الحكمة من إيلام الحيوانات والأطفال ووقوع الأمراض

الكاتب: المدير -
الحكمة من إيلام الحيوانات والأطفال ووقوع الأمراض
"الحكمة من إيلام الحيوانات والأطفال ووقوع الأمراض




الله سبحانه أحكم الحاكمين، ? فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ? [البروج: 16]، ? لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ? [الأنبياء: 23]، ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ? [المؤمنون: 71].




والله سبحانه خالقُ الخير والشر، ولا خالقَ إلا الله وحده، فإبليس أصل الشر خلقه الله لحكمة، منها اختبار الناس في هذه الدنيا؛ ليتبين من يطيع الله سبحانه ومن يتبع الشيطان وأعوانه؛ قال الله تعالى لإبليس: ? قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ? [الإسراء: 63]، وقال سبحانه: ? قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ? [ص: 84، 85].




والله سبحانه يبتلي الناس بالشر والخير فتنة؛ كما قال سبحانه: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ? [الأنبياء: 35]، فيبتلينا بالخير ليتبينَ الشاكرُ وغير الشاكر، ويبتلينا بالشر ليتبين الصابر وغير الصابر، ومن حكمة الله في خلقِهِ الشرَّ وأهلَه أن نستعيذ بالله من الشر الذي خلقه، وأن يتدافع أهل الحق وأهل الباطل إلى يوم القيامة؛ قال الله سبحانه: ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ? [الفلق: 1، 2]، فأمرنا الله أن نستعيذ بالله وحده من الشر الذي خلقه الله؛ كالشياطين والسَّحَرة، والمجرمين والحيوانات المفترسة، والأمراض المتنوعة والأفكار المنحرفة، والله هو الذي خلق كل ذلك وقدَّره فتنةً للعباد، حتى الكفار والمنافقين والمجرمين خلقهم الله ورزقهم، ويسَّر لهم الأسباب، فلم يشكروه، بل استعملوا تلك الأسباب فيما يُسخط الله عليهم وعلى من يطيعهم، فجعلهم ابتلاء للناس؛ قال الله سبحانه: ? هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ? [التغابن: 2]، وقال تبارك وتعالى: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ? [الأنعام: 112، 113]، وقال عز وجل: ? ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ? [محمد: 4]، وقد بيَّن الله لنا أنه لو شاء لهدى الناس جميعًا، لكن هذا ينافي حكمته من خلق الناس في الدنيا للاختبار؛ قال الله سبحانه: ? قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ? [الأنعام: 149]، وقال الله جل شأنه: ? وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? [المائدة: 48].




فكل شيء في الكون خلقه الله لحكمة، علِمها من علِمها، وجهِلها من جهِلها، ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ? [التين: 8]؟! حتى الخلافات والحروب والفتن قدَّرها الله لحكمة بالغة؛ كما قال سبحانه: ? وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? [هود: 118، 119]، وقال تعالى: ? وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ? [البقرة: 253]، وقال عز وجل: ? مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ? [آل عمران: 179].




وبعض الناس يسأل عن الحكمة من إيلام الحيوانات والأطفال، وهم غير مكلفين، وليس في مرضهم - مثلًا - تكفير لذنوب فعلوها، فما الحكمة من تقدير الله سبحانه إيلامهم بالأمراض وغيرها؟ وما الحكمة أصلًا من حصول الأمراض في هذه الدنيا؟




وقبل الجواب عن هذا السؤال العظيم؛ اعلم - أيها القارئ الكريم - أن الإنسان مهما بلغ علمه، فما يجهله أكثر مما يعلمه؛ قال الله سبحانه: ? وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ? [الإسراء: 85]، ويجب على المسلم أن يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، وإن لم يفهم حقيقته وحكمته، فعقولنا قاصرة عن فهم حقيقة كثير من الأشياء كالروح، فمهما أردنا أن نعرف حقيقتها فلن نزداد إلا حَيرة فيها؛ فإنها من أمر الله سبحانه، وكذلك القدر هو سرُّ الله في خلقه، ومهما بحثنا فيه بعقولنا القاصرة، عجزنا عن إدراك أسراره، فالقدر كالشمس لا يزداد الإنسان بالنظر إليها إلا ضعفًا في نظره، فعلينا التسليم بأن الله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين.




ويجب أن نعلم أن الرب سبحانه أفعاله كلها لحكمة، وهو لا يفعل شرًّا قط، بل أفعاله كلها خير وحكمة؛ كما قال تعالى: ? بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [آل عمران: 26]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك))؛ كما في صحيح الإمام مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فالله سبحانه لا يخلق شرًّا محضًا من كل وجه، بل كل ما خلقه الله، ففي خلقِهِ مصلحة وحكمة حتى في خلق إبليس حكمة، فما خلقه الله من شر فهو شر جزئي إضافي، وأما الشر الكلي المطلق من كل وجه، فهو تعالى منزَّه عنه وليس إليه، فمثلًا الطبيب حين يقرر شق بطن المريض لإجراء عملية جراحية أو قطع عضو فاسد من أعضائه، فهذا الشق أو القطع شر جزئي إضافي لهذا المريض، لكنه خير له في عاقبة أمره، وإن كان فيه ألم ومعاناة للمريض.




وتفصيل الجواب عن السؤال المذكور هو: أن الأطفال أو الحيوانات قد يَعْرِضُ لها النقص الذي هو شر في ابتداء خلقها أو بعد خلقها، فالأول بأن يعرض لمادتها من الأسباب ما يجعلها رديئة المِزاج، ناقصة الاستعداد، فيقع الشر فيها والنقص في خلقها بذلك السبب، كأن تُصاب الحامل بمرض يؤثر في نمو جنينها، فلا يقبل الجنين الكمال والتمام، وعدم قَبوله أمر عدمي، ونقصه والشر الذي حصل فيه هو من عدم إمداده بسبب الكمال، فبقيَ على العدم الأصلي؛ وبهذا يُفهم سر قوله تعالى: ? مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ? [الملك: 3]؛ فإن ما خلقه الله أمر وجودي به كمال المخلوق وتمامه، وأما عيبه ونقصه فمن عدم قبوله للكمال، وعدم القبول ليس أمرًا مخلوقًا يتعلق بفعل الفاعل، فالخَلْقُ الوجودي ليس فيه تفاوت، والتفاوت إنما حصل بسبب هذا الخلق؛ فالخالق سبحانه لم يخلق له استعدادًا للكمال، فحصل التفاوت فيه من عدم الخلق، لا من نفس الخلق، ومثال ذلك من وضع بذرة في تربة فاسدة، فهي لا تنمو لفساد المحل، أو وضعها في تربة مناسبة، لكن لم يأتِها ماء تنمو بسببه، والله سبحانه قدَّر كل ذلك لحكم كثيرة، فهو يبتلي عباده بالسراء والضراء، ويختبر صبرهم ويختبر شكرهم، والأطفال قد يبتليهم الله بما يشاء لحكمة بالغة، منها اختبار صبر آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم، وليعلم الناس أن الله يتصرف في عباده كيف يشاء، وأنه لا أحدَ يمنعه من تنفيذ ما يشاء في الصغير والكبير، والحيوان والإنسان، فما يصيب الأطفال من أمراض وعاهات، فلله فيها حكمة بالغة، منها أن يعلم الناس قدرته على كل شيء، وحتى يعرف من عافاه الله فضلَ نعمة الله عليه حين منَّ بالنعمة عليه بلا سبب منه، ولو شاء لابتلاه كما ابتلى غيره، وحتى يعرف من رزقه الله أولادًا سالمين فضلَ الله عليه فيشكره، وحتى يصبر من ابتلاه الله بأولاد فيهم أمراض فيصبر ويحتسب، فيكون له في ذلك الأجر العظيم على صبره واحتسابه، وإيمانه بقضاء الله وقدره.




وليعلمِ السائل عن حكمة الله سبحانه في إيلام الأطفال والحيوانات غير المكلَّفة، وإيقاع الأمراض المختلفة أن للإنسان والحيوان نفسًا متحركة بالإرادة والاختيار، وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة، وأن الشر منشأه من هاتين الحركتين، وقد خلق الله هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه، فهذه تتحرك لكمالها، وهذه تتحرك لكمالها، وينشأ عن الحركتين خير وشر، كما ينشأ عن حركة الرياح والماء والنار خير وشر، فمثلًا حركة الرياح فيها خير عظيم، ولكنها تكون لبعض الناس شرًّا فيمرض مثلًا بسببها، وكذلك نزول المطر فيه خير عظيم، ولكنه يكون شرًّا لبعض الناس والحيوانات كانقطاع طرق المسافرين، أو غرق بعض الناس والحيوانات في مياه السيول، فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات هي المقصودة لِذاتها، أو لكونها وسيلة إلى خيرات أعظم منها، والشرور الناشئة عنها غير مقصودة لِذاتها، فما جُبِلت عليه النفس من الحركة هو من لوازم ذاتها، وإن كان في إيجاد هذه النفس شرٌّ، فهو شر جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها، فوجودها خير من ألَّا توجد، فلو لم يخلقِ الله مثل هذه النفسِ، لكان في الوجود نقص وفوات حِكَم ومصالحَ عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس، فمثلًا بعض الحشرات خلقها الله غذاء لطيور وحيوانات أكبرَ منها، وهكذا، وكل مخلوق وإن دقَّ أو كان مرضًا، فقد خلقه الله لحكمة ومصلحة وإن لم نعلمها، ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ? [البقرة: 216]؛ ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا: ? أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ? [البقرة: 30]، أجابهم الله سبحانه بأن في خلق الإنسان من الحِكَم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة، والخالق سبحانه يعلمه، وقد تبين للملائكة بعد ذلك أن مِنَ الناس مَن صاروا صالحين عابدين لله، وعالمين بالله وشرعه، وحافظين لكتابه، ومكثرين لذكره، ومحسنين إلى خلقه، وإن كان منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فخلْقُ الله الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة، وإن كان وجوده مستلزمًا لشرٍّ، فهو شرٌّ مغمور بما في إيجاده من الخير العظيم، فكل ما خلقه الله لحكمة، وكذلك كل ما شرعه الله لحكمة، فما أمر الله به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجحة، وإن كان فيه شر فهو مغمور جدًّا بالنسبة إلى خيره، وما نهى الله عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجحة، والخير الذي فيه مغمور جدًّا بالنسبة إلى شره، فسُنَّته سبحانه في خلقه وأمره فعلُ الخير الخالص والراجح، والأمر بالخير الخالص والراجح، فإذا تناقضت أسباب الخير والشر قُدِّم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة، ولم يكن تفويت المرجوحة شرًّا، وكذلك تُدفَع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة، ولم يكن حصول المرجوحة شرًّا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنعه، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.




وإذا عرَفتَ ذلك، فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولُّدِها عن أمور لازمة لها، فمثلًا ولادة الإنسان أو الحيوان مصلحة عظيمة، ولا يكون ذلك إلا بمعاناة أمه عند حمله، وآلام شديدة عند وضعه، لكن الخير الحاصل غالبًا بتلك الولادة أرجح من تلك المفسدة، وهكذا كم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر! وكم في نزول المطر والثلوج من أذًى لبعض الناس! وكم في الحر والبرد من أذًى، مع أن فيها مصالحَ ومنافع عديدة! فلو كان الزمان كله فصلًا واحدًا، لفاتت مصالح الفصول الباقية، فالله قدَّر الليل والنهار، والشتاء والربيع، والصيف والخريف؛ لمصالح العباد، وإن تأذَّى أو تضرر بعض الناس من بعضها، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف والأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرُد الظواهر، ويستكثف الهواء، فيحصل السحاب والمطر الذي به حياة الأرض وأهلها، ويحصل اشتداد أبدان الحيوان وقوتها، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات، ويتنور الشجر بالزهر، وفي الصيف يسخُنُ الهواء فتنضَج الثمار، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان، وصفا الهواء وبرَد، وجنى الناس كثيرًا من الثمار والفواكه التي بدأ تكوُّنُ مادتها في الشتاء، ثم ظهرت في الربيع، ثم نضِجت أثناء الصيف، فيأكلونها وقت الخريف، ومن حكمة الله ورحمته أن جعل الخريف برزخًا بين حرارة الصيف وبرد الشتاء؛ لئلا ينتقل الجسم فجأة من الحر الشديد إلى البرد الشديد، فيعظم ضرره، فإذا انتقل الجسم إليه بتدريج لم يصعُبْ عليه، وكذلك الربيع جعله الله برزخًا بين الشتاء والصيف، ينتقل فيه الجسم من برد هذا إلى حر هذا بتدريج وترتيب، فمصالح العباد في الدنيا لا تكون إلا بالآلام، بل حتى الكمالات الإنسانية لا تُنال إلا بالآلام والمشاقِّ، كطلب العِلم والبناء والصناعات، وإذا كانت الآلام أسبابًا للذات أعظمَ منها وأدوم منها، كان العقل يقضي باحتمالها.




واعلم أن الأمراض ليست شرًّا محضا، ففيها فوائد كثيرة، فمن رحمة الله أنه جعل بعض الأمراض أسبابًا للصحة، ولولا تلك الآلام لاختلت صحة الإنسان، فمثلًا الحمى فيها منافع للأبدان من إذابة الفضلات وإخراجها مما لا يصل إليه دواء غيرها، وفي المرض تكفير لسيئات المسلمين والمسلمات، وفي المرض رفع درجات الصابرين، والمرض سبب عظيم لرجوع العبد إلى ربه، وتوبته من سيئاته، والمرض يعرف الإنسان بضعفه فيتواضع لربه، ويترك الكِبر والطغيان والغرور، والمرض سبب لتوكل العبد على ربه في طلب الشفاء بالدعاء، والأخذ بالأسباب المباحة من الأدوية التي يقررها له الأطباء، وإذا نزل الشفاء نفع الدواء، فيشكر المريض ربه على شفائه، فإن لم يَشْفِهِ حمِده على بلائه، وصبر ورضيَ بقضائه، وهذه فوائد خاصة للمرضى، ومن فوائد الأمراض العامة أنها سبب لرزق كثير من الناس، فبسبب الأمراض يرزق الله الأطباء والصيادلة، وأصحاب شركات الأدوية، والموظفين في المستشفيات والعيادات، فيسر الله أرزاقهم ببلاء غيرهم، ومصائب قوم عند قوم فوائد، ومن فوائد الأمراض العامة أنها سبب لموت كثير من الناس، وهذه حكمة عظيمة لتستمر الحياة في هذه الدنيا، فيذهب جيل، ويأتي بعده جيل آخر، وتنتقل الأموال من أناس إلى آخرين، وهكذا، فلو بقيَ الناس منذ آدم عليه السلام إلى يومنا بلا موت، لضاقت بالناس الأرض والأرزاق، فجعل الله بحكمته ورحمته الناس خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضًا، فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النِّعم؛ إذ هي أسباب استمرار حياة كل مخلوق إلى آخر أجله الذي قدَّره الله له بحكمته.




واعلم أن ما ينال الحيوانات غير المكلفة من الآلام والأمراض مغمور جدًّا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حر الصيف، وبرد الشتاء، وسقوط المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها، وغير ذلك من مصالحها، ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام، فسُنَّة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها، لعجزوا عن ذلك، فتبارك الله الحكيم الذي أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الحيَّ من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب، وأنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها، والحمد لله الذي جعل اللذة والسرور، والخير والنِّعم، والعافية والمصلحة والرحمة في الدنيا أكثر من المحن والبلاء، وإن أنكر الإنسان الكنودُ؛ قال الله تعالى: ? فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ? [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسرُ يسرَين؛ وهذا لأن رحمة الله غلبت غضبه، والخير في صفاته وأفعاله، والشر في مفعولاته لا في أفعاله، فأوصاف الله سبحانه كلها كمال، وأفعاله كلها خيرات، وقد أصلح الله الأرض وقسَّم فيها الأرزاق بحكمته ورحمته، وأمر الناس أن يأكلوا من رزقه ولا يُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولكنَّ كثيرًا من الناس خالفوا أمره وشرعه، فهم يفسدون في الأرض بالكفر والمعاصي، والظلم والطغيان؛ قال الله تعالى: ? ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? [الروم: 41].




وإن من حكمة الله أن فاوت في أرزاق الناس ليستقيم عيش الناس في الحياة الدنيا، ولا تتحقق مصالح الناس إلا بهذا التدبير الحكيم، فالله يرزق الناس بعضهم من بعض، ولو كان الناس كلهم أغنياء لا يحتاجون إلى الأموال لفسدت الأرض، فمن سيزرع ويحصد؟! ومن سيسافر لجلب التجارات من بلد إلى بلد؟! ومن سيبيع الأقوات وما يحتاجه الناس إليه؟! ومن سيبني ويعمل بالأجرة لغيره إذا كان كل إنسان عنده كفايته من المال؟! لكن من حكمة الله أن جعل الناس يحتاح بعضهم إلى بعض، وينتفع بعضهم ببعض، فهذا يحتاج إلى عمل هذا، وهذا يحتاج إلى مال هذا، وبهذا تستمر الحياة؛ قال الله سبحانه: ? نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ? [الزخرف: 32].




فتبين بهذا أن الله سبحانه لم يخلق الآلام والمشقات سدًى وعبثًا، وقد جعل الله في هذه الدنيا سننًا كونية يستوي فيها المؤمن والكافر، والصالح والفاسد، فمن زرع حصد، ومن سقط من مكان مرتفع مات أو انكسر، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، ومن تعرَّض لأسباب المرض مرِض، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، وسواء كان صالحًا أو فاسدًا، فهذه سنن كونية تجري على جميع الناس، وهي أسباب تؤثر في مسبباتها بإذن الله سبحانه، وهذه الدنيا جعلها الله دار ابتلاء وتعب ومشقة؛ كما قال تعالى: ? لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ? [البلد: 4]؛ أي: في تعب ومشقة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوانات لا يجوع ولا يعطش، ولا يتألم ولا يموت، لكانت هذه الدنيا دار الخلود، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارًا يمتزج ألمها بلذتها، وسرورها بأحزانها وغمومها، وصحتها بسُقمها؛ حتى لا يطمئن المؤمن إلى هذه الدنيا العاجلة، ويعلم حقيقتها وأنها فانية، فهي كالزهرة تسر الناظرين، ولكن سرعان ما تذبُل وتفنى؛ قال الله سبحانه: ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ? [الكهف: 45]، فالمؤمن لا يستحب الدنيا على الآخرة، فهو يعمل لدنياه وآخرته، ولا تشغله الدنيا عن عبادة ربه، وهمه أن ينجيه الله من عذاب الآخرة؛ كما قال تعالى معلمًا لنا أن ندعوه قائلين: ? رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [البقرة: 201]، وإذا مات المؤمن، فهو يعلم أن ثواب الله للمؤمن في الجنة خير وأبقى؛ قال الله تعالى: ? وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ? [آل عمران: 198]، وقال جل جلاله: ? وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? [القصص: 60].




هذا المقال مأخوذ غالبه من كتاب: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) (ص: 169، 182، 248 - 251)، وكتاب (مفتاح دار السعادة) (1/ 208، 209)، كلاهما لابن القيم رحمه الله تعالى.


"
شارك المقالة:
32 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook