التوازن والوسطية في الحضارة الإسلامية

الكاتب: المدير -
التوازن والوسطية في الحضارة الإسلامية
"التوازن والوسطية في الحضارة الإسلامية




من أهم خصائص الحضارة الإسلامية أنها حضارة التوازن والوسطية بحيث جمعت بين العلم والدين وبين الروح والمادة ولم تفرِّق بين الدنيا والآخرة، وهذا في حقيقة الأمر يميِّزها عن الحضارات الأخرى التي أكثر ما عنيت بالجانب المادي من الحياة، والجانب الجسدي والغريزي من الإنسان، فجعلت إشباع اللذات العاجلة من الدنيا أكبر همَّها ومبلغَ علمها، ولم تجعل لله ولا للآخرة مكانًا مذكورًا في فلسفتها وفى نظامها الفكري والتعليمي.

 

فالحضارة الإسلامية قد وصلت الإنسان بالله، وربطت الأرض بالسماء، وجعلت الدنيا للآخرة، ومزجت الروح بالمادة، وحرصت على السُّمُوِّ الأخلاقي حِرصها على الرُّقِيِّ المادي. ولذلك كانت –بحق- حضارة روحية مادية، مثالية واقعية، ربانية إنسانية، أخلاقية عمرانية، فردية جماعية، أي: كانت حضارة التوازن والوسطية، التي قامت عليها أمة وسط، كما وَصَفَهَا الله تعالى في قوله: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ? [البقرة: 143].

 

ومن هنا كان من مظاهر الحضارة الإسلامية أنها استطاعت أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا في جميع الشعوب التي خضعت للدولة الإسلامية، بل إن الثقافة الإسلامية قد طغت على الثقافة الأصلية للشعوب التي انتشرت فوق ربوعها راية الإسلام. ومن أعجب العجائب أن يتم هذا التحول الفكري العظيم بدون إكراه أو إجبار، ولهذا نجد كثيرًا من الباحثين يأخذهم العجب حين يجدون أن ما عجز عنه الأغارقة والفرس والرومان عندما خضع لهم الشرق، قد قدر عليه المسلمون، فتلك الحضارات التي أخضعت الشرق لها، لم تستطيع أن تؤثر في عقائد الشعوب ولا في لغاتها، ولا في ثقافتها، في حين أن المسلمين قد استطاعوا أن ينشروا حضارتهم وثقافتهم ودينهم ولغتهم في البلاد التي فتحوها، وأصبحت هذه الشعوب فيما بعد تنشر رسالة الإسلام، وتدعو بدعوة القرآن، وتتكلم بلغة العرب والإسلام.

 

وقد أشار العالم الفرنسي الشهير الدكتور (غوستاف لوبون) إلى هذه الظاهرة بقوله: ومن ذلك أن مصر الذى كان يلوح أنها أصعب أقطار العالم إذعانًا للمؤثرات الأجنبية، نسيت في أقل من قرن واحد مرَّ على فتح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها الذى دام نحو سبعة آلاف سنة، معتنقة دينًا جديدًا، ولغةً جديدة، وفنًّا جديدًا، اعتناقًا متينًا دام بعد تواري الأمة التي حملتها عليه[1].

 

وترجع هذه النتائج المذهلة التي حققتها الحضارة الإسلامية إلى عدة أمور، منها: مصدرها الإلهي، ومقوماتها الفكرية، ونزعتها الإنسانية، وشمولها الثقافي، وحيويتها النابضة، ومنهجها العلمي، مما جعلها تُمثِّل الأمل الذى كانت الشعوب تتطلع إليه، ولذلك ارتضت الشعوب المختلفة – ذات الحضارات المتباينة - أن تتخلى عن ثقافتها الأصلية وعقائدها السابقة، وتدخل في الإسلام فتكون عقيدته دينًا لها، وتكون تعاليمه لها شريعةً ومنهاجًا، وتكون لغة القرآن هي لغتها الأصلية.

 

ومن خصائص الحضارة الإسلامية أنها أشاعت روح العدل والإنصاف والتسامح بين الناس، وكان من ثمرات ذلك أن يتعايش الناس – ذو العقائد المختلفة والأجناس المتباينة - متجاورين، يسودهم الأمن والسلام والمحبة، فتجاور المسجد والكنيسة والمعبد في كل قُطرٍ، بل في كل مدينة إسلامية، وليس ذلك إلا لأن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف تقول: إنه لا يجوز إجبار أحد على تغيير دينه ومعتقده، فحرية الاعتقاد مكفولة في ظل النظام الإسلامي، والله تعالى يقول: ? لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة: 256].

 

وبعد هذا العرض السريع لأسس وخصائص الحضارة الإسلامية، نجد أنه من الضروري في هذا المقام أن يشهد للإسلام من ليس بمسلم... فهذا تصريح لولى العهد البريطاني (الأمير تشارلز). في خطاب ألقاه بجامعة أكسفورد. حيث قال: إذا كان هناك سوء فهم في الغرب حول الإسلام وطبيعته، فيجب القول إن هناك كثيرًا من الجهل أيضًا حول حجم دين ثقافتنا وحضارتنا للحضارة الإسلامية، وفى اعتقادي إن هذا الفشل نشأ من حقيقة الصراع مع الإسلام، ولأننا كنا ننظر إلى الإسلام كعدو للغرب وكثقافة غريبة عنا، فإننا تجاهلنا الحضارة الإسلامية وأهميتها لتاريخنا[2].

 

وإن صدر هذا الكلام عن ولى عهد بريطانيا في زماننا هذا، فقد كان لتقدم العرب المسلمين في كل فروع العلوم في الأندلس شأوًا بعيدًا مما دفع ملك إنجلترا أن يكتب للخليفة (هشام بن الحكم) في قرطبة (366-399هـ) - أي في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - ما نصه: (صاحب العظمة هشام.. بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقى العظيم الذى تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يجتاحها الجهل بين أركانها الأربعة.. وقد وضعنا ابنة شقيقنا (دوبانت) على رأس بعثة بنات الإنجليز لتشرف بكم في ظل عرشكم والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة وقد أرفقت مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص).. من خادمكم جورج[3].

 

فما أشبه الحفيد بالجد الأكبر وولى العهد بالملك ذاته، ولما لا وقد بلغت حضارة الأندلس الإسلامية ذروتها، فكان الازدهار العلمي والثقافي مستمرًّا في الحواضر العلمية التي تدور في ذلك كقرطبة وأشبيلية وسرقسطة، حيث سجل التاريخ تقدم الأندلس في فنون الزراعة والطب والرياضيات والهندسة والصناعة وأيضًا في التعدين والعمران، وآثارهم شاهدة الآن على ذلك[4].

 

إن الحضارة الإسلامية كانت البوتقة التي انصهرت فيها المعرفة الإنسانية السابقة على الإسلام والمواكبة له في الصين والهند وفارس، فأقام الإسلام حضارة عظيمة، وطور العلماء المسلمون العلوم، وأضافوا إليها فروعًا جديدة مثل الجبر والبصريات والجراحة والكيمياء وغيرها، وبينما أطلق علماء عصر النهضة الأوروبية على تاريخ قارتهم إبان العصور الوسطى العصور المظلمة كانت ديار الإسلام بحق هي منارة العلم والمعرفة في القرون الوسطى، في بغداد والأندلس والقاهرة وصقلية، وكانت اللغة العربية هي لغة البحث العلمي والتأليف (800-1400م)، كما هو الحال للغة الإنجليزية الآن[5].

 

ويقول الباحث (عبد المنعم أحمد)[6]: إن الغرب ينظر إلى الحضارة المادية، ولكن الحقيقة أن كل حضارة تقوم على عنصرين أساسين.. أخلاقية ومادية.. كلاهما بوتقة واحدة.. إذا غابت الحضارة الأخلاقية، فلابد في يوم ما، أن تزول الحضارة المادية.. فالإسلام ربط بين العنصرين.. [7].

 

وردًّا على (هنتنجتون)[8]، وغيره: إن الحضارات غير الغربية متخلفة، وتعوق تطور المجتمع إذ ليس بها عناصر صالحة للبقاء.. ولكى تتقدم هذه الشعوب عليها أن تتخلى جبرًا عن حضارتها وأن تلم بالحضارة الغربية؛ لأنها أكثر صلاحية من الإسلامية، ومن الأرثوزكسية والبوذية... ليس هناك حضارة غير البروتستنتية... يقول الدكتور (صوفى أبو طالب) - أستاذ القانون في مصر -: هذا فكر عنصرى بغيض، فالتاريخ والعلم يؤكدان عِظَم الحضارة الإسلامية فحتى حلول القرن 17كانت اللغة العربية – وهى لغة الحضارة الإسلامية – هي لغة العلم في أوروبا، بل وفى العالم.. والغرب يعترف ولا ينكر.. ويكفى أنه في مدخل السوربون بجامعة باريس تمثالان: أحدهما (لابن رشد)، والآخر (لابن سينا)، وتخصص الجامعة الفرنسية أرفع وسامين لابن رشد وابن سينا.. اعترافًا بفضلهما وفضل علماء العرب على أوروبا.. وبفضل قوة الدفع الحضارية الهائلة للإسلام، فلقد استوعب العرب والمسلمون علوم الفرس والإغريق والرومان.. وصححوا وزادوا عليها.. فصنعوا حضارة إسلامية قامت على أكتافها حضارة الغرب حتى القرن 17[9].

 

ويقول المؤرخ الأمريكي (ول ديورانت)[10]: ويدين علم الجبر، الذي نجد أصوله في مؤلفات (ديوفانتوس Diophantus) اليوناني من رجال القرن الثالث باسمه إلى العرب، الذين ارتقوا بهذا العلم الكاشف للخبايا، الحلال للمعضلات. وأبرز الشخصيات في هذا الميدان العلمي هي شخصية (محمد بن موسى) (780-850) المعروف بالخوارزمي.. وقد كتب الخوارزمي رسائل قيمة في علوم خمسة: كتب عن الأرقام الهندية، وجمع أزياجًا فلكية، ظلت قرونًا كثيرة بعد أن روجعت في بلاد الأندلس الإسلامية هي المعمول بها في جميع البلاد الممتدة من قرطبة إلى شنغان في الصين؛ وهو الذي وضع أقدم الجداول المعروفة في حساب المثلثات.. وأورد في كتابه حساب الجبر والمقابلة حلولًا تحليلية وهندسية لمعادلات الدرجة الثانية.. وقد ترجمه (جرارد الكريمونائي Gerard of Cremona) في القرن الثاني عشر، وظلت ترجمته تُدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر، ومنه أخذ الغرب كلمة الجبر وسموا بها ذلك العلم المعروف.

 

وكذلك اشتهر (ثابت بن قرة) (826-901)، فضلًا عما ترجمه من الكتب الكثيرة، بمؤلفاته في الفلك والطب، وأصبح أعظم علماء الهندسة المسلمين، وكذلك ارتقى (أبو عبد الله البتاني) (850-929) الذى يُعرف عند الأوربيين باسم البتجنس Albategnus، بعلم حساب المثلثات إلى أبعد من مبادئه التي كان عليها في أيام هبارخوسن وبطليموس، وذلك حين استبدل المثلثات بالمربعات في حل المسائل واستبدل جيب الزاوية بالقوس كما كان يفعل هبارخوس. وهو الذي صاغ في حساب المثلثات النسب بالصورة التي نستخدمها الآن في جوهرها.

 

وكتب (الفرغاني) (حوالي عام 860) - كتابًا في الفلك ظل مرجعًا تعتمد عليه أوربا وغرب آسيا سبعمائة عام.. وأوسع منه شهرة البتاني الذي ظل واحدًا وأربعين عامًا يقوم بأرصاد فلكية اشتهرت بدقتها واتساع مداها. وقد وصل بهذه الأرصاد إلى كثير من المعاملات الفلكية تمتاز بقربها العجيب من تقديرات هذه الأيام.. وهذا الاهتمام العظيم بتصوير السماء قد فاقه اهتمامهم بتصوير أقاليم الأرض لأن المسلمين كانوا يعيشون على فلح الأرض وعلى التجارة في أقاليمها المختلفة. فقد (حمل سليمان التاجر) - الذي عاش حوالي عام (851) - وصفًا لرحلته، كان هو أقدم وصف عربي لبلاد الصين، وكتبه قبل رحلات (ماركو بولو Marco Polo) بأربعمائة وخمسة وعشرين عامًا.

 

وفي ذلك القرن نفسه كتب (ابن خردذيه) وصفًا لبلاد الهند، وسيلان، وجزائر الهند الشرقية، وبلاد الصين، ويبدو أنه اعتمد فيما كتب على رحلاته في تلك البلاد وما شاهده فيها بنفسهِ... ووصف (ابن حوقل) بلاد الهند وإفريقية، وكتب أحمد اليعقوبي، من أهل أرمينية وخرسان في عام (891) كتاب البلدان الذي وصف فيه الأقطار والمدن الإسلامية وكثيرًا من الدول الأجنبية وصفًا خليقًا بالثقة... وزار (محمد المقدسي) جميع البلاد الإسلامية فضلًا عن بلاد الأندلس، ولاقى في أثناء رحلاته كثيرًا من الشدائد، ثم كتب عام (985)كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، وهو أعظم كتاب في معرفة جغرافية البلاد الإسلامية قبل كتاب البيروني عن الهند[11].

 

ويواصل (ديورانت) قائلًا: ويمثل (أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني) (973-1048م) العالِم الإسلامي في أحسن صورة له. فقد كان البيروني فيلسوفًا، مؤرخًا، ورحالة، وجغرافيًا، ولغويًا، ورياضيًا، وفلكيًا، وشاعرًا، وعالمًا في الطبيعيات، وكانت له مؤلفات كبيرة وبحوث عظيمة مبتكرة في كل ميدان من هذه الميادين. وكان عند المسلمين كما كان (ليبنتز)، ويوشك أن يكون كما كان (ليوناردو دافنشي)، عند الغربيين.. ويكاد المسلمون يكونون هم الذين ابتدعوا الكيمياء بوصفها علمًا من العلوم.. وكان أشهر الكيميائيين المسلمين جابر بن حيان (702-765) المعروف عند الأوربيين باسم جيبير Gebir. وكان (جابر بن حيان) كوفي، اشتغل بالطب.. وقد ترجم كثير من المؤلفات إلى اللغة اللاتينية. وكان لها الفضل في تقدم علم الكيمياء في أوروبا، ولم يكن لدينا إلا القليل من بقايا علم الأحياء عند المسلمين في ذلك العصر. ومن هذه الآثار كتاب النبات (لأبي حنيفة الدينوري) الذي رجع فيه إلى مؤلفات (ديوسقوريدس) ولكنه أضاف فيه إلى علم الصيدلة عقاقير أخرى كثيرة.. وكان من أقوى فروع الطب الإسلامي هو الطب العلاجي وخواص العقاقير الطبية.. وكان من أهم الأعمال التجارية بين إيطاليا والشرق الأدنى استيراد العقاقير العربية. وكان المسلمون أول من أنشأ مخازن الأدوية والصيدليات، وهم الذين أنشأوا أول مدرسة للصيدلة، وكتبوا الرسائل العظيمة في علم الأقرباذين. وكان الأطباء المسلمون عظيمي التحمس في دعوتهم إلى الاستحمام، وخاصة عند الإصابة بالحميات، وإلى استخدام حمام البخار؛ ولا يكاد الطب الحديث يزيد شيئًا على ما وصفوه من العلاج للجدري والحصبة،.. وأعظم أطباء العيون المسلمين هو (على بن عيسى)، وقد ظل كتابه (تذكرة الكحالين) يدرس في أوربا حتى القرن الثامن عشر[12].

 

وأشهر أطباء هذه الأسرة الرحيمة عن بكرة أبيها هو (أبو بكر محمد الرازي) (844-926) والذى اشتهر بين الأوربيين باسم (رازيس Rhases)... وقد ألف 131 كتابًا نصفها في الطب.. ومن أشهر كتبه كتاب الحاوي وهو كتاب في عشرين مجلدًا، ويبحث في كل فرع من فروع الطب. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية وسمي Liber cntinens، وأغلب الظن أنه ظل عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض، وكان من الكتب التسعة التي تتألف منها مكتبة الكلية الطبية في جامعة باريس عام 1394م. وكانت رسالته في الجدري والحصبة آية في الملاحظة المباشرة والتحليل الدقيق، كما كانت أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين هذين المرضين...

 

وفي وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه الرسالة من بالغ الأثر واتساع الشهرة إذا عرفنا أنها طبعت باللغة الإنجليزية أربعين مرة بين عامي 1498، 1866... وأشهر كتب (الرازي) كلها كتاب طبي في عشر مجلدات يسمى كتاب المنصوري أهداه إلى أحد أمراء خرسان. وقد ترجمه (جرار الكريمونى) إلى اللغة اللاتينية. وظل المجلد التاسع من هذا الكتاب وهو المعروف عند الغربيين باسم (Nonus Almansoris) متداولًا في أيدي طلاب الطب في أوربا حتى القرن السادس عشر.. ولقد كان الرازي بإجماع الآراء أعظم الأطباء المسلمين وأعظم علماء الطب السريري (الإكلينيكي) في العصور الوسطى... وقد علقت في مدرسة الطب بجامعة باريس صورتان ملونتان لطبيبين مسلمين هما: (الرازي وابن سينا)... وكان (أبو علي الحسين بن سينا) (980-1037) أعظم فلاسفة الإسلام وأشهر أطبائه، وتشهد سيرته التي كتبها بيدهِ بكثرة ما كان يحدث في العصور الوسطى من تقلب في حياة العلماء والحكماء.. وقد تعلم الطب من غير مدرس، وأخذ وهو شاب يعالج المرضى من غير أجر، وشَفى وهو في السابعة عشر من عمرهِ (نوح بن منصور) أمير بخارى من مرضهِ[13].

 

وقد ترجم كتاب إقليدس في الهندسة ووضع عدة أزياج فلكية، وابتكر آلة شبيهة بالورنية المعروفة عندنا اليوم. وله دراسات مبتكرة في الحركة، والطاقة، والفراغ، والضوء، والحرارة، والكثافة النوعية. وله رسالة في المعادن بقيت حتى القرن الثالث عشر أهم مصادر علم طبقات الأرض عند الأوربيين... ولابن سينا كتابان يشتملان على تعاليمهِ كلها، أولهما: (كتاب الشفاء) شفاء النفس، وهو موسوعة في ثمانية عشر مجلدًا في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة، وعلوم الدين، والاقتصاد، والسياسة، والموسيقى؛ وثانيهما: (كتاب القانون) في الطب، وهو بحث ضخم في وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، والعلاج، والأقرباذين، وهو حسن التنسيق يرقى في بعض الأحيان إلى درجة كبيرة من البلاغة... وحل كتاب (القانون) بعد أن ترجم إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر محل كتب (الرازي وجالينوس)، وأصبح هو الذي يعتمد عليهِ في دراسة الطب في المدارس الأوربية. وقد احتفظ فيها بمكانتهِ العالية، وظل الأساتذة يشيرون على الطلاب بالرجوع إليه في جامعتي منبلييه ولوفان إلى أواسط القرن السابع عشر[14].

 

وجملة القول أن (ابن سينا) أعظم من كتب في الطب في العصور الوسطى، وأن الرازي أعظم أطبائها، (والبيروني) أعظم الجغرافيين فيها، وابن الهيثم أعظم علمائها في البصريات، (وجابر بن حيان) أعظم الكيميائيين فيها. تلك أسماء خمسة لا يعرف عنها العالم المسيحي في الوقت الحاضر إلا القليل، وإن عدم معرفتنا إياها ليشهد بضيق نظرتنا وتقصيرنا في معرفة تاريخ العصور الوسطى. وليس في وسعنا مع هذا أن نحاجز أنفسنا عن القول بأن العلوم العربية كثيرًا ما تلوث بالأوهام شأنها في هذا شأن سائر العصور الوسطى وأن تفوقها جميعًا - عدا علم البصريات - يرجع إلى التركيب والبناء من النتائج التي تجمعت لديها أكثر من تفوقها في الكشوف المبتكرة أو البحوث المنظمة؛ لكنها مهما يكن قصورها في هذه الناحية قد نمت في علم الكيمياء الطريقة التجريبية العلمية، وهي أهم أدوات العقل الحديث وأعظم مفاخره. ولما أن أعلن (روجر بيكون) هذه الطريقة إلى أوربا بعد أن أعلنها جابر بخمسمائة عام كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبسًا من نور المسلمين في الشرق[15].

 

وبعد عرضنا لبعض ما قاله (ول ديورانت) لا ننسى أن نذكر قول المؤرخ الغربى) (Perler في كتابه (التطور الفكري في أوروبا): أريد أن أُعرب عن نقمتي وأسفي الشديد للطريقة المنظمة لإخفاء فضل المسلمين علينا في العلوم الكونية، لقد ترك العربي المسلم طابعه الفكري في أوروبا وكُتبه لا تمحى.... وها هي شهادة حق أخرى ذكرها (روجر بيكون) في أكسفورد: إن وجود الفكر الأوروبي كان مستحيلًا لولا وجود المعارف العربية، لقد دعيت أوروبا فجأة إلى الحياة بعد أن ظلت في ظلمات الجهل خمسة قرون، وهى مدينة للعالم الإسلامي[16]... وكذلك جاء المستشرق (كريستوفر داوسون) في كتابه أصول (أوروبا والمدنية الأوروبية).. ليقول: وعن العرب أخذت أوروبا الغربية الأصول العلمية.. وكانت الحركة العلمية في العالم لأكثر من أربعة قرون بأيدي الشعوب الإسلامية، ويرجع الفضل إلى الإسلام نفسه[17]... وفى هذا الصدد يقول (مارسيل بوازار): إن الموضوعية التاريخية، بل مجرد العدل يدفع إلى التذكير بأن الحضارة التي تعهدت الثقافة المتوسطية خلال القرون السابعة التي تتألف منها القرون الوسطى كانت الحضارة الإسلامية[18].

 

ويشير (محمد أسد)[19] إلى أن الإسلام دفع المسلمين الأوائل إلى أعلى قمم الحضارة عندما سهل عليهم فهمه واستيعاب حقيقة الخلق ومفهوم الرب، فلم يطلب منهم فهم حقائق صعبة بعيدة عن المنطق البشرى، لذا لم تدفعهم الرغبة في المعرفة -التي عرف بها المسلمون في صدر الإسلام- إلى الدخول في معارك فكرية ضد الدين كما حدث مع أمم أخرى، بل على العكس من ذلك فقد أصَّل الإسلام الرغبة في المعرفة وجعلها فرضًا أساسيًا من فروض الدين حيث يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم [20]، فأيقن المسلمون أنه عن طريق العلم وحده يمكنهم عبادة ربهم حق عبادته، فعندما يقرأ المسلمون قول الرسول الكريم: ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله[21]، يدركون أن البحث العلمي مطلوبًا للوصول إلى الدواء، وأن البحث سيساعد الإنسان على تطبيق مشيئة الله على الأرض، ومن ثَم اكتسب البحث العلمي قداسةَ لارتباطه بالفروض الدينية، ويقرأ المسلمون في القرآن قول لله تعالى: ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ? [الأنبياء: 30]، فتدفعهم الرغبة في فَهم هذه الآيات إلى البحث في الكائنات الحية وتطورها فينشأ من أبحاثهم علم الأحياء.

 

ويشير القرآن إلى التناغم بين النجوم وحركتها كدليل شاهد على عظمة الخالق، فيدفع البحث في هذه المجالات المسلمين إلى وضع أساسيات علوم الرياضيات والفلك.

 

فالإسلام يخرج بمفهوم العبادة من قالب الصلاة إلى أفق البحث والمعرفة، بينما ينحصر مفهومها في الأديان الأخرى في مفهوم ضيق... وفى القرن السادس عشر عندما عرفت أوربا نظام المجموعات الشمسية ودورانها حول الشمس عادته* الكنيسة واعتبرته مخالفًا للإنجيل، في حين أن المسلمين كانوا قد وصلوا إلى معرفة نظام المجموعة الشمسية، واستطاع علماء الفلك المسلمون إثبات أن الأرض كروية وعرفوا حقيقة دورانها حول محورها منذ أكثر من ستة قرون، أي: في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين[22].

 

ويعزى محمد أسد تفوقهم هذا إلى اتباعهم لِهَدْى النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث حثَّهم على العلم قائلًا: مَن التمس طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة[23]، وكذلك: إنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم[24]،... ويخلُصُ (أسد) أنه نظرًا لهذا الفهم لدور الدين في الحياة نَبغَ العلماء المسلمون وتألقت الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى، أي: في الخمسة قرون الأولى من بعثة النبي، وأصبحت الدولة الإسلامية هي أرض الحضارة والأمان.

 

وإجمالًا للقول يمكن أن نخلُص إلى: أن الإسلام قد وفر مقومات ازدهار الحضارة التي سطرت صفحة من أعظم صفحات التاريخ الإنساني.. حيث وجد مسيحيو سوريا وشمال إفريقيا وتبعهم في ذلك أهل إسبانيا - الذين كانوا يتبعون مذاهب بولين وقسطنطين - وجدوا أنفسهم لأول مرة أمام أفكار تتعارض مع فكرة الخطيئة الأولى ومبدأ دونية الحياة على الأرض، ومن ثَم فقد دخلوا بأعداد متزايدة في هذه العقيدة الجديدة التي أتاحت لهم فهم حقيقة أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض.. ويرى (أسد) أن هذا المفهوم في حد ذاته هو أحد أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية في أول عهدها[25].




[1] الإسلام والغرب /د. صفوت مصطفى خليلوفيتش ص 106.

[2] إسقاط نظرية صراع الحضارات/ عزيز فهمى. ص234.

[3] النهضة العلمية والفكرية عند المسلمين وأثرها في التنوير الأوروبي/ عبد المنعم أحمد ص21-نقلا عن (الاستذكار/ ابن عبدالبر).

[4] النهضة العلمية بتصرف.

[5] إسقاط نظرية صراع الحضارات/ عزيز فهمى ص 236.

[6] رئيس التوجيه العلمي بالأزهر.

[7] النهضة العلمية ص14.

[8] أمريكي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد.

[9] النهضة العلمية ص13.

[10] مؤرخ أمريكي، صاحب مجموعة قصة الحضارة.

[11] قصة الحضارة/ول ديورانت/ترجمة محمد بدران (المجلد السابع ج13 طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ص185:181).

[12] قصة الحضارة ص188-191.

[13] قصة الحضارة. ص192، 196.

[14] قصة الحضارة ص196.

[15] النهضة العلمية ص24،25.

[16] النهضة العلمية ص24،25.

[17] المرجع السابق. ص34

[18] نبوة محمد. ص210-نقلًا عن (إنسانية الإسلام/مارسيل بوازار).

[19] هو(ليوبلد فايس) نمساوى، عمل مراسل صحيفة فرانكفورت زيوتنج الألمانية عن منطقة الشرق الأوسط.

[20] شُعَب الإيمان؛ للبيهقي.

[21] سنن البيهقي.

[22] الإسلام والغرب /د. صفوت خليلوفيتش. ص -66 نقلًا عن. [ The road to Mecca 192]/ محمد أسد.

[23] صحيح مسلم.

[24] الآداب للبيهقي.

[25] الإسلام والغرب - نقلًا عن. [ The road to Mecca 192]. / محمد أسد.


"
شارك المقالة:
24 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook