمعبود مملكة لحيان الرئيس (ذو غيبة)، ومثل هذه النقوش يصعب الأخذ بإشاراتها - خصوصًا أسماء الأمكنة - لتأكيد امتداد نفوذ سياسي على منطقة بعيدة، فالشواهد التاريخية في النقوش العربية القديمة يرد فيها قيام أشخاص ينتمون إلى ممالك أو قوى سياسية أخرى بتقديم القرابين والهدايا لمعبودات ممالك أخرى، خصوصًا أن الموروث الديني العربي القديم متشابه في شعائره إلى حد كبير، وقيام أولئك الأشخاص المنتمين إلى (ذعمن) حتى لو قبل المرء جدلاً أنهم من عمان (ربة عمون قديمًا) عاصمة الأردن الحالية، فمن المرجح أنهم ممن يرتبطون بعلاقات تجارية أو اجتماعية مع اللحيانيين في واحة العلا، أو قد يكونون من أفراد جالية لحيانية كانت تقيم في عمان. ولكن على الرغم من ذلك فإن قيامهم بتقديم القرابين لمعبود لحيان الرئيس (ذو غيبة) لا يعد حجة على امتداد نفوذ دولة لحيان إلى تلك المناطق في شمالي جزيرة العرب.
 
ومما يعزز من حقيقة استبعاد فرضية امتداد مملكة لحيان إلى تلك المناطق هو عدم تسجيل أي مادة أثرية، سواء من النقوش اللحيانية  نفسها أو من موروثاتهم الأثرية في محيطها، علاوة على ذلك فإن جميع النقوش اللحيانية التي ذكر فيها اسم (ذعمن) تنحصر خلال فترة زمنية كانت فيها عمان ومناطقها المحيطة تقع تحت نفوذ قوى سياسية قوية، ولن تسمح لمملكة لحيان بالتدخل ومد نفوذها في محيط أراضيها، كذلك الأمر فيما يخص موقع (بدر) الذي تكرر ذكره في مجموعة من النقوش اللحيانية الإهدائية  ،  وبما أن ربطه بموقع بلدة بدر الواقعة جنوب غرب المدينة المنورة أمر وارد، إلا أن المرجح، إذا ما قبل المرء أن موقع بدر في النقوش اللحيانية هو نفسه موقع بدر الحالي جنوب غرب المدينة المنورة، أن أولئك الأشخاص الذين ذكرت النقوش اللحيانية قيامهم بتقديم قرابين لمعبود مملكة لحيان الرئيس (ذو غيبة)، إما ممن يرتبطون بعلاقات اقتصادية وإما اجتماعية مع مملكة لحيان وشعبها، أو أنهم من اللحيانيين المستوطنين في بدر، أي أن ثمة جالية لحيانية كانت تقيم - آنذاك - في بدر، وبحكم ذلك لم يجدوا غضاضة في تقديم الهدايا للمعبود (ذو غيبة) عن ممتلكاتهم في بدر، كي يباركها الإله ويرضى عنهم، حسب معتقداتهم، ولعل ما يعزز ذلك هو عدم وجود أي دليل أثري في موقع بدر نفسه يشير إلى سيطرة للحيان ومملكتها في تلك النواحي.
 
وأخيرًا يذهب بعضهم إلى القول إن سلطة اللحيانيين ونفوذهم وصلت إلى تيماء، معتمدين في ذلك على نقش آرامي عثر عليه في تيماء  ،  يذكر في متنه ما نصه:
 
1- ف ض ج وط هـ رو ب ر.
 
2- م ل ك ز ل ح ي ن.
 
وقد فسر الدارسون لهذا النقش كلمة ملك الواردة في السطر الثاني منه على أنه اسم لقب بمعنى (ملك؛ أي حاكم)، وفي ضوء ذلك فسر النقش على النحو الآتي: (فضجو شهرو بن ملك (حاكم) لحيان)، وبناء على هذا التفسير لمضمون النقش اعتقد الدارسون أن ثمة سيطرة أو نفوذًا لمملكة لحيان خلال القرن الرابع قبل الميلاد على تيماء، ولكن الحقيقة الثابتة أن التفسير أعلاه للنقش غير دقيق، إذ يتضح من خلال ورود كلمة (بر) قبل الاسم التي تطابق أداة النسب إلى الأب (ابن) في العربية الفصحى، أن معنى النص لا علاقة له بملك لحيان، بل هو اسم علم خاص يماثل اسم العلم العربي مالك، وعليه هذا الجزء من النص على النحو الآتي: (فضجو الطاهر بن مالك من (قبيلة) لحيان)، وهذا التفسير للنقش بقدر ما ينفي أي نفوذ سياسي لمملكة لحيان أو ملوكها في تيماء، إلا أنه لا يحول دون علاقة لشخص (مالك اللحياني) بتيماء وسكانها، وقد يكون أحد أفراد جالية لحيانية كانت تستوطن تيماء، أو ممن لهم علاقات خاصة أو عامة بقبائل تيماء.
 
وخلاصة القول إن الشواهد التي يرى فيها بعض الدارسين امتدادًا لمحيط حدود مملكة لحيان الجغرافي حتى منطقة الخرج في الجنوب وحتى عمان في الشمال، أو في منطقة بدر وتيماء يشوبها الغموض وقابلة لتفسيرات مختلفة ويجب أن تؤخذ بحذر شديد، وعلى ما يبدو في ضوء ما هو متاح من أدلة - حتى الآن - أن حدود نفوذ مملكة لحيان السياسي لم يتعد محيط منطقة العلا (دادان القديمة) والأمكنة القريبة منها.
 
شارك المقالة:
60 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook