وقد قيل: إنه سمي قلبًا من تقلبه؛ وكان أَكْثَر مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: ((لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ))؛ [رواه البخاري، 7391].
قال النووي رحمه الله: معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة، كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أنه يمسي مؤمنًا ثم يصبح كافرًا، أو عكسه، شك الراوي؛ وهذا لعظم الفتن ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، والله أعلم.
نصوص كثيرة توضح لك خطورة أمر القلب وسرعة تقلبه وسهولة فتنته؛ لذا العاقل يبحث عن مثبتات تثبته؛ كي يلقى الله بقلب سليم ثابت.
المثبتات على الدين:
1- الاستعانة بالله والدعاء؛ قال تعالى: ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? [الفاتحة: 5]، ثم قال بعدها: ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ? [الفاتحة: 6]؛ قال ابن كثير رحمه الله:
فالذي ثبت النبي هو الله، ولولاه ما ثبت، والذي يثبت المؤمنين هو الله، ولولاه لم يثبتوا؛ قال تعالى: ? يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ? [إبراهيم: 27].
قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه يثبت عباده المؤمنين؛ أي: الذين قاموا بما عليهم من إيمان القلب التام، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويثمرها، فيثبتهم الله في الحياة الدنيا عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومراداتها.
وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين، للجواب الصحيح، إذا قيل للميت: ((من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟))، هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي.
? وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ? عن الصواب في الدنيا والآخرة، وما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم، وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه، ونعيمه، كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، وصفتها، ونعيم القبر وعذابه.
ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون، ويقولون: ? رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ?؛ أي: لا تملها عن الحق جهلًا وعنادًا منا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك، وعافنا مما ابتليت به الزائغين، ? وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ?؛ أي: عظيمة، توفقنا بها للخيرات، وتعصمنا بها من المنكرات، ? إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ?؛ أي: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان الذي عم جودك جميع البريات.
فمجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها، وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم بسبع صفات؛ هي عنوان سعادة العبد: إحداها: العلم الذي هو الطريق الموصل إلى الله، المبين لأحكامه وشرائعه، الثانية: الرسوخ في العلم وهذا قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالمًا محققًا، وعارفًا مدققًا، قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه، فرسخ قدمه في أسرار الشريعة علمًا وحالًا وعملًا، الثالثة: أنه وصفهم بالإيمان بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه، بقوله: ? يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ?، الرابعة: أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتُلي به الزائغون المنحرفون، الخامسة: اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية؛ وذلك قوله: ? رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ?، السادسة: أنهم مع هذا سألوه رحمته المتضمنة حصول كل خير، واندفاع كل شر، وتوسلوا إليه باسمه الوهاب، السابعة: أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه، وهذا هو الموجب للعمل، الرادع عن الزلل?.
لذلك كان يكثر إمامُ الراسخين في العلم النبي صلى الله عليه وسلم من دعاء: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)).
أين نحن من أدعية القرآن والسنة، العبد الموفق هو من يوفق لسانه وقلبه لأدعية وأذكار الكتاب والسنة.
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ? كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ? لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن، ازداد طمأنينة وثباتًا، وخصوصًا عند ورود أسباب القلق، فإن نزول القرآن عند حدوث السبب يكون له موقع عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلًا قبل ذلك، ثم تذكره عند حلول سببه.
قال الطبري: ? لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ?: لنصحح به عزيمة قلبك، ويقين نفسك، ونشجعك به.
? لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ? عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتًا بعد وقت، فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئًا فشيئًا، حتى يكون إيمانُهم أثبتَ من الجبال الرواسي.
ما أجمل كلماتك يا ابن مسعود: ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع!
قال النووي رحمه الله: معناه: أن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعلقه وتدبره بوقوعه في القلب.
3- قراءة السيرة والقصص؛ قصص القرآن والأنبياء، والقصص الواقعية والاعتبار بها.
ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: أحدها: الخيرية في قوله: ? لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ?؛ أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أُمروا بها؛ أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار؛ لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده، الثاني: حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد، فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر، أو للرضا، أو للشكر، فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر، وأيضًا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات، الثالث: قوله: ? وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ?؛ أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الرابع: الهداية إلى صراط مستقيم، وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير، واندفع عنه كل شر وضير.
قال أبو جعفر الطبري: (اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك، فقرأته عامتهم، (فأزلَّهما) بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك: زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه، وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال: فأخرجهما؛ يعني: إبليس، مما كانا فيه؛ لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.
وقرأه آخرون: (فأزَالهما)، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.
فكان سببًا لعنه الله في زللهما وإزالتهما عن الجنة بخطواته الخبيثة.
قال السعدي رحمه الله: فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناوُلَ ما نُهيا عنه، حتى أزلهما؛ أي: حملهما على الزلل بتزيينه، ? وَقَاسَمَهُمَا ? بالله ? إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ? [الأعراف: 21]، فاغترا به وأطاعاه؛ فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.
8- ترك الظلم للنفس والآخرين:
قال تعالى بعد ذكره لثبات المؤمنين: ? وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ? [إبراهيم: 27]؛ بسبب ظلمهم لم يثبتوا، وبسبب زيغهم أزاغ الله قلوبهم، ولا يظلم ربك أحدًا.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.