التوسع البابلي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
التوسع البابلي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

التوسع البابلي بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
 
تعرضت مناطق متفرقة في شمالي الجزيرة العربية وشماليها الغربي لعدد من الحملات الحربية التي قادها حكام بابل وآشور ضد القبائل والممالك العربية في الأجزاء الشمالية من الجزيرة العربية، على إثر تزايد الهيمنة البابلية والآشورية في الشرق القديم مع مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وما طبع به حكام بلاد الرافدين من نـزعة توسعية في المناطق المحيطة بهم، وقد كانت حملات الحكام البابليين والآشوريين الحربية تتسم في بادئ أمرها بالغارات الخاطفة على المنطقة، وتعيين الحكام الموالين، أو إثقال كاهل الشعوب المحلية في شمالي الجزيرة العربية بدفع الإتاوات الكبيرة  ،  الأمر الذي تسبب في إضعاف حكامها وجعلهم غير قادرين على الوقوف في وجه السياسة التوسعية البابلية والآشورية في مناطقهم، وعلى الرغم من محاولاتهم المتكررة للتخلص من التبعية لحكام بلاد آشور وبابل  ،  إلا أن قوة الآلة الحربية الآشورية والبابلية وجبروتها لم تترك لهم فرصة سانحة للاستقلال التام بمناطق نفوذهم.
 
وعلى إثر سقوط الدولة الآشورية في بلاد الرافدين على يد الملك البابلي نبوبولاصر 725 - 605 ق.م، وتفرد الدولة البابلية بميزان القوى في المنطقة، واصل الحكام البابليون سياستهم التوسعية في شمالي الجزيرة العربية، ولكن تلك السياسة سرعان ما تحولت من مفهوم الغارات الخاطفة إلى الهيمنة المباشرة، وهذا ما حدث بالفعل إثر وصول الملك البابلي نبونيد إلى دفة حكم الدولة البابلية في عام 556ق.م الذي استبدل تطبيق مبدأ الاحتلال المباشر والإقامة في المناطق المحتلة بدل سياسة أسلافه.
 
ولم يمض سوى سنتين من تولي نبونيد مقاليد الحكم في بابل حتى أقدم في مطلع السنة الثالثة على التوجه على رأس حملة نحو الأجزاء الشمالية الغربية من الجزيرة العربية، واتخذ من (تيماء) في شمال غربي الجزيرة العربية مركزًا لإقامته في المنطقة، كما يؤكد ذلك نص (نبونيد - كورش) الذي معناه:  
 
"وهو (نبونيد) شق طريقًا بعيدًا، وحال وصوله، قتل يَتَر ملك مدينة تيماء بالسلاح، وأراق (دماء) أنعام أهل المدينة (أي مدينة تيماء) وأنعام أهل المناطق المحيطة بها، أما هو نفسه فأقام في تيماء، ومعه أقامت القوات الأكدية، وجمَّل المدينة (تيماء)، وبنى قصرًا مشابهًا لقصر بابل، وبَنَى..... وأودع ثروة المدينة (أي مدينة تيماء) وثروة المنطقة المحيطة بها فيه..... والحرس يحيطون به..... ويتحسرون (أي أهل تيماء) بصوت عالٍ..... وجعلهم (أي أهل تيماء) يحملون اللبن (الآجر) والسلال، من جراء العمل.....".
 
ويتضح من رواية النص أن نبونيد قصد في بادئ حملته مدينة تيماء في شمال غربي الجزيرة العربية، ولكن أهدافه لم تتحقق باحتلاله لتيماء وتحصين نفسه فيها، بل أغار منها على عدد من المراكز الحضارية التي تقع في إطار حدود منطقة المدينة اليوم، وهي حسب إشارة نص نبونيد نفسه الذي معناه:   (وأنا خرجت من مدينتي بابل، وسلكت طريقي إلى مدينة تيماء، ثم مدينة دادان، ثم مدينة فدك، ثم مدينة خيبر، ثم مدينة يديع وحتى مدينة يثرب، عشر سنوات (متتالية) تجولت بينها، مدينتي بابل لم أدخلها).
 
وينبئ مضمون النص أن نبونيد وجه من مقر إقامته الدائم في تيماء غارات متتالية على عدد من الحواضر التاريخية في منطقة المدينة المنورة، هي: دادان  ،  ثم فدك   وخيبر ويديع   ثم يثرب  ،  وتمكن من الاستيلاء عليها، وأخذ طوال مدة إقامته التي استمرت عشر سنوات متتالية يتجول بينها ولم يبرحها قط إلى عاصمة ملكه في بابل التي أناب عنه فيها ابنه وولي عهده بيلشاصر، أي أن تلك الحواضر في شمالي وشمال غربي الجزيرة العربية كانت إبان إقامة نبونيد في المنطقة خاضعة لسيطرته وإشرافه المباشر. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الأسباب الكامنة وراء احتلال نبونيد لجميع تلك البلدان، ولماذا لم يكتف باحتلال تيماء وحدها؟
 
لقد انشغل الباحثون وما زالوا يسعون إلى محاولة التعرف على الأسباب الجوهرية لترك نبونيد عاصمة حكمه في بابل وخروجه منها ليتخذ من تيماء في شمال غربي الجزيرة العربية عاصمة ثانية لإدارة مملكته المترامية الأطراف آنذاك، وقد تراوحت آراء الدارسين في تبرير خروج نبونيد وتوسعه في الأجزاء الشمالية من الجزيرة العربية بين أسباب دينية أو سياسية أو اقتصادية  .  ولكن المرء حينما يقارن بين تلك الأسباب ويناقشها ضمن إطار السياق التاريخي العام، وما واكب تلك الفترة الزمنية من أحداث تاريخية في بلاد بابل، يبدو له أن الأسباب الاقتصادية هي التي جعلت نبونيد يتوسع في الأجزاء الشمالية والشمالية الغربية من الجزيرة العربية ويقدم على احتلال حواضرها، فمن المعروف من خلال رواية النصوص البابلية نفسها أن الدولة البابلية كانت - آنذاك - تعـيـش أزمة اقتصـادية تفشى خلالها الفقر في أوساط المجتمع، ما أدى إلى تزايد تدهور الأوضاع السياسية في أرجاء مملكة نبونيد  ،  ومن أجل إيجاد حلول لفك تلك الأزمة لم يجد نبونيد بدًا من الخروج من عاصمة ملكه على رأس جيشه إلى حيث المناطق الحيوية التي من شأن السيطرة عليها وتوجيه مواردها إلى مملكته فك الخناق الاقتصادي الذي كانت تعيشه آنذاك، وهكذا وقع اختيار نبونيد على مناطق شمالي الجزيرة العربية، تلك المناطق التي كانت - حسب رواية الشواهد التاريخية - خلال الألف الأول قبل الميلاد تشهد ازدهارًا اقتصاديًا، فقد كانت حواضر تلك المنطقة في يثرب (المدينة المنورة)، وخيبر، ودادان (العلا حاليًا) مراكز تجارية ومحطات رئيسة على الطريق التجاري القديم (طريق البخور) الذي كانت تنقل عبره البضائع التجارية من الهند وشرق إفريقية وجنوب الجزيرة العربية إلى مناطق الاستهلاك في بلدان شرق المتوسط وغربه، وقد كان سكان تلك الحواضر في شمال غربي الجزيرة العربية بحكم توجيه اهتمامهم إلى نقل البضائع التجارية وتسويقها في أنحاء متفرقة من العالم القديم يحكمون سيطرتهم التامة على توجيه توزيع تلك البضائع التجارية في الأسواق التي كانت تحقق لهم أكبر قدر من العوائد الربحية، فكان تركيزهم على ما يبدو على أسواق بلاد الشام ومصر  ،  الأمر الذي حرم بلاد بابل من تدفق البضائع التجارية إلى أسواقها وما يترتب عليه من انتعاش اقتصادي تعم فوائده جوانب حياتية مختلفة  
 
ومن المرجح أن نبونيد كانت تحدوه - آنذاك - رغبة في توجيه مسار الحركة الاقتصادية الدولية والسيطرة عليها وتوظيفها في خدمة مصالح دولته، وهذا ما تحقق له إثر احتلاله مدن تيماء، دادان، يثرب، خيبر، وفدك ويديع، تلك الحواضر التاريخية التي كانت تمثل عنق الزجاجة لمسار الطريق التجاري القديم، ومن يحكم سيطرته عليها يمكنه التحكم في مسار حركة التجارة الدولية في الشرق القديم.
 
وعلى ما يبدو من رواية نص الملك البابلي نفسه فإن نبونيد تحققت له السيطرة على موارد تلك البلدان في شمالي الجزيرة العربية طوال عشر سنوات متتالية استمرت من عام 553 ق.م حتى اضطر إلى ترك بلدان شمالي الجزيرة العربية عائدًا إلى عاصمة ملكه في بابل عام 543 ق.م  . 
 
شارك المقالة:
275 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook