الثقافة بمدينة مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية.
احتفظت منطقة مكة المكرمة بصلتها بالثقافة العربية والإسلامية، وبتواصلها مع العالم الإسلامي منذ أن شع فيها نور الإسلام، ففيها يوجد حرم الله الذي تهوي إليه أفئدة المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها، حيث يلتقي فيه طلاب العلم، ويفيض بعضهم على بعض من علومهم، كما تعقد فيه الحلقات
وأصبح المكثُ في المسجد الحرام، وقرب بيته العتيق بمكة المكرمة يكسب صاحبه ألقًا من إشعاع الجوار والالتصاق بالبيت العتيق؛ فسجل التراث الإسلامي ذلك في صفة المجاورة، وما يشتق منها، وأصبحت صفة مميزة في سير كثير من العلماء، وذكرًا يسير في أخبارهم "فأصبحت لهم ألقاب متنوعة يعرفون بها، وعناوين يتميزون بها شرفًا، مثل: إمام الحرمين، جار الله، المكي" . وحين نقرأ مثلاً ترجمة إبراهيم بن محمد الطبري، فإننا نجد فيها ذكر المجاورة، وصفة المكي، واللقاء مع العلماء الوافدين إلى البيت الحرام، والشعور بجلال العلم الذي يتلقاه تجاه الكعبة، إذ نقرأ "الشيخ الفقيه المحدث الراوية، جار الله تعالى، إمام المقام الشريف، رضي الدين، أبوإسحاق إبراهيم بن أبي بكر الطبري الشافعي المكي، ومولده بها في سنة ست وثلاثين وستمئة، أخذ عن جماعة من العلماء ببلده من أهلها والوافدين عليها قراءة وسماعًا، وجل ذلك تجاه الكعبة المعظمة... "
وبذلك كانت مكة المكرمة ملتقى للدرس والإنتاج العلمي يرد إليها الوافدون بعلمهم، ويزدادون علمًا بمن يلقون من علمائهم ومن المجاورين والوافدين من الأصقاع الإسلامية الأخرى، فكانت ملتقى فكريًا ينشط في موسم الحج ويستمر بعده بفعل ظاهرة المجاورة، والرغبة في نـزول مكة المكرمة لطلب العلم أو التدريس بالمسجد الحرام، ذلك الأمر الذي يؤول أحيانًا إلى إقامة دائمة
وكان تلقي العلم وإلقاؤه بمكة المكرمة أمرًا يسجل ويحفظ لأهله في ذكر سيرهم وتراجمهم، فيقال: لقي فلانًا بمكة المكرمة... وسمع منه كذا أو سمع منه فلان، أو كتب عنه فلان، أو جماعة أو غير واحد
وهيأت هذه الحال لمكة المكرمة العناية بأمور الدرس والتعليم، وجاوز ذلك إلى أن بث في شبيبتها التوق إلى الإبداع الأدبي، والإنتاج الفكري، وأن يجد ذلك من الملك عبدالعزيز وأبنائه من بعده عونًا وتشجيعًا، وتأسيسًا لمراكزه، وتهيئة لتفاعله وتواصله مع التراث، ومسايرة لما يتطلبه هذا العصر من التطوير البناء، وسيكون الحديث عن ذلك في المراحل الآتية:
المرحلة الأولى
تمتد منذ دخول الملك عبدالعزيز الحجاز عـام 1343هـ / 1924م حتى عـام 1395هـ / 1975م، وتتميز هذه المرحلة بالتحمس للنهضة، واتخاذ الكلمة والفكر دعوة لذلك، والتوق إلى إعادة المكانة الثقافية والأدبية لمنطقة مكة المكرمة ورموزها ذات التاريخ الأدبي، والشعور بالمسؤولية التي أملاها الانتماء الروحي للمكان، والتاريخ الثقافي، والوحدة الوطنية، ووحدة الهم مع العالم العربي والإسلامي، كما تتميز بالحوار الذي أظهرته وأثارته صحافة الأفراد، وبما هيأه التعليم العام والعالي من كوادر بنت الفكر والثقافة
المرحلة الثانية
وتمتد منذ عام 1395هـ / 1975م حتى عام 1410هـ / 1990م، وتتميز هذه المرحلة بتأسيس الأندية الأدبية الثلاثة في منطقة مكة المكرمة، وفرعين للجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في كل من الطائف وجدة، وبالنمو في إصدار الكتب عبر المؤسسات الحكومية أو دور النشر، وقد شهدت تلك المرحلة إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وجامعة أم القرى في مكة المكرمة والطائف، وما تهيأ من عقد المؤتمرات والندوات، وإصدار الدوريات
المرحلة الثالثة
وتمتد منذ عام 1411هـ / 1991م حتى عام 1425هـ / 2004م، وتتميز هذه المرحلة بالدخول في علاقات متغيرة في المنطقة وفي العالم، وفي حدوث مد إعلامي خارجي، وسعي إلى حضور في هذا المد، واستنفار القدرة الإبداعية والفكرية، وتجاوز الإبداع الحدود عبر المشاركة في المعارض والمنتديات الأدبية والثقافية، ونشر بعض المبدعين أعمالهم خارج البلاد، كما تتميز بنشوء الصالونات الأدبية