الاستيطان في العصور الحجرية في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
الاستيطان في العصور الحجرية في المملكة العربية السعودية

الاستيطان في العصور الحجرية في المملكة العربية السعودية.

 
 
تدل الاكتشافات الأثرية التي كُشِفَ عنها في بعض مناطق المملكة على أن أرض المملكة من أوائل الأمكنة في قارة آسيا التي وطئتها أقدام الإنسان في العصور الحجرية في تاريخ يرجع إلى ما قبل مليون وربع مليون سنة، ولما كانت الشواهد الأثرية في العالم تدل على وجود الإنسان في قارة إفريقية بتاريخ يرجع إلى ما قبل ثلاثة ملايين سنة؛ فقد افتُرض أن الإنسان انتقل من تلك القارة إلى قارة آسيا، وحل في بداية عهد انتقاله في الجزيرة العربية. وقد قادت الدراسات الميدانية التي أجراها الباحثون على المواقع التي ترك فيها الإنسان القديم أدواته وأسلحته ومخلفاته الأخرى إلى افتراض أنه سلك طريقًا من اثنين في رحلته الطويلة إلى أن وصل إلى الجزيرة العربية؛ إذ يفترض فريق من الباحثين أنه انتقل عبر الأودية الإفريقية من تنـزانيا، ثم عَبَر وادي النيل سيرًا على جوانبه، ثم تجاوَزَ الأرض الإفريقية إلى شبه جزيرة سيناء، ومنها انحدر إلى جبال الحجاز شمال غرب الجزيرة العربية، ومن هناك بدأ رحلة انتشاره في الجزيرة العربية؛ مستدلين بالعثور على أقدم مواقع أدواته على ضفاف نهيرات وبحيرة جافة في الوقت الحالي، تقع بالقرب من قرية الشويحطية في منطقة الجوف، وكذلك وجود كثير من مواقعه على ضفاف وادي فاطمة في منطقة مكة المكرمة وفي جبال اللوز في منطقة تبوك.
في حين يرى بعض الباحثين أن الإنسان ارتحل من موطنه الأول المعروف حاليًا في أخدود أولدفاي في تنـزانيا ومنه انطلق عبر الأودية الإفريقية، إلى أن وصل سواحل البحر الأحمر، ومن هناك عَبَر البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، حيث لا يتجاوز عرض البحر أكثر من 28كم يتخللها كثير من الجزر؛ لذا افترض الباحثون أن الإنسان ركب قوارب بدائية قوامها ألواح خشبية مسطحة، واندفع بها إلى جنوب الجزيرة العربية، فانتشر في جبال السروات، ومنها انحدر إلى أودية نجران؛ مستدلِّين بأنه عُثر في هذا المكان على أقدم المواقع في الجزيرة العربية قاطبة، وتحتوي هذه المواقع على أدوات حجرية استخدمها الإنسان وتُؤرَّخ بمليون ونصف مليون عام قبل الميلاد، ومن ذلك المكان انتشر شمالاً إلى وادي تثليث حيث عُثر على مواقع تحتوي على أدوات حجرية تُؤرَّخ بتاريخ مثيل لتاريخ الأدوات الحجرية التي عُثر عليها في شعيب دحضة  . 
وقد عُرف استيطان الإنسان في الجزيرة العربية خلال العصور الحجرية (التي تشغل من زمن وجود الإنسان ما يقرب من مليونَي عام) من خلال نتائج أبحاث ميدانية بدأت قبل أكثر من مئة عام، ولا تزال مستمرة حتى الوقت الحاضر. وبناءً على نتائج تلك الأعمال يمكن تقسيم استيطان الإنسان لأرض المملكة خلال العصور الحجرية إلى قسمين:
 
القسم الأول
يمثله العصر الحجري القديم الذي يبدأ منذ مليون وربع مليون عام قبل الميلاد بالنسبة إلى أرض المملكة، ويستمر حتى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، ويشمل ثلاث مراحل: أقدمها مرحلة العصر الحجري القديم الأسفل التي تبدأ ببداية العصر الحجري القديم، وتستمر حتى قبل سبعين ألف سنة قبل الميلاد. والمرحلة الثانية تُسمى العصر الحجري القديم الأوسط، وتشغل حيزًا زمنيًا يمتد مما بعد سابقتها إلى خمسة وثلاثين ألف سنة قبل الميلاد. تليها المرحلة الثالثة وتشمل ما يُطلق عليه اسم العصر الحجري القديم الأعلى، وتغطي امتدادًا زمنيًا يبدأ بعد سابقتها، وينتهي بحدود خمسة عشر ألف سنة قبل الميلاد.
 
ويشمل القسم الثاني
ما يُعرف باسم العصر الحجري الحديث الذي يبدأ قبل تسعة آلاف سنة من الميلاد وينتهي بظهور المعادن في العالم القديم بحدود نهاية الألف الخامس قبل الميلاد.
 
ويُقسم العصر الحجري الحديث إلى مرحلتين:
 
 المرحلة الأولى تبدأ باستقرار الإنسان، وتستمر حتى بداية معرفته صناعة الأواني الفخارية في حدود الألف السادس قبل الميلاد.
 
 أما المرحلة الثانية فتبدأ بظهور الصناعات الفخارية في الألف السادس قبل الميلاد، وتنتهي بنهاية الألف الخامس قبل الميلاد، إذ يبدأ ما يُعرف باسم العصور المعدنية.
 
 

العصر الحجري القديم

 
 
تدل الأبحاث الميدانية على أن الإنسان وُجد في أرض المملكة خلال العصر الحجري القديم، في الفترة التي تُعرف باسم الفترة الألدوانية (ب)، بتاريخ يصل إلى مليون وربع مليون عام؛ ففي عام 1401هـ / 1981م نشر يوريس زارينس وآخرون تقريرًا عن أعمالهم الميدانية في جنوب غرب المملكة، وكان من بين المكتشفات موقع على ضفاف شعيب دحضة الذي يمثل رافدًا من روافد وادي نجران. وذكر فريق المسح أن الموقع قد تعرَّض لبعض عمليات الحفر بهدف استخراج الحصباء؛ ما أدى إلى كشف مقطع جانبي بباطن الوادي سُمْكُه 5م، وسُمْكُ طبقته العلوية 60سم، وتليها طبقة سُمْكُها 2.5م، ثم طبقة ثالثة سُمْكُها 3م. ويذكر فريق المسح أنهم عثروا على عدد من الأدوات المصنوعة من الحجر والبلور الصخري؛ بعضها بدا كأنه مصنَّع، وبعضها بدا من المادة الخام أي أنه لم يُصنَّع.
وفي موقع آخر على ضفاف وادي تثليث، عُثر في خندق صغير شرق الوادي الرئيس على مجموعة من الأدوات تضم المكاشط والرقائق والقطع المدببة، وجميعها يختلف عن الأنواع الآشولية المعروفة  . 
ومن أهم المواقع التي عُثر فيها على أدوات حجرية تُؤرَّخ بالعصر الحجري القديم الأسفل: وادي الشويحطية الواقع بالقرب من مدينة سكاكا في منطقة الجوف  ، إذ يوجد في تلك الناحية (بالقرب من قرية الشويحطية) واديان كانا نُهيرين يجريان من جراء هطلان الأمطار وذوبان الثلوج التي تتساقط على الجبال المحيطة بالواديين، ويسير الواديان ليصبا في بحيرة كبيرة وُجد على ضفافها غطاء نباتي كثيف وثروة حيوانية وفيرة. وعلى ضفاف النُّهيرين عثر الفريق المكلف بمسح الإقليم الشمالي الغربي في أكثر من 16 موقعًا عام 1397هـ / 1977م على مجموعة من الأدوات الحجرية  ،  وبعد فحصها اتَّضح أنها تعود إلى فترة تسبق الفترة الآشولية، ورُجِّح أنها من الفترة الألدوانية المتطورة، لكن اتَّضح أنه لا بد من أعمال ميدانية في الموقع لتؤكد الاستنتاجات التي توصَّل إليها فحص المواد، ولتقدم مواد أخرى تسهم في دراسة الموقع ودلالاته الثقافية والزمنية؛ ومن أجل ذلك قام فريق من الباحثين بالتنقيب في الموقع عام 1404هـ / 1984م، وتبيَّن من الدراسات الجيولوجية التي قام بها عدد من المتخصصين في الدراسات الجيولوجية أن المنطقة كانت غنية بالمياه؛ نتيجة لوفرة الأمطار وسقوط الثلوج؛ ما أدى إلى نمو أنواع مختلفة من النباتات والأشجار التي اعتمد عليها الإنسان في غذائه، وتوافر أمكنة يأوي إليها للراحة والنوم، ونباتات توفر الغذاء اللازم للحيوانات التي تجول في المنطقة، وتشكل المصدر الأول لغذاء الإنسان. كما عُثِر في المنطقة على مظاهر طبوغرافية تحتوي على مغارات وكهوف وحواف جبلية، استخدمها الإنسان لاتقاء الكوارث الطبيعية، وللإقامة الموسمية أو العابرة.
وأمكن قياس الإشعاع لعنصر أرغون البوتاسيوم، والانشطار الذري، والمغناطيسية، ودراسة بقايا العظام؛ وتحديد تاريخ مواقع الشويحطية إلى ما بين مليون وثلاثمئة ألف سنة ومليون سنة  . وتُؤرَّخ الفترة الآشولية بحدود مليون سنة قبل الميلاد وتنتهي منذ مئة ألف سنة  ،  وقد أثبتت الأبحاث الأثرية الميدانية أن ثقافات هذه الفترة - وبخاصة في جزئها الأعلى، أي من 300 ألف سنة وما فوق - تنتشر آثارها في المملكة انتشارًا كبيرًا، وقد عُثر على ما يمثلها في كثير من المواقع في الإقليم الجنوبي الغربي  ،  كما عُثر على عدد كبير من المواقع في الإقليم الغربي على حواف وادي فاطمة؛ وفي وسط الجزيرة العربية عُثر على عدد من المواقع في وادي الدواسر، والسليل، ووادي صلبوخ، ووادي الحيسية  ،  وفي محافظة الدوادمي عُثر على أكبر تجمُّع لهذه المواقع على ضفاف وادي صفاقة، وهو تجمُّع يمثل الفترة خير تمثيل؛ فحول ذلك الوادي توجد جبال، وبينها توجد نهيرات تصب في حوض كبير يمثل بحيرة قديمة، وعُثر في عدد من مواقع الفترة الآشولية على مصاطب تلك النهيرات وحواف تلك البحيرة والمرتفعات من حولها، وجُمعت منها مادة أثرية مكونة من أدوات حجرية مختلفة  .  وتَبَيَّن أن هذه المواقع تمثل فترة الثقافة الآشولية، وأنها تستحق أن تُفحص من خلال إجراء مجسات أثرية في مواقع محددة في المكان نفسه، يُلتقط منها أدوات حجرية موثقة طبقيًا. وقد تم ذلك عام 1402هـ / 1982م عندما قام فريق من الباحثين الأثريين بإجراء تنقيبات اختبارية في موقعين مسجلين بالرقمين (206 / 76) و (206 / 68) في سجلات وكالة الآثار والمتاحف  ،  ونُفذ تنقيب آخر عام 1403هـ / 1983م، ونتيجةً لتلك التنقيبات والدراسات تَبَيَّن أن مواقع هذه الفترة منتشرة في المملكة  . 
 

العصر الحجري الحديث

 
تنتشر آثار ثقافة العصر الحجري الحديث (ما قبل صناعة الفخار) في أرجاء المملكة، إذ عُثر على الأدوات الحجرية المميِّزة لهذا العصر في عدد كبير من المواقع المنتشرة في جميع مناطق المملكة؛ ففي المنطقة الشرقية عُثر على مادة العصر الحجري الحديث في الطبقة الرابعة عشرة متمثلةً في أدوات حجرية من بينها رؤوس حراب وسهام ورماح متناهية في الدقة، وتقع هذه الطبقة أسفل طبقة عُثر فيها على أدوات حجرية مع كِسَر فخارية بدائية الصنع. وأُرِّخت الطبقة الرابعة عشرة بالألف السابع قبل الميلاد، وعُدَّت مرحلة من مراحل العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار)  .  كما عُثر على مجموعة من الأدوات الحجرية التي تُؤرَّخ بالعصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار) في عدد من المواقع التي تنتشر في محيط عين دار  . 
وفي وسط المملكة عُثر على مواقع ترجع إلى العصر الحجري الحديث في عدد كبير من المواطن؛ ففي الربع الخالي وُجدت أدوات حجرية في: المتبطحات، وجلدة، وشرورة، وموقع آخر لا يحمل اسمًا  .  كما عُثر في وادي الغيران في الربع الخالي على عدد كبير من المواقع وصل إلى 44 موقعًا، وتقع هذه المواقع على ضفاف البحيرات القديمة أو بين رواسبها، وتمثل معسكرات صيد عُثر فيها على تشكيلات حجرية دائرية يُظن أنها مواقد للنار. وعُثر في معظم هذه المواقع على أدوات حجرية مشذبة، وشظايا صوانية، وسهام صيد صغيرة  ،  كما عُثر على أدوات حجرية تؤدي وظائف متنوعة، مثل: المكاشط، والسكاكين، ومدقَّات الطحن، وأدوات الجرش (المساحن)  ،  وأدوات حجرية أخرى، بالإضافة إلى قليل من قشر بيض النعام، وأدوات حجرية مصنوعة من حجر الزجاج البركاني   ترجع إلى العصر الحجري الحديث. ويُظن أن مرتاد هذه المواقع كان غير مستقر استقرارًا كاملاً  . 
وعُثِر على مجموعة من المواقع تعود إلى العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار) في أمكنة منتشرة في محافظة وادي الدواسر، بالقرب من قرية الفاو، ومواقع أخرى عُثِر فيها على أدوات حجرية، وموقع عُثِر فيه على رسوم صخرية، ومن بين الأدوات الحجرية أدوات يُظن أن الرسوم الصخرية قد نُفذت بها، وكذلك عُثِر على مواقع أخرى في محافظة السليل، وبالقرب من سدوس، وضرما، وحول عين الحيسي، وعلى حواف وادي صلبوخ  . 
وتنتشر مجموعة من المواقع التي تحتوي على مواد أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار) في بيئات متنوعة منها: مصاطب الأودية، والعروق الرملية، وحواف البحيرات القديمة، وقمم الجبال. وفي هذه المواقع عُثر على أدوات حجرية متنوعة من بينها رؤوس سهام مشحوذة الوجهين، وشوكة ذات غمد  . 
وفي الثمامة الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة الرياض عُثر على مجموعة من رؤوس سهام ورماح وحِراب  تمتاز بصناعة غاية في الدقة، كما أنها تعكس تنوعًا في الأشكال لا يتوافر في غيرها؛ بالإضافة إلى أدوات ورقية الشكل، ومكاشط، ومثاقب، وقواطع، ورقائق، ويُظن أن تاريخ هذه الأدوات يرجع إلى الألف السادس قبل الميلاد  . 
وبالنسبة إلى العصر الحجري الحديث الفخاري فقد عُثر على مواده الأثرية في عدد من المواقع في جميع مناطق المملكة. وتُعد مواقع فترة العُبيد التي وُجد فيها أكثر من 40 موقعًا في المنطقة الشرقية من المملكة أفضل ممثل لهذه الفترة، وتتفاوت هذه المواقع في أحجامها وموادها الأثرية. وقد أماط اللثام عن هذه المواقع عمل أثري نُفذ عام 1392هـ / 1972م لمسح مواقع العصر الحجري الحديث الفخاري (مواقع العُبيد) في المنطقة الشرقية وبخاصة ثلاثة مواقع هي: عين قناص، والدوسرية، وأبو خميس  .  واتَّضح أن المادة الأثرية لفترة العصر الحجري الحديث الفخاري وُجدت في طبقات تعلو مباشرة الطبقات التي وُجدت فيها الأدوات الحجرية العائدة إلى العصر الحجري الحديث (ما قبل الفخار)  . 
 
 
 
شارك المقالة:
150 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook