الاكتفاء الذاتي

الكاتب: المدير -
الاكتفاء الذاتي
"الاكتفاء الذاتي

 

إن هدف التنمية المستدامة تحقيق الاكتفاء الذاتي لشعوب الوطن، فتصبح مكتفية بنفسها، ليست عالة على الآخرين، فإذا ملكت حاجياتها الأساسية، أو القدرة على توفير حاجاتها الأساسية، أصبحت مالكة لسيادتها وقرارها.

 

وحول مفهوم الاكتفاء الذاتي Autarcie نجد أنه يُعرّف بـ: قدرة الكائن الحي على مواجهة مشكلاته بالاعتماد على ذاته حصراً. أما في المجال الاقتصادي فيعني السياسة التي تتبعها دولة ما بهدف تحقيق اكتفائها بالاعتماد على مواردها الذاتية فقط. وقد يكون الاكتفاء الذاتي طبيعياً كما في بعض الأقاليم من البلدان المتخلفة التي تعيش في ظل اقتصاد الكفاف، أي تعيش على المنتجات التي تنتجها بنفسها من دون التعامل مع العالم الخارجي، أو يكون الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، حين توجد مناطق جغرافية صالحة بطبيعتها لتكون مناطق اكتفاء اقتصادي، وفي غنى عن الارتباط بالعالم الخارجي[1].

 

فالتنمية الحقيقية في الأساس امتداد طبيعي للنضال الوطني في سبيل الاستقلال السياسي، لأنه لا معنى للاستقلال السياسي والوطن عالة على بلدان أخرى لتوفير حاجاته الأساسية.

 

إن الواقع لدى كثير من شعوب العالم الثالث والشعوب الفقيرة، أنها تعاني من غياب التنمية، وتنتظر العون من الآخرين، وتكفي مشاهد الفقر والجوع والحروب في الدول الإفريقية والآسيوية الفقيرة، رغم ثرواتها الهائلة الطبيعية، ولكنها سوء الإدارة والتخطيط والتنفيذ.

 

لذا نبع مفهوم الاكتفاء الذاتي كأحد تجليات التنمية المستدامة، لأن هدف التنمية النهائي تحقيق الكفاية للأفراد كأشخاص، والشعب كجماعة.

 

ومن هنا يكون الاعتماد على الذات في مواجهة المعونات والقروض والاستثمارات الأجنبية، وإنهاء تقسيم المجتمع اقتصاديا بين شطر حديث يرتبط بالشركات الأجنبية ووكلائها، وشطر فقير يمثل ما يملكه أفراد الشعب من أراض وحرف تقليدية، فيأتي الاعتماد على الذات بمعنى التمحور على الذات الوطنية Self- Centered، ورفض الوصاية الأجنبية، ورفض إثراء أقلية وتهميش الأغلبية. كذلك الدعوة إلى الوفاء بالاحتياجات الأساسية للشعب، في مواجهة نزعات الترف ومظاهر الإسراف، ومراعاة التنمية البيئية Eco-Development ضد نهب الموارد الطبيعية واستنزافها، وأيضا دعم المشاركة الشعبية ضد طغيان الحكام وبطانتهم وإهدار حقوق الإنسان [2].

 

وفي سبيل ذلك، لابد من اتخاذ سياسة تنموية واقتصادية واضحة المعالم والخطوات والنهج، مع الأخذ في الحسبان أن هناك مناطق فيها الثروات الطبيعية الزراعية والرعوية، التي تحقق الاكتفاء الذاتي بشكل تلقائي، في حالة الاستغلال الطيب لمواردها، وهناك مناطق تعاني بسبب طبيعتها الجغرافية من نقص في المواد الغذائية والصناعية، وبالتالي تظل حاجتها إلى العالم الخارجي قائمة، ولكن عليها أن تكون ذات إنتاجية عالية في مجالات معينة، تتيح لها المال الكثير لاستيراد ما تحتاجه من الخارج، دون الاستدانة أو المعونات.

 

وحقيقة الأمر، فإن الاكتفاء الذاتي يبدأ من الاعتماد على قدرات المجتمع الخاصة بأفراده، فهو ليس كيانا مجرّدا، وإنما هو مجموع أفراد، وأول ما يملكه قدراتهم وملكاتهم، وهذا هو المدخل الأساسي للتنمية، فالإنسان يحتل قلب ساحة الفكر والحركة لأنه صانع التنمية الحقيقي، فموارد الطبيعة تظل جثة هامدة ما لم تمتد إليها يد الإنسان بعمله المبدع، وفكره المجدد [3].

 

كثيرة هي النظريات التي تناقش سبب التقدم، ولكنها تنطلق من مسببات مادية وتتجاهل الدافعية النفسية للفرد والجماعة، ومنها نظرية الدفعة القوية Big Push للنمو المتوازن Balanced Grouth، وترى أن التخلف الاقتصادي يعني وجود خلل جوهري في مجموعة العناصر أو النسب التي يتألف منها البنيان الاقتصادي للدولة، وهناك عوامل متعددة تسبب هذا الاختلال في الهيكل الاقتصادي للدول المتخلفة، وتكوّن ما يسمى العلاقات التبادلية المسببة للفقر والتخلف والركود، وهذا يستلزم دفعة كبيرة من الاستثمارات في قطاعات اقتصادية وصناعية، مما يكفل وضع الدولة على عتبة الانطلاق، بسبب هذه الدفعة القوية للاقتصاد، وبالطبع فإن الوفورات المالية ستكون عبر قروض وأموال سائلة موجهة من صناديق ومستثمرين أجانب، تُضَخ في شرايين الاقتصاد الوطني [4]. ويكون السؤال هنا: ماذا يحدث لو تدفقت هذه الأموال، وكانت البنية الإدارية للدولة متهالكة بفعل الفساد والبيروقراطية وغياب المشروع الوطني الشامل؟ ستكون المحصلة، مليارات الديون تثخن كاهل المواطن المسكين من الصناديق الدولية، وهروب المستثمر الأجنبي ثانية بفعل الفساد، أو لأنه قطف سريعا ما يريده من ثمار اقتصادية مستغلا جهل المسؤولين وفسادهم.

 

وهناك نظرية أخرى عكس هذه النظرية الدفعة القوية بالنمو غير المتوازن Unbalanced Grouth وترى أن سبب مشكلة التخلف غياب المنظّمين ذوي الحنكة والبصيرة والقدرة على اتخاذ القرارات الاستثمارية الجريئة سواء كانوا أفرادا أو جماعات، وفي حالة وجود هؤلاء، يستطيعون قيادة المجتمع اقتصاديا بجرأة وخبرة كبيرة [5]. وهي من شأنها أن تحدث نهضة، ولكنها نهضة محدودة، وقد يكون الفشل نصيبها في بعض القطاعات، نظرا لأنها تعتمد مثل سابقتها على الشق المادي والفردي، دون النظر إلى الدافعية النفسية والمجتمعية، التي لا بد أن تتحقق في نفس كل فرد، وأيضا في شرائح المجتمع، لكي تستجيب وتتوحد وتلبي ما تريده النخبة الإدارية.

 

أما المنظومة الإسلامية فهي تسعى إلى الاكتفاء الذاتي بالإمكانات الذاتية في الوطن، عن طريق تشجيع الادخار ومنع اكتناز المال، التزاما بقوله تعالى: ? وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?[6]، والحض على استثمار المال حتى لا تأكله الصدقة، سواء كان استثمارا في هيئة مشروعات صغيرة أو المشاركة في مشروعات كبيرة مساهمة. يتم هذا في ضوء فهم ولي الأمر ومخططي التنمية بدور رأس المال الوطني – ولو قلّ - على المال الأجنبي ولو زاد، ويقومون بتوجيه الأموال إلى أنشطة اقتصادية تحقق النماء والاكتفاء لكل أفراد المجتمع [7].

 

بذا، تكون علاقة الفروض الكفائية بالاكتفاء الذاتي علاقة ترابطية، فمادام الإنسان هو المحور في العملية التنموية، بجهده وبإبداعه وماله وتعاونه، فإن الأمر يحتاج إلى تنظيم استغلال الثروة البشرية في المجتمع، دون تمييز أو إقصاء لأفراد أو قدرات، بمراعاة أنه لا بد من الاكتفاء في التخصصات العلمية والمهنية والحرفية جنبا إلى جنب مع الاكتفاء الاقتصادي والاجتماعي.

 

ونتبنى في هذا الشأن المبدأ الاقتصادي / النفسي المسمى الدافعية Motivation، أي الدوافع التي تحمل الناس على البذل والتضحية من أجل تنمية مستقلة [8]، وهو لب ما تدعو إليه الفروض (العينية والكفائية)، حيث تحوّل الفرد والناس إلى طاقات إيجابية للعمل والإنتاج، على نحو ما تم إيضاحه من قبل، وهنا تصبح الفروض سبيل نفسي واجتماعي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي، ويستطيع كل فرد من منطلق إحساسه بالمسؤولية الدينية والوطنية أن يفكّر فيما يحتاجه مجتمعه بشكل ذاتي أو جماعي، ثم يسعى لتحقيق ذلك بمعية الدولة ومؤسسات المجتمع.

 

ومن المهم في هذا المضمار، الأخذ بنظام الأولويات عند تطبيق الفروض الكفائية تنمويا، مما يجعل خطط النهضة سائرة على أسس واضحة، عبر الاعتماد الجماعي على الذات، وبشكل متدرج، يبدأ بإنتاج الضروريات أي الأشياء التي لا يمكن أن تقوم بدونها الحياة، ثم تأتي مرتبة الحاجيات التي يمكن تحمّل الحياة بدونها ولكن بمشقة زائدة، فهي أشياء يحتاج إليها الناس لرفع الحرج والضيق والمشقة عنهم، ثم تأتي أخيرا مرتبة التحسينيات أي الأشياء التي تجعل حياة الناس أكثر يسرا وسهولة ومتعة دون إسراف أو ترف. فالمنهج الإسلامي – عبر أولوياته – يعطي أهمية كبيرة لإنتاج معظم الطيبات، التي يحتاج إليها معظم الناس لدينهم ودنياهم، ويوفّر الحياة الكريمة لكل من يعيش في ظله [9].

 

فهذا التدرج يتماشى مع مبدأ اقتصادي مهم وهو الفصل بين الحاجة والرغبة، فالحاجة ظاهرة موضوعية يضار الإنسان من عدم إشباعها، أما الرغبة فهي تعلّق نفس الفرد بالأشياء الكثيرة المختلفة التي تشبع كل من الحاجات، فعدد الحاجات محدود، أما الرغبات فلا نهاية لها [10]، وفي حالة الاكتفاء الذاتي نبدأ بالحاجات الأساسية، ومن ثم نتدرج في الرغبات.

 

ويجدر بالذكر، أن الرؤية الإسلامية في الاكتفاء الذاتي لا تقف عند الدولة الوطنية القطرية، وإنما يمتد بصرها إلى تحقيق التكافل والتعاون بين سائر الدول الإسلامية، وتدعيم مبدأ التكامل الاقتصادي في المنتجات، وبدلا من الاعتماد على الدول الأجنبية غير المسلمة، يكون من باب أولى التكامل والاعتماد على الأقطار المسلمة بحكم عوامل كثيرة أهمها: الدين والتاريخ والجغرافيا... إلخ.

 

من ناحية أخرى، يمكن لكل فرد في المجتمع أن يفكر في المشروعات الإنمائية الصغيرة جنبا إلى جنب مع المشروعات الكبيرة، فتصبح ملايين المشروعات وفقا لاحتياجات أفراد المجتمع، بجانب مشروعات الملايين كثيفة العدد، وتتماشى في سبيل ذلك مع متطلبات المجتمع، ومواهب الأفراد[11].

 

وقد رأينا في دول العالم المتقدم كيف أن الأفكار والمخترعات الفردية ساهمت في تحوّل المجتمع ونهضته، وكانت سببا في توفير ملايين فرص العمل للشباب، ومثال لذلك اختراع الحاسوب الشخصي وبرامج النوافذ Windows التي اخترعها الشاب الأمريكي بيل غيتس Bill Gates في بداية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، واستطاع أن يحول الحاسوب من جهاز يستخدم كشبكة في الجيش الأمريكي، إلى جهاز شخصي، فاتحا المجال للولوج في عالم البرمجيات، الذي جعله الرقم الأول في قائمة أغنى أغنياء العالم حتى يومنا، ووفر ملايين من فرص العمل والابتكارات الحاسوبية للناس جميعا [12].

 

ومن ثم يبدأ التيار التعميري الكفائي يسري في الجسد المتخلف، ويظهر أثر التسرب الإنمائي في كافة قطاعات الاقتصاد، وينعكس ذلك على الأداء فيزداد كفاءة، ويشع على الإنتاجية فتزداد ارتفاعا، وعليه تحدث النهضة من الأساس أو من القاعدة أي الإنسان لتعم به ومن أجله كافة جوانب الحياة، ووفقا لهذا المنهج واستنادا إلى فرض الكفاية وفي إطار نظام الأولويات الإسلامي، وفي حدود الاستطاعة البشرية والإمكانيات المادية، يتم القيام بالجهد الإنمائي من أجل الاكتفاء الذاتي، وعلى أسس من التكامل والتوازن والتدرج، تكون الجهود في كافة القطاعات: مؤسسياً (القطاع العام والخاص)، وإنتاجيا في القطاعات السلعية والخدمية، وفي الزراعة والصناعة، والنهوض بالصناعات الثقيلة والاستهلاكية، ويتم هذا وفق برامج إنمائية ومترابطة ومتناسقة من حيث الأهداف والوسائل وواقعية من حيث الإمكانات والقدرة على التنفيذ [13].

 

وخلاصة القول: إن الاكتفاء الذاتي غاية التنمية بشكل عام في سائر المجتمعات الإنسانية، وإليها يهدف المخطط الاستراتيجي. ولكن تتميز المجتمعات الإسلامية بكونها تطمح إلى الاكتفاء الذاتي كمبدأ اقتصادي، بأبعاده الإنسانية التي تكفل الحياة الكريمة لكل أفراد المجتمع، وفق الأسس الشرعية التي وضعها الاقتصاد الإسلامي، والتي ستؤدي حتما – في حالة الالتزام بها – إلى الحفاظ على مقاصد الشريعة وكلياتها الخمس هذا على مستوى الأفراد، وتحقيق استقلال المجتمع المسلم على مستوى الجماعة الوطنية المسلمة، ونهوض الأمة الإسلامية وإقامة الاستخلاف الإنساني.




[1] الموسوعة العربية، إصدار: الجمهورية العربية السورية، دمشق، المجلد الثالث (العلوم القانونية والاقتصادية )، ص102.

[2] الكوكبة والتنمية المستقلة والمواجهة العربية لإسرائيل، د. إسماعيل صبري عبدالله، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2007، ص185.

[3] السابق، ص186.

[4] التنمية الاقتصادية الشاملة من منظور إسلامي، د. فرهاد محمد علي الأهدن، دار التعاون للطبع والنشر، القاهرة، ط1، 1994م، ص49- 52.

[5] السابق، ص52-53.

[6] سورة التوبة، الآية 34.

[7] السابق، ص89، 90.

[8] الكوكبة والتنمية المستقلة والمواجهة العربية لإسرائيل، ص186.

[9] المنهج الإسلامي للتنمية، د. عبد الحميد الغزالي، م س، ص73، 74.

[10] الكوكبة والتنمية المستقلة والمواجهة العربية لإسرائيل، ص 187.

[11] المنهج الإسلامي للتنمية، ص75.

[12] Bill Gates - A Story of Success

[13] المنهج الإسلامي في التنمية، ص76، 77.


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook