الافتراء والبهتان

الكاتب: المدير -
الافتراء والبهتان
"الافتراءُ والبُهتان

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه.

 

أما بعد: ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ? [التوبة: 119]، واحذروا إيذاء إخوانكم المؤمنين، قال الله عزَّ وجل: ? وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ? [الأحزاب: 58]، أَلاَ وإنَّ مِن أعظم الإيذاءِ: البُهتانُ والافتراءُ، فما هو البُهتانُ والافتراءُ، وما حُكمه، وما أسبابُه، وما أنواعُه، وما آثارُه على الفرد والجماعة، وما جزاءُ الْمُفتري والبهَّات في الدنيا والآخرة، وما علاجه.

 

قال السيوطي: (الافتراء: اختراعُ قضيَّةٍ لا أصلَ لها) انتهى، وقال ابنُ الأثير في تعريف البُهتان: (هو الكذب والافتراءُ الباطلِ الذي يُتحيَّرُ منه) انتهى.

 

أيها المسلمون: إنَّ الافتراءَ على الأبرياءِ جريمةٌ عظيمةٌ، وكبيرةٌ مُنكرَةٌ، قال عزَّ وجل: ? إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ? [النور: 15]، وقال تباركَ اسْمُه: ? وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ? [النساء: 112].

 

وهو من أمر الجاهليةِ: قالَ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (أَرْبَعٌ في أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ ‌لا ‌يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ في الأحْسَابِ، والطَّعْنُ في الأنسابِ، والاسْتِسْقَاءُ بالنُّجُومِ، والنِّيَاحَةُ) رواه مسلم، وهو مَقْرُونٌ بالشركِ: قالَ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (لا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئاً، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بالحَقِّ، ‌ولا ‌تَمْشُوا ببَرِيءٍ إلى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ) الحديث رواه الترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ.

 

وهو من أكبر الكبائر: عن أبي بَكْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ ‌بأَكْبَرِ ‌الكَبَائِرِ» قُلْنَا: بَلَى يا رسولَ اللهِ، قالَ: «الإِشْرَاكُ باللهِ، وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئَاً فَجَلَسَ فقالَ: أَلا وقَوْلُ الزُّورِ وشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ»، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ) رواه البخاري.

 

وهو من الْمُهلكات: قالَ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (‌اجْتَنِبُوا ‌السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) وذكَرَ منها: (وقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الغافِلاتِ) متفقٌ عليهِ.

 

والْمُفتري والبَهَّات يُعذِّبُ نفْسَه يوم القيامة: قالَ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (لَمَّا عَرَجَ بي رَبِّي مَرَرْتُ بقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ ‌مِنْ ‌نُحَاسٍ، ‌يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: هَؤُلاءِ الذينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ) رواه الإمام أحمد وصحَّحه الألباني.

 

أيها المسلمون:

أما جزاءُ الْمُفتري والبهَّات في الدُّنيا: فإن كان قذف أحداً بزناً أو لواطٍ، فكما قال عزَّ وجل: ? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? [النور: 4]، وإن كان بغير ذلك فيُعزِّرُه الحاكم بما يردعهُ وأمثاله.

 

وأما جزاؤُه في الآخرة: فكما قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (الظُّلْمُ ‌ظُلُمَاتٌ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ) رواه البخاري ومسلم، (قالَ القاضي: قِيلَ هُوَ على ظاهرِهِ فيكُونُ ظُلُمَاتٍ على صاحبهِ، لا يَهْتَدِي يومَ القيامةِ سَبيلاً حتى يَسْعَى نُورُ المؤمنينَ بينَ أيدِيِهِم وبأيْمَانِهِمْ، ويُحْتَمَلُ: أنَّ الظُّلُمَاتِ هُنَا الشَّدَائِدُ... ويُحْتَمَلُ: أنها عِبَارَةٌ عنِ الأنكَالِ والعُقُوبَاتِ) انتهى، ومن عُقوبات الْمُفتري في الآخرة: جَلْدُه يومَ القيامة: قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ، ‌جُلِدَ ‌يومَ ‌القِيَامَةِ، إلاَّ أنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ) رواه البخاري.

 

ومن عُقوباته: أخذُه قطعة من النار: قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فإنما هيَ ‌قِطْعَةٌ ‌مِنَ ‌النَّارِ، فلْيَأْخُذْهَا أوْ فَلْيَتْرُكْهَا») رواه البخاري ومسلم.

 

ومن عُقوباته: دُخُولُه النار جَزَاءَ افترائه وبُهتانه: قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: («مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقدْ ‌أَوْجَبَ ‌اللهُ ‌لَهُ ‌النَّارَ، وحَرَّمَ عليهِ الجَنَّةَ» فقالَ لهُ رجُلٌ: وإنْ كانَ شَيْئاً يَسِيراً يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «وإنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ) رواه مسلم، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ في ‌سَخَطِ ‌اللهِ ‌حتَّى ‌يَنْزِعَ، ومَنْ قالَ في مُؤْمِنٍ ما لَيْسَ فيهِ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قالَ) رواه الإمام أحمد وصحَّحه محققو المسند.

 

ومن عُقوباته: يُخشى عليه أن ليسَ له كَفَّارة: قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (وخَمْسٌ ‌لَيْسَ ‌لَهُنَّ ‌كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ بغَيْرِ حَقٍّ، أوْ بَهْتُ مُؤْمِنٍ، أوِ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بغَيْرِ حَقٍّ) رواه الإمام أحمد، وقال الألباني: (حَسَنٌ لغيره)، قال السمرقندي: (فليسَ شَيْءٌ مِنَ الذُّنُوبِ ‌أعْظَمَ ‌مِنَ ‌الْبُهْتَانِ) انتهى، واشترَطَ اللهُ ورسولُه في مُبايعةِ النساءِ: عدم البهتان، قال عزَّ وجلَّ: ? يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ? [الممتحنة: 12]، وكذلك اشترط النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الرِّجال، فقال ليلةَ العقبة: («بَايِعُوني على أنْ لا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئَاً، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، ‌ولا ‌تَأْتُوا ‌ببُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بينَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أَصَابَ مِنْ ذلكَ شَيْئَاً فَعُوقِبَ في الدُّنيا فهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، ومَنْ أَصَابَ مِنْ ذلكَ شَيْئَاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إلى اللهِ، إنْ شَاءَ عَفَا عنهُ وإنْ شاءَ عَاقَبَهُ») رواه البخاري.

 

الخطبة الثانية

أيها المسلمون:

ومن عُقوبات البَّهات في الآخرة: إفلاسُه يوم القيامة: قال صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (إنَّ ‌الْمُفْلِسَ ‌مِنْ ‌أُمَّتِي يَأْتِي يومَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ، وصِيَامٍ، وزَكَاةٍ، ويَأْتِي قَدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مَالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فَيُعْطَى هذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عليهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ) رواه مسلم.

 

عباد الله: من أنواع البُهت والافتراء: الغيبة، والإفك، والقذف، وقول الزور، والكذب، ومنه: الدعاوى الكيدية.

 

ومن آثار الافتراء والبهتان على الفرد والجماعة: قد يُحبس الْمُفترى عليه زُوراً وظُلْماً: فعن (بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبيهِ عنْ جَدِّهِ «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ‌حَبَسَ ‌رَجُلاً ‌في ‌تُهْمَةٍ ثُمَّ خَلَّى عنهُ») رواه الترمذي وحسَّنه.

 

ومِن آثارهِ: أنه قد يَمرض الْمَبْهُوت ظُلْماً، ويَزادُ مَرَضُه، ولا يَستطيعُ تَحَمُّلَ كذب البهَّاتين والْمُفترين، قالت عائشةُ رضي الله عنها في حادثةِ الإفكِ: (‌فازْدَدْتُ ‌مَرَضَاً على مَرَضِي) رواه البخاري ومسلم، وقد يُصدِّق بعضُ الناسِ ذلكَ البُهتان الذي أُلصقَ بذلكَ المظلوم، قالت عائشةُ رضي الله عنها في حادثةِ الإفك: (ولَئِنْ قُلْتُ لكُمْ إنِّي بَرِيئَةٌ واللهُ يَعْلَمُ إني لَبَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُوني بذلكَ) رواه البخاري ومسلم.

 

ومن آثار الافتراء والبهتان على جماعة المسلمين: ظُهور العداوات والخصومات، وكثرة القطيعة، وانقطاع وشائج المحبة، مما يُؤدي إلى عدم اطمئنان الفرد للآخر، وعدم التعامل مع الْمُفتَرَى عليه واعتزاله، مما يُهدِّدُ كَيان المجتمع المسلم ويُعرِّضُه للانهيار.

 

من صُورِ الافتراء بين الناس: الافتراء بالكذب كما في الصحيحين من حديث المتلاعنين، والافتراء بالسرقة كما في الصحيح من حديث اتهام المرأة بسرقة الوشاح، والافتراء بالادعاء والانتساب لغير الأب، قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ ‌مِنْ ‌رَجُلٍ ‌ادَّعَى ‌لغَيْرِ أبيهِ - وهُوَ يَعْلَمُهُ - إلاَّ كَفَرَ) متفقٌ عليه، ومنه الافتراء بالزِّنا، عن (عَمْرَةَ بنتِ عبدِ الرَّحْمَنِ أنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا في زَمَانِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقالَ أحَدُهُمَا للآخَرِ: واللهِ ‌ما ‌أَبي ‌بزَانٍ ولا أُمِّي بزانيةٍ، فاسْتَشَارَ في ذلكَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقالَ قائلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وأُمَّهُ، وقالَ آخَرُونَ: قدْ كانَ لأَبيهِ وأُمِّهِ مَدْحٌ غيرُ هذا، نَرَى أنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ) رواه مالك وصحَّحه الألباني، ومنه الافتراء لأخذ حقوق الناس: (عن سعيدِ بنِ زيدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، أنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ في بَعْضِ دَارِهِ، فقالَ: دَعُوهَا وإيَّاهَا، فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْراً مِنَ الأرضِ بغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ في سَبْعِ أَرَضِينَ يومَ القِيَامَةِ»، اللهُمَّ إنْ كانتْ كاذبةً ‌فأَعْمِ ‌بَصَرَهَا، واجْعَلْ قَبْرَهَا في دَارِهَا، قالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تقُولُ: أَصَابَتْني دَعْوَةُ سعيدِ بنِ زيدٍ، فبَيْنَما هيَ تَمْشي في الدَّارِ مَرَّتْ على بئْرٍ في الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فكَانَتْ قَبْرَها) رواه مسلم.

 

وأما أسباب الافتراء: العداوة بين المُفتري والْمُفْتَرَى عليه، والحسد، وقُوَّة المفتري وضعف المفترى عليه، وضعف الإيمان بيوم الحساب، وغيرها.

 

وأما طُرُق الوقاية: فمنها الإيمان باليوم الآخر، واجتناب الظلم، وقول الخير، والصدق، وغيرها.

 


"
شارك المقالة:
34 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook