الجهل والغفلة عن الحق والافتتان بالباطل

الكاتب: المدير -
الجهل والغفلة عن الحق والافتتان بالباطل
"الجهل والغفلة عن الحق رغم وضوحه
والافتتان بالباطل




الجهل من الأسباب الرئيسة، في الانصراف عن الحق ورده والبعد عنه، فالجهل والظلم هما أصل كل شر، والعلم والعدل أصل كل خير[1].




وعند الإطلاع على سير الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم، يظهر أن سبب مخالفة كثير من أقوامهم وإعراضهم هو: الجهل، كما قال تعالى عن قوم نوح عليه السلام: ? وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ? [2]،وعن قوم صالح عليه السلام ? قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ? [3]، أما بنو إسرائيل فقد ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ? [4].




والجهل هو ذات السبب الذي به سأل مسلمة الفتح الرسول صلى الله عليه سلم أن يجعل لهم شجرة بخصوصها يعلقون عليها أسلحتهم ومتاعهم، فأنكر عليهم ذلك[5]، كما روى أبو واقد الليثي رضي الله عنه، فقال: (أن رسول الله صلى الله عليه سلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم))[6].




فالجهل من أعظم الأسباب الصادة عن سبيل الله، والمؤدية في الوقوع في المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان[7].




قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأصل ما يوقع الناس في السيئات هو عدم علمهم بكونها تضرهم ضررا راجحا، أو ظن أنها تنفعهم نفعاً راجحاً، ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: (كل من عصى الله فهو جاهل)، ولهذا يسمى حال فعل السيئات: الجاهلية فإنها يصاحبها حال من حال الجاهلية[8].




ويقول في موضع آخر: (وأما السيئات، فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها، ولا يترك حسنة واجبة، إلا لعدم علمه بوجوبها أو لبغض نفسه لها)[9]، ( والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، وإلا فصاحب الهوى إذا علم قطعا أن ذلك يضره ضرراً راجحاً، انصرفت نفسه عنه بالطبع، فإن الله تعالى جعل في النفس حباً لما ينفعها، وبغضا لما يضرها، فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً، بل متى فعلت كان لضعف العقل)[10].




وهذا الجهل مما صد قريشاً عن اتباع الحق، إذ أنهم لم يجهلوا حقيقة نبوته صلى الله عليه سلم، فقد كان عند بعضهم خبر بقرب مبعث نبي وقد حان زمانه، كما قال تعالى ? وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ? [11]، فقد كان اليهود يستنصرون بمجيئه صلى الله عليه سلم على أعدائهم من المشركين، ويقولون أنه سيبعث نبي في آخر الزمان يقتلونهم به قتل عاد وإرم[12].




وقد وقف أهل مكة والطائف على صحة خبر النبوة، فقد روي الحافظ ابن كثير رحمه الله خبر رؤية قريش وثقيف رمي النجوم، وظنهم أنه الفناء ، فقال لهم عبد يالِيل بن عمرو[13]: أن هذه النجوم خبر لظهور نبي . فما مكثوا إلا يسيرا، حتى قدم عليهم أبو سفيان، فتذاكر أمر النجوم مع عبد يالِيل، فقال أبو سفيان :ظهر محمد بن عبد الله، يدعي أنه نبي مرسل. فقال عبد يالِيل: فعند ذلك رمي بها[14].




وقد علم بعضهم يقينا صدق نبوته صلى الله عليه سلم، كما حصل مع أبي سفيان رضي الله عنه بعد لقاءه مع هرقل ملك الروم، حيث عبر أبو سفيان عما وقر في قلبه، بعد أن علم علامات النبوة من هرقل بقوله: ( فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام).




ومما يدل على علم بعض قريش بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ما روي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفا هنداً، وخرجت أسير أمامهما، وأنا غلام على حمارة لي، إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه سلم،- وصار أن أركبه أبو سفيان معهما- فدعاه الرسول صلى الله عليه سلم وزوجه إلى الإسلام، بعد ذلك أقبلت هند على أبي سفيان وقالت: ألهذا الساحر أنزلت ابني؟ فقال: لا والله ما هو بساحر ولا كذاب[15].




وعلمهم هذا لم ينفعهم، حين لم يثمر يقينا في صدورهم، ولم يبعثهم على الإيمان به، فصار كالجهل،( فالجهل نوعان: عدم العلم بالحق النافع، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه، فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعا وحقيقة)[16].




ومن ذلك، علم أبي طالب بصدق النبي صلى الله عليه سلم،‎ وما كان يتعاطاه من المحاماة والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الثناء، ما أظهره له من المودة والمحبة والشفقة، وهو في ذلك كله، صادق بار راشد ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه، وفرق بين علم القلب وتصديقه[17].




ومنشأ هذا الجهل، والبلاء العظيم من الشيطان، لا من مجرد النفس، فإن الشيطان يزين السيئات لها ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن[18]، وخاصة إذا وجد من الإنسان تعاميا وتغافلا وإعراضا عن الله[19]، كما قال تعالى ? وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ? [20].




ومن جهلهم فتنتهم بالأصنام، وتقديسهم وعبادتهم لها، وهي صنع أيديهم،(ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليهم وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها، وما حل بهم من عاجل العقوبات، ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها )[21] فأي جهل أبعد من ذلك؟.




ومما يدل على شدة اقتناعهم بباطلهم، مقالة سادن سواع لعمرو بن العاص، بأنه لا يقدر على هدمه، فقال له عمرو: ولم؟ قال: تمنع. فقال: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك هل يسمع أو يبصر. ثم هدمه، فقال السادن: أسلمت لله، لما علم أن الصنم لا يملك لنفسه شيئا[22].




وبفتح مكة وسقوط هذه الأصنام، زالت الحجب الكثيفة، التي غطت عقول أهل مكة وقلوبهم، وتعترف هند بنت عتبة بذلك وهي تضرب صنما لها في بيتها بالقدوم وتحطمه، وتقول: كنا منك في غرور[23].




ومن الجهل والتغافل عن الحق، اتباع رأي الأكثرية دون إعمال الفكر أو العقل في صحة هذا الرأي، فإن ارتفاع صوت الباطل وكثرة الناعقين به، قد يطمس على بصيرة من حولهم فيسيرون وراءه بلا تمييز، وقصة إسلام النضير بن الحرث[24] رضي الله عنه، تحكي شيئا من نماذج الجهل الناتجة عن العقلية الجماعية الغوغائية، يقول:-وكان من أعلم الناس- الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد، ولم نمت على ما مات عليه الآباء. لقد كنت أوضع مع قريش في كل وجه، حتى كان عام الفتح وخرج إلى حنين -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم -فخرجنا معه نحن، ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد، أن نعين عليه، فلم يمكننا ذلك، ولما صار بالجعرانه، فوالله إني على ما أنا عليه ، إن شعرت برسول الله، تلقاني بفرحة وقال: ((النضير)). قلت: لبيك. قال: ((هذا خير مما أردت يوم حنين))، فأقبلت إليه سريعا، فقال: ((قد آن لك أن تبصر ما أنت فيه))، فقلت: قد أرى. قال:(( اللهم زده ثباتا))، فوالذي بعثه بالحق، لكأن قلبي حجراً ثباتاً في الدين، ونصرة في الحق[25].




[1] بتصرف، اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم 1 /128، وانظر مدارج السالكين 3 /523، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2 /137، ووجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ص 169.

[2] سورة هود جزء من آية 29.

[3] سورة الأحقاف جزء من آية 23.

[4] سورة الأعراف جزء من آية 138.

[5] بتصرف، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 /205.

[6] سبق تخريجه ص 179.

[7] بتصرف، فتاوى شيخ الإسلام 14 /22.

[8] بتصرف، الحسنة والسيئة: شيخ الإسلام ابن تيمية ص 62، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط: بدون.

[9] المرجع السابق ص 56.

[10] المرجع السابق ص 61.

[11] سورة البقرة آية 89.

[12] بتصرف، تفسير القرآن العظيم 1 /178.

[13] هو عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، من سادة ثقيف وأشرافهم، وكان من النفر الذين عمد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى الطائف فردوا عليه ردا قبيحا، ثم كان رضي الله عنه سيد قومه بني ثقيف لما وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلمين. بتصرف، الإصابة 2/432، وانظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 2 /28، و 4 /194.

[14] بتصرف، البداية والنهاية 3/ 19.

[15] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وقال: حميد بن منبه لم أعرفه وبقية رجاله ثقات 6/21.

[16] مدارج السالكين 1 /470.

[17] بتصرف، البداية والنهاية 3 /126.

[18] بتصرف، الحسنة والسيئة ص 61.

[19] بتصرف، تفسير القرآن العظيم 7 /214.

[20] سورة الزخرف الآيتان 36- 37.

[21] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2 /225.

[22] سبق تخريجه ص 148.

[23] سبق تخريجه ص 150.

[24] هو النضير بن الحرث بن علقمة بن كلدة العبدري، كان من حكماء قريش، وهو أخو النضر بن الحارث الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله بعد قفوله من بدر، من المؤلفة قلوبهم، أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة من الإبل، فأتاه رجل من بني الدئل يبشره بها، فقال: والله ما طلبتها، فأخذها وأعطى الدئلي منها عشرة وقال: والله ما أحب أن أرتشي على الإسلام، ثم سكن المدينة، ثم خرج إلى الشام وشهد اليرموك وقتل بها. بتصرف، الإصابة 3 /558.

[25] الإصابة 3 /558.


"
شارك المقالة:
27 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook