التوحيد في معاملة الناس

الكاتب: المدير -
التوحيد في معاملة الناس
"التوحيد في معاملة الناس

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

رب أصلح لي قلبي ونيتي؛

إن العبد إذا هان عليه أمر الله تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، ضيع حقوق ربه عز وجل، فحقوق الخلق باللزوم، فغفل قلبه عن الله، وأهمل ذكره وعبادته والتوجه إليه، واتبع هواه وآثره على مرضاته سبحانه وجعله قبلته، وكانت طاعة المخلوق عنده أهم من طاعة خالقه، فتجده يقدم قول شيخ الطائفة وصاحب المال والمنصب والسلطان على قول الله ورسوله، بل ويتفانى في خدمتهم والتودد إليهم بجد واجتهاد بما لا يكون مثله ولا حتى عشره في معاملته لله ورسوله، فلله ورسوله الفضلة من قلبه وقوله وعلمه وعمله وحاله إن وجدت، فالدنيا قد أحاطت به من كل جانب وابتلعته، وهواه المهم عنده قد خامر روحه وسجنه في سكرة أعظم من سكرة العقول بالخمور، وغلب طبعه فعلا الظلم والجهل قلبه، يعتدي على الخلق، ويتجرأ على محارم الله سرا وعلانية، ويغتر بعظم حلمه سبحانه، وينسى أخذ العزيز المقتدر، ويستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته وتحت قدرته وقهره، وجميع أموره بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويفرح به ويكد من أجله، ويستحيي من الخلق ولا يستحيي من الله، ويخشى الخلق ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، بل يزيد من عنده، فيفرغ لهم قلبه وجوارحه، ويعطيهم كل وقته بحيث يقدمهم على كثير من مصالحه، وحتى على حساب نفسه وماله وولده، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، بخيلا شحيحا في البدل من أجله، عاجزا متكاسلا في خدمته إن قام إليها، مقصرا متخاذلا في نصرة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مقدما له وهو ربه ومليكه ما يستحيي أن يقدمه لمخلوق مثله، غافلا عن نصح نفسه، منصرفا عن الأخذ على يد غيره، تاركا للفساد كي يستفحل وللبدعة والإلحاد كي تعلو وتظهر، بل معينا عليه ابتغاء العلو في الأرض بغير حق، فلا حول ولا قوة إلا بالله، هل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل وحد الله حق توحيده من هذه حاله؟ وهذا المسكين إن لم يتداركه ربه الرحمن برحمة من عنده فمآله إلى الشقاوة والبوار والخسران لا محال.

 

والمقصود أن السعادة كل السعادة في القيام بحقوق الله عز وجل وحقوق الخلق، فتكون مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس، فتعامل الناس لله تعالى، فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافئتهم أو مدحهم وابتغاء المنزلة عندهم، وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم ولا خوفاً من ذمهم وعداوتهم، كما جاء في الأثر: ارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، فافعل ما أمرت به وإن كرهوه واجتنب ما نهيت عنه وإن أحبوه، فلا تأخذك في الحق لومة لائم ولا عذل عاذل.

 

وفي الحديث: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله أو تذمهم على ما لم يؤتك الله [ضعيف] فإن لليقين مقامين: الأول في القيام بأمر الله وابتغاء محابه ومراضيه وما وعد الله به أهل طاعته، والآخر في اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره وأنه ما شاء الله كان، ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا: لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم من الدنيا من مال أو منصب، راغبا فيما عندهم، راجيا منهم في تحصيله، أو اتقاء مكروه متوقع منهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله ونهيهم عما يقترفونه من المنكر لما يرجوه أو يخافه منهم، وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فيجد الكسل والعجز والجبن منفذا إلى قلبه ومستقرا فيه، فإنك إذا أرضيت الله نصرك وأيدك ووالاك، ورزقك وكفاك مؤنتهم، فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاء لهم؛ وذلك من ضعف يقينك وقدح في توحيدك وإيمانك بأن الله هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل.

 

وليس في الخلق سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه، وانتفاء مانع يمنع تأثيره، وهذا في الأسباب الكونية والغيبية والمعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهّار، فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه كل سبب دون الله فسببيته من الله خالق السبب والمسبب لا من نفسه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فالحول والقوة التي يرجى لأجلهما المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة لا يشركه فيها غيره، فكيف يخاف ويرجى من لا حول له ولا قوة، بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، بل وكثيرا ما تخذل من جهته، فما شاء الله كان ولا بد وما لم يشأ لم يكن ولو اتفق عليه من بأقطارها، فإذا لم يقدر لك ما تظن أن الخلق يفعلونه من أجلك فالأمر في ذلك إلى الله وحده لا لهم، وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا لأحد من الناس ولا حتى لأنفسهم، فإذا لمتهم وذممتهم على ما لم يقدره الله تعالى كان ذلك من ضعف يقينك ونقصان إيمانك بقدر الله، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك؛ لكن من حمده الله ورسوله فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

وفي حديث عائشة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا ولفظ الموقوف: من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم، فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثم تكون العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها، وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان من أهل التقوى والصلاح، والله يتولى الصالحين ويكفيه مؤنة الناس بلا ريب مصداقا لقوله تعالى: ? وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ?، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه: فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا خلوا من العناد وسلموا من الأغراض وبانت لهم العاقبة وهو أمر عزيز اليوم، لكن قد يكون في بعض الناس وإن كانوا قلة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذي يعض على يديه: ? يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلًا ?، وأما كون حامده ينقلب ذاماً: فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم وهو سبحانه أعلم.

 

قال عمر بن الخطاب المحدث الملهم رضي الله عنه: فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس فيه شانه الله، فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه، فإن كان الله مع العبد فمن يخاف وإن لم يكن معه فمن يرجو وبمن يثق ومن ينصره من بعده، فإذا قام العبد بالحق لله وبالله على نفسه وعلى غيره كان مؤيدا منصورا محفوظا، ولو كاده من كاده، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره، ولا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره حتى يكون أول قائم به على نفسه، ومن كان قيامه في باطل لم ينصر، وإن نصر نصرا عارضا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول، ومن كان قيامه في حق ابتغاء حظ دنيوي ولم يقم فيه لله لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق، ومن كان قيامه في الحق لله لكنه معتمد على نفسه متوكل على حوله وقوته دون الله تعالى فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك جزاءا وفاقا.

والمقصود أن العبد حين يطلب التقرب لله تعالى قبل فعل أي شيء لا بد من أن يراعي أمورا ثلاثة، فينظر هل هو طاعة لله أم لا، فإن كان طاعة فلا يقدم عليه حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا، فإن لم يكن معانا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه، وإن كان معانا عليه أتاه من طريقه التي يحبها الله ورسوله، وهذه الأمور أصل سعادة العبد وفلاحه وهي معنى قول العبد ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ?، فمن قام بها سعد ومن حرمها شقي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

وعلى العبد أن يوقن بأسماء الله تعالى ومقتضاها، فيعبد الله باسمه الأول والآخر والظاهر والباطن، قال تعالى: ? هُوَ الأوَّلُ وَالآخر وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ?، وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، فعبوديته باسمه الأَول تقتضى التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، فلا يتعلق قلبه بها وإن تعلقت بها جوارحه، وأن يجعل نصب عينيه سبق فضله ورحمته سبحانه ويتوكل عليه وحده، وأَنه هو المبتدئ بالمن والإِحسان من غير سبب من العبد، فهو سبحانه الذي أوجد العبد وقد أَتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده، وأما عبوديته باسمه الآخر فإنها تقتضى عدم ركون العبد ووثوقه بالأسباب وعدم التعلق بها فإنها لابد وأن تزول ولا يبقى إلا الدائم الباقي الحي الذي لا يموت ولا يزول ولا يفنى، وكل شيء هالك إلا وجهه، فإِنه إِلى ربك المنتهى، وليس وراءَه مرمى، وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء، فإِذا تحقق العبد علو الله المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه فوق كل شيء، وأَنه قاهر فوق عباده، يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه، ? إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ?، صار لقلبه أَملاً يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه، وصمداً يصمد إِليه في حوائجه وملجأً يلجأُ إِليه، وانصرف عن كل من سواه ولم يبالِ بمن هو دونه سبحانه، وأَما عبوديته باسمه الباطن فهي من باب معرفة العبد بإِحاطة الله عز وجل المطلقة بكل شيء، وأَن العوالم كلها في قبضته، وأَن السموات السبع والأَرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى: ? وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ ?، وقال: ? واللهُ مِنْ وَرَآئِهِمْ مُحِيطُ ?، وهو سبحانه أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو قرب عام، غير القرب الخاص كقرب المحب من حبيبه، وقرب الله من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ ?، فلا يخفى عليه شيء ولا يتوارى عنه، ولا يحجب عنه، ولا يغيب عنه، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فالموحد الحق هو من آمن بهذه الأسماء وحقق يقينه بها وعمل وفق مقتضاها لله وبالله محققا قوله تعالى: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?.

 

فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله تعالى، فعبده بإخلاص دون أن يشرك به شيئاً كان موحداً خالصا، ومن توحيد الله وعبادته: التوكل عليه والرجاء له والخوف منه بعيدا عن الكبر والعجب والرياء، فهذا يخلص به العبد من الشرك، وإعطاء الناس حقوقهم وإنصافهم والإحسان إليهم، وترك البغي والعدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم ومن الشرك بهم، فبطاعة ربه واجتناب معصيته: يخلص العبد من ظلم نفسه وقد قال تعالى في الحديث القدسي: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ومن عظيم كرم الله وسعة رحمته أن يعود نفعهما إلى العبد، وكما في الحديث الذي رواه الطبراني في الدعاء: يا عبادي إنما هي أربع واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي فالتي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئاً، والتي لك: عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: فمنك الدعاء وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأت إليهم ما تحب أن يأتوه إليك [ضعيف].

والعبد إذا طلب العبادة لابد أن يكون موقنا أنها نافعة له، محصلة لسعادته واطمئنانه ورضا ربه، كاشفة لغمه وكربه، واقية له من عذاب ربه وسخطه، فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، فمن عبد الله لا يشرك به شيئاً: أحبه الله وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعم تبعاً لمحبوب الرب.

 

فالرب سبحانه يحب أن يحب، ومن لوازم ذلك أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به ومن لوازم ذلك محبته لعبادة ربه، فمن عبد الله وأحسن إلى الناس ابتغاء مرضاة الله كان قائما بحقوق الله وحقوق عباده، ومن طلب من العباد العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك من حظوظ النفس لم يكن محسناً إليهم لله ولا إلى نفسه وإن ظهر غير ذلك، ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم في الله كان محسناً إلى الخلق وإلى نفسه، فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم يقينا، لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله، وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم، فإن طبع النفس حب العلو على غيرها والظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يعلو عليها ويظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم إذا علا وقدر، مهين ذليل إذا عُلي عليه وقهر، فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك، وهذا مما يوقع الفتن بين الناس.

 

وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم وإن نال منهم شيئا لابد وأن يكون ناقصا، فلا بد أن يبغضهم على عدمه أو نقصانه فيظلمهم إذا لم يستقر خوف الله عز وجل في قلبه، وما أكثر هذا في الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضاً ويرجو بعضهم بعضاً، ويسعون في ظلم بعضهم بعضا، فهم ظالمون لأنفسهم، مقصرون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصي وحتى الكبائر، كالشرك والقتل والزنا، وقد جمعها الله سبحانه في قوله: ? وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ?، وهذه الثلاثة يدعو بعضها إلى بعض، فالشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه، قال تعالى: ? كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ?.

 

فالإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولا سيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وتطمئن به وتسكن إليه وتأنس به؛ فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب الخمور وتعاطي المخدرات وأكل الربا والرشا وقول الزور، والجري مع النفس أينما ساقته والهزل واللعب ومخالطة قرناء السوء والبطالة ومجالس الغيبة والنميمة وغير ذلك مما يحط صاحبه في الأسفل ويكسبه الذم واللوم، ولا يستغني القلب ويتحرر من عبودية الخلق وهوى النفس إلا بعبادة الله تعالى وتوحيده في حبه وخوفه ورجائه، فلا بد له من الفرار إلى الله تعالى، كما قال سبحانه: ? فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ?.

 

ومن عرف أن المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد لا يكون إلا بمشيئة الله وحده، وكذلك المحبوب والمرغوب الذي يفر إليه العبد لا يكون إلا بمشيئة الله وحده، وإذا تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وأعوذ بك منك وقوله: لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، فإنه ليس في الوجود شيء لا يفر منه إلا إليه ولا يستعاذ منه إلا إليه ولا يلتجأ منه إلا إليه، إلا الله، فالفار والمستعيذ فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، وتحقيق هذا يوجب للعبد إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء، وانقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة، فلا يبقى في القلب التفات إلى غيره.

 

وكما أن الغنى وصف ذاتي لله تعالى، فإن الإنسان فقره وصف ذاتي له، فقد خلق محتاجاً دائما إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائماً ما دامت الروح في جسده، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به فتستريح عنده، وليس ذلك إلا لله وحده؛ فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن النفوس إلا إليه، فإذا دخلها غيره فسدت حتما، و? لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ?للَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَنَ ?للَّهِ رَبِّ ?لْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?، فكل مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بتجريد التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد من الأنس بالناس ومساكنتهم، وعلى قدر صيانتك لسرّك وإرادتك يكون حفظه، وملاك ذلك صحة التوحيد ثم صحّة العلم بالطريق، ثم صحة الإرادة ثم صحة العمل، والحذر كل الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يعثروا على موضع غرضك فإنها الآفة العظمى.

 

فإذا خرج إخلاص الدين لله من القلوب دخلها غيره من الآلهة التي يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم؛ فاستعانت بغير الله مما ظنته شريكا أو شفيعا أو ظهيرا دون برهان من الله لجهلها بسعادتها التي تنالها بعبادة خالقها والاستعانة به وحده والإخلاص له سبحانه؛ فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبالاستعانة به تستغني عن الاستعانة بالخلق، وإذا لم يكن العبد كذلك كان مذنباً محتاجاً، وإنما غناه في طاعة ربه، وهذا حال الإنسان؛ فإنه فقير محتاج دائما، وهو مع ذلك مذنب خطاء فلا بد له من ربه، ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه، قال تعالى: ? فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَ?هَ إلا ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَ?تِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ?، فبتوحيد الله يقوى العبد ويستغني عن سواه، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، وبالاستغفار يغفر له ويوق العذاب، قال تعالى: ? وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ?؛ والله تعالى لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه.

 

قال تعالى: ? إِنَّمَا ذ?َلِكُمُ ?لشَّيْطَ?انُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ?، وقال تعالى: ? إِنَّآ أَنزَلْنَا ?لتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ?لنَّبِيُّونَ ?لَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَ?لرَّبَّانِيُّونَ وَ?لاَْحْبَارُ بِمَا ?سْتُحْفِظُواْ مِن كِتَ?بِ ?للَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ?لنَّاسَ وَ?خْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَ?تِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَ?ئِكَ هُمُ ?لْكَ?فِرُونَ ?، فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهى عنه، كما نهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته والرهبة منه سبحانه، وقال: ? ?لَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَال?تِ ?للَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ?للَّهَ وَكَفَى? بِ?للَّهِ حَسِيباً ?، وقال: ? وَقَالَ ?للَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِل?هَيْنِ ?ثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِل?هٌ وَاحِدٌ فَإيَّ?يَ فَ?رْهَبُونِ ?.

 

وبعض الناس يقول: يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك، فهذا كلام ساقط لا يجوز؛ بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحداً، ومن لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فإذا قيل قد يؤذيني قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له عليك، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله من قبل ومن بعد؛ وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل ظالم ولم يسلطه عليك، فإنه قال: ? وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلِّ شيء قَدْراً ?، وتسليطه عليك يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه وهو عقوبة لك وعذاب واقع عليك، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته لم يسلطه عليك بل يرد عنك كل سوء ويرفع عنك العذاب ويحفظك ويدافع عنك فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، كما قال: ? وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ?للَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ?، وفي الآثار: يقول الله: أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فمن أطاعني جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك؛ ولكن توبوا إليَّ وأطيعون أعطفهم عليكم، ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: ? أَوَ لَمَّا أَصَ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلِّ شيء قَدِيرٌ ?.

 

قال الله تعالى: ? وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ?، فلا يطلب شيء إلا ممن عنده خزائن كل شيء ومفاتيح تلك الخزائن بيديه لا بيد غيره، وقال تعالى: ? وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ? فكل مراد إن لم يرد لأجله كان مضمحلا منقطعا، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل مخوف سواه فخوفه شر وعقاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل وسراب، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي وخراب، يحول بينه وبين سعادته وفلاحه حجاب، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى، والخلاصة أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد بيده كل شيء وإليه المنتهى، وكما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين فإنه يستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه كل ما قدمه وخانه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بالوصول إليه والنظر إلى وجهه الكريم وبجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وسعد أبد الآباد، والله أعلم وأحكم.

 

اللهم ربنا فاطر السموات والأرض أنت ولينا في الدنيا والآخرة أحينا على التوحيد وتوفنا على التوحيد وألحقنا بالصالحين، والحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله‏، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.


"
شارك المقالة:
31 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook