الاستجابة للموعظة

الكاتب: المدير -
الاستجابة للموعظة
"الاستجابة للموعظة




الإنسان بطبعه يسعى إلى تحصيل سعادته في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، فهو مجبول على حب تحصيل الخير، وكراهية الشر، والبعد عنه.

فقيام الداعية بالموعظة الحسنة، يظهر بها حسن تعامله مع المدعوين، فهي تسبب الألفة بين القلوب، فكم من جوانب حسنة عند المدعوين يبرزها الداعية بالوعظ الحسن، وكم من معروف يشيعه الداعية بالموعظة الحسنة!

فبالموعظة الحسنة للعلماء، بها تقوم مصالحهم، وتصلح أحوالهم، وتستقيم أمورهم.

 

وعلى الداعية إلى الله تعالى إذا ما رغب في استجابة المدعوين أن يسلك معهم طرق الدعوة الناجحة المؤثرة، ومن ذلك استخدام أسلوب الموعظة الحسنة، وأن تكون موعظته في السر، فهي أقرب إلى إجابة المدعوين، لما فيها من مراعاة شعورهم، واللطف بهم.

 

وأن تكون بالتعريض دون التصريح، فالنفوس مجبولة على الكبر، والاعتداد بالذات، فهي لا تحب أن يواجهها أحد بخطئها، لأنها تعتبر ذلك إهانة لها وتحقيراً، فتلجأ إلى العناد، فإن التعريض في الوعظ يكون أوقع في النفس، وأكثر إرضاءً، فيقبل الوعظ ويعمل به.

 

هذا وقد جعل الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -: من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار[1].

وينبغي على الداعية الحكيم، أن يتخير الوقت المناسب، لإلقاء موعظته، حتى يكون لموعظته الأثر الكبير، فإن اختيار الوقت المناسب، يكون أدعى للقبول، والاستجابة.

وكذلك يعرض موعظته بأسلوب لين، وجميل، حتى يحملهم على الاستماع، والاستجابة.

 

وبعد هذا كله، يجب على المدعوين أن يستجيبوا لداعي الله تعالى، وألا يعرضوا عن الحق، والخير، فإن حصل لهم ذلك، نالوا ثمرات الاستجابة:

أ/ الحياة الطيبة في الدنيا، والآخرة: قال الله تعالى: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ? [الأنفال: 24] [2].

فإن استجابوا لداعي الله تعالى، حصلت لهم الحياة الحقيقة الطيبة، وكانوا أكمل الناس حياة، واستقامت أحوالهم، فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتوا وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان.

فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات[3].

 

ب/ مغفرة الذنوب والوقاية من العذاب الأليم، قال الله تعالى: ? يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ? [الأحقاف: 31] [4].

قال الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى -: (يحكي القرآن الكريم موقف أولئك النفر من الجن الذين انصتوا واستمعوا إلى القرآن وتأثروا به، فإنهم يأمرون أقوامهم ويقولون:

? يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ? أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه، ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم؛ ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: ? وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ? [الأحقاف: 31]، وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثم بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله[5].

 

ج/ طريق لرضا الله تعالى والفوز بالجنة، والنجاة من النار، قال الله تعالى: ? لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ? [الرعد: 18] [6].

يقول فخر الدين الرازي - رحمه الله تعالى -:( ذكر الله تعالى أحوال السعداء في قوله: ? لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ? والمعنى: أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والعدل، والنبوة وبعث الرسل، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الجنة، وقال أهل المعاني: الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة، الدائمة الخالية عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم، والإجلال) [7].

 

د/ إجابة الدعاء، قال الله تعالى: ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ? [البقرة: 186] [8].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (أخبر سبحانه أنه قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ثم أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان به، كما قال بعضهم: (فليستجيبوا لي) إذا دعوتهم (وليؤمنوا بي) إني أجيب دعوتهم.

 

قالوا: وبهذين السببين تحصل إجابة الدعوة:

1. بكمال الطاعة لألوهيته.

2. بصحة الإيمان بربوبيته.

فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه، حصل مقصوده من الدعاء، وأجيب دعاؤه[9].

وبعد ذلك: إن الهدف الرئيس للواعظ هو أن يستجيب الموعوظون، ويستقيمون على طاعة الله تعالى، ويتجنبون المنكرات؛ لكي تصلح أحوالهم؛ ولكي يتحقق له ذلك لا بد أن تكون موعظته بالحسنى.

 

لذا فإن على أهل العلم إذا دُعُوا إلى كتاب الله تعالى، وإلى ما فيه من شرع، وجب عليهم الإجابة لقول الله تعالى: ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [النور: 51] [10].

 

2. النجاة من الإصرار على الخطأ والزلل:

من أهم الآثار الدعوية المتعلقة بالموعوظ أنه حينما يستجيب للواعظ طالباً الحق والصواب، أنه بذلك قد أنجى نفسه من الهلاك.

وممّا ينبغي أن يعلم أن إصراره على الخطأ، والزلل يضر، ولا بُدَّ، وأن ضرره في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاته في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرٌ وداءٌ إلا وسببه الإصرار على الخطأ والزلل؟ [11].

وقد توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المصرين بالويل والهلاك، كما جاء في الحديث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص - رضي اللّه عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع القول[12]، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون[13].

 

قال قتادة - رحمه الله تعالى -: (إياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما، لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذلك حتى أتاهم الموت وهم على ذلك) [14].

يقول ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: (مخالفة الأمر توجب سخط الآمر، والإصرار على المخالفة أعظم منها.

 

ما أسرع العقوبة الى المسارع إلى المعصية!، وما أبعد الفلاح عمن لا تؤدبه العقوبة!. كيف يطمع في الزيادة من هو مضيع للشكر!؟، وكيف تدوم التوسعة لقوم كلما اتسعت أرزاقهم ضيقوا على فقرائهم!؟.

المستعين بالنعم على المعاصي مستوجب السلب، ومن لا يتأدب بالرزية في ماله أدبته الرزية في نفسه.

 

ألا ترون كيف يعاتبنا ربنا تعالى بتضييق مجاري أرزاقنا، وتسليط أقويائنا على ضعفائنا!، فما لنا لا نعتب ربنا إذا عتب علينا، ولا نجيب داعيه وقد أشار بطاعته إلينا!، فهل ننتظر بعد لطيف العتاب الا عنيف العقاب؟) [15].

ولما فتحت قبرص، جلس أبو الدرداء - رضي الله عنه - وحده يبكي، فقيل له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟.

فقال: ما أهون الخلق على الله - عز وجل - إذا أضاعوا أمره!.

تركوا أمر الله تعالى فصاروا إلى ما ترى[16].

 

إنَّ العالم الذي يرجع إلى ربه - جل وعلا - تائباً، ونادماً عن الخطأ، والزلل الذي وقع منه، إنها لصفة المؤمنين المتقين، الموعودين بالمغفرة من ربهم والجنة، قال الله تعالى: ? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? [آل عمران: 133 - 136] [17].

 

وقد سطر لنا تاريخنا الإسلامي، نماذج لأهل العلم ممن تراجعوا عن أخطائهم، وزلاتهم، نجاة لأنفسهم، ونجاة لأفراد الأمة من الانزلاق معهم في التمادي، والتشعب في سبل الضلال.

النموذج الأول:

عن أبي ثور إبراهيم بن خالد مفتي بغداد - رحمه الله تعالى - قال: (لما ورد الشافعي العراق جاءني حسين الكرابيسي وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل الشافعي يقول: قال الله وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أظلم علينا البيت فتركنا بدعتنا واتبعناه) [18].

 

النموذج الثاني:

قَال الإمام عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله تعالى -: (كنا في جَنَازة فيها عُبَيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، فلما وضع السرير جلس وجلس الناس حوله. قال: فسألته عن مسألة فغلط فيها، فقلت: أصلحك الله، القول في هذه المسألة كذا وكذا إلا أني لم أرد هذه، انما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها فأطرق ساعة ثم رفع رأسه، فقال: إذاً أرجع وأنا صاغر، إذاً أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنباً في الحق، أحب الي من أن أكون رأساً في الباطل) [19].

فالرجوع إلى الحق دأب السلف الصالح، وحال العلماء الأتقياء، وهو خير من التمادي على الباطل؛ لأنَّ التمادي في الباطل دليلٌ على الخذلان.




[1] إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، 1/57.

[2] سورة الأنفال، آية: 24.

[3] انظر الفوائد، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، ص: 88، ط2، 1393هـ/1973م، دار الكتب العلمية، بيروت.

[4] سورة الأحقاف، آية: 31.

[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ص:931.

[6] سورة الرعد، آية: 18.

[7] التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، الرازي الشافعي، 19/30-31.

[8] سورة البقرة، آية: 186.

[9] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، تحقيق وتعليق: ناصر بن عبد الكريم العقل، 2/788-789، مكتبة الرشد، الرياض.

[10] سورة النور، آية: 51.

[11] انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء)، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، 1/26، دار الكتب العلمية، بيروت.

[12] ( أقمـاع القول):من يسمعه ولا يعيه ولا يعمل به، شبهوا بالقمع وهو ما يجعل برأس الإناء الضيق حتى يملأ بجامع أن نحو الماء يمر منه إلى غيره ولا يمكث فيه وكذلك القول يمر على آذانهم ولا يعملون به.

انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر، أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي، تحقيق:تم التحقيق والاعداد بمركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، 1/411، ط2، 1420هـ/1999م، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، لبنان.

[13] مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/ 165، رقم الحديث ( 6541 )، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، رجاله رجال الصحيح غير حبان بن يزيد الشرعبي وثقه ابن حبان، 10/191.

[14] تفسير ابن المنذر، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، تحقيق: سعد بن محمد السعد، 1/388، ط1، 1423هـ/2002م، دار المآثر، المدينة النبوية.

[15] التذكرة في الوعظ، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، تحقيق: أحمد عبد الوهاب فتيح، ص: 65، ط1، 1406هـ، دار المعرفة، بيروت.

[16] انظر الزهد، أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني، تحقيق:عبد العلي عبد الحميد حامد، ص: 142، ط2، 1408هـ، دار الريان للتراث، القاهرة.

[17] سورة آل عمران، الآيات: 133- 136.

[18] تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، 6/68، دار الكتب العلمية، بيروت.

[19] تهذيب الكمال، أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن المزي، تحقيق:د. بشار عواد معروف، 19/25، ط1، 1400هـ/1980م، مؤسسة الرسالة، بيروت.


"
شارك المقالة:
25 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook